فرصة روسيا التاريخية


شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن - العدد: 5027 - 2015 / 12 / 28 - 23:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


ما الذي يريده الروس من سوريا، وما الذي يريده السوريون من الروس؟ أين يتفقون، وأين يختلفون؟ هل من سبيل لتوحيد إرادتهم؟
وهل تستطيع روسيا ودول "الفريق الدولي لدعم سوريا" بمساعدة السوريين وقف النزاع فيها، و تطبيق مشروع اقتصادي حضاري تنويري عادل يفوق مشروع مارشال، والاستفادة من هذه الفرصة التاريخية لتحويل سوريا إلى منارة حضارة وتفدم؛ أم سينسحب الروس كالعادة من دون أن يحققوا شيئاً ملموساً؟
مفارقات تستدعي التأمل:
ثمة مفارقات في العلاقات الدولية تستدعي التمعن، منها العلاقة الملتبسة بين كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية مع مختلف دول العالم التي تقدمان لها ما تعتقدان أنه مساعدة.
من هذه المفارقات أنّ روسيا ـ التي ساهمت، بعد قيام الاتحاد السوفيتي، في بناء قاعدة مادية وصناعية متطورة في بلدان الاتحاد السوفيتي السابق بما فيها أغلب دول آسيا الوسطى وأوكرانيا، وساهمت في الحرب الأوربية (العالمية الثانية) في تحرير دول أوربا الشرقية من النازية والفاشية، وساعدت شعوب تلك الدول في إعادة بناء اقتصادها المدمر، فضلاً عن ارتباط شعوب عدد منها كبلغاريا وسلوفينا وصربيا وأوكرانيا التي تعرف تاريخياً بـ ماليا روس (روسيا الصغرى) بعلاقات دينية وإثنية وثقافية وثيقة مع الشعب الروسي ـ بقيت (روسيا) غريبة في تلك الدول، وبقي المزاج العام لشعوب تلك الدول مزاجاً غير ودود نحو روسيا، وخرجت روسيا من تلك البلدان خاسرة وكأنها مطرودة! وفي المقابل تمتاز علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع الدول التي ساهمت في تحريرها من الفاشية كفرنسا وألمانيا واليابان ـ على الرغم من استخدامها القنبلة النووية ضد اليابان ـ بالفائدة المتبادلة، وتجني الولايات المتحدة المزيد من الأرباح من علاقتها بتلك الدول!
وتسببت الحرب الأوربية (العالمية الثانية) بتدمير الاقتصاد الأوربي وانتشر الفقر والبطالة بشكل واسع، مما خلق الظروف المناسبة لانتشار الشيوعية... ولقطع الطريق أمام ذلك الحلم هبت الولايات المتحدة الأمريكية ـ التي لم تتضرر كثيراً من الحرب وصاحبة أقوى اقتصاد في العالم ـ للاهتمام باقتصاد تلك الدول كأهم عامل مؤثر في التطور الاجتماعي التاريخي، وأعلنت مشروعاً لإنعاش اقتصاد غرب أوربا عرف بمشروع مارشال: وهو المشروع الاقتصادي الذي وضعه الجنرال جورج مارشال عام 1947، وتقرر بموجبه استثمار 12.9925 مليار دولار أميركي تحت إشراف هيئة عرفت باسم "منظمة التعاون الاقتصادي الأوربي"...
يرى الباحثون الاقتصاديون أن الإدارة الأميركية، ومعها البرجوازية الأوروبية واليابانية، سعت في مشروع مارشال إلى تحقيق عدة أهداف، أهمها:
إعادة بناء رأس المال في أوروبا عموماً، وفي ألمانيا واليابان خصوصاً، واستغلال ضعف البنية الرقابية الاجتماعية والنقابية والسياسية، في هذين البلدين، وتميزهما بأكبر إمكانية للنمو لتحقيق أكبر عائد لرأس المال الأميركي وللبورجوازيتين الألمانية واليابانية... وامتد المشروع إلى باقي الدول الأوربية الغربية لإيقاف المدّ الشيوعي، وخاصة في فرنسا وإيطاليا، والسيطرة، في الوقت نفسه، على رأس المال في هذه البلدان.
وقد استغلت واشنطن مكانة الدولار كسيّد للعملات لتحقيق سيطرتها على الاستثمارات والمشاريع المنفذة في تلك البلدان، مقابل وعود بالتسديد بالدولار، ومقابل إعطاء الدائنين شهادات بتلك الوعود، مما جعل نسبة كبيرة من "برامج الإعمار" العملاقة في أوروبا واليابان، بمصانعها وشركاتها وأسواقها وعوائدها تابعة للاحتكارات الأميركية...
ويرى الباحثون أن مشروع مارشال ساهم في تعزيز موقع الولايات المتحدة الأمريكية في النظام الاقتصادي العالمي، مقابل الخسائر التي كانت تتكبدها روسيا...
ولاستكمال لوحة الخسائر الروسية، من الضروري دراسة الخسائر الكبيرة التي تكبدها الاقتصاد الروسي نتيجة السياسة الأيديولوجية التي كانت تتبعها روسيا لنشر النموذج الذي اعتقدت أنه اشتراكي، فقدمت المساعدات لبناء اقتصاد البلدان النامية والتي ذهبت بمعظمها إلى جيوب الفاسدين في تلك الدول، ومن ثم إلى المصارف الاحتكارية الأمريكية والغربية، وقي هذا السياق من الضروري عدم نسيان نتائج التدخل السوفيتي في أفغانستان، والذي نجمت عنه الحرب السوفيتية في أفغانستان التي دامت حوالي عشر سنوات ـ 1979 ـ 1988، نتيجة دعم مجموعة من الدول أهمها الولايات المتحدة الأمريكية، والسعودية، وباكستان للقوى التي قاتلت السوفيت، وتسببت بمقتل أو إعاقة أكثر من 2,5 مليون أفغاني معظمهم من المدنيين، كما شردت عدة ملايين آخرين، وخسر الجيش الروسي حوالي 14 ألف جندي، وانتهت بانسحاب الروس من أفغانستان انسحاباً لا يحسدون عليه، وانتقال السلطة إلى نظام طالبان الذي قدم دعمه الكامل لتنظيم القاعدة.
روسيا والعالم في حاجة إلى مفكرين كبار: تبين هذه الوقائع ضرورة قيام السياسيين والمفكرين الروس بمراجعة سياسة بلادهم بشكل نقدي موضوعي جريء ومعرفة الأسباب الكامنة وراء الفشل الذي يرافقها تاريخياً وما يتركه ذلك من آثار سلبية على روسيا وعلى مختلف دول وشعوب العالم، خاصة بعد عودتها الجديدة إلى الساحة الدولية كقطب مستقل... علماً أن غياب المفكرين الروس الحقيقيين الكبار يساهم في ارتكاب الأخطاء والفشل السياسي الذي استعرضنا بعض جوانبه أعلاه ـ ويمكن ملاحظة غياب وفقدان المفكرين الكبار في روسيا في سوء إدراك البنى والمؤسسات السياسية الروسية الحكومية والمعارضة من أحزاب وتنظيمات وهيئات سياسية مختلفة لمتطلبات التطور التاريخي للشعوب، ويتجلى ذلك، على سبيل المثال، في مواقفها الارتجالية والسطحية من الأحداث التاريخية التي فجرها الربيع والبركان العربي، إذ لم تستطع تلك البنى والمؤسسات إدراك أو استيعاب حقيقة التناقضات الاقتصادية الاجتماعية التي فجرت تلك الأحداث، ففسرتها تفسيراً سطحياً، وعزتها إلى المؤامرات الخارجية، وما زالت تلك البنى والمؤسسات والأحزاب بما فيها الحاكمة والمعارضة (الشيوعية، والقومية) تتباكى على سبيل المثال على الحكام الدكتاتوريين الذين أطاحت بهم شعوبهم، وتثير بعض تصرفاتها الاستغراب والخجل ـ... فروسيا والعالم في حاجة ماسة إلى مفكرين كبار لاستيعاب متطلبات التطور التاريخي واتخاذ المواقف السياسية والاقتصادية الصحيحة والمجدية لروسيا ولشعوب العالم...
هل تمتلك روسيا إستراتيجية في منطقتنا؟
يراقب الكثيرون وخاصة شعوب منطقتنا تصرف الروس بعد تواجدهم العسكري الكبير في المنطقة في مرحلة حساسة جداً من مراحل البركان العربي والملحمة السورية؛ لأن مواقفهم وسياستهم العسكرية الاقتصادية ستترك ـ إن امتلكت إستراتيجية تنموية واضحة ـ آثاراً كبيرة وحاسمة على تطور دول المنطقة وعلى مكانة روسيا في العالم... وتتساءل شعوب المنطقة عن هدف روسيا من حضورها العسكري القوي فيها، وهل هي مستعدة لمساعدة هذه الشعوب في تحقيق أمانيها!
يقع الدور الأساسي في نجاح أي مشروع تنموي في سوريا على السوريين أنفسهم كونه يتعلق بمستقبلهم، لكنهم أصبحوا في حاجة لمساعدات كبيرة على مختلف الأصعدة لتجاوز الأزمة التي حلت ببلادهم بعد التدخل الخارجي الكبير في المسألة السورية، وتبين الأحداث وخاصة مقررات اجتماعات "الفريق الدولي لدعم سوريا" وقرار مجلس الأمن2254 تاريخ 18/12/2015 أن مصير المسألة السورية يرتبط بإرادة الدول العظمى ومن بينها روسيا...
تؤكد الدول العظمى و"الفريق الدولي لدعم سوريا" في قرار مجلس الأمن 2254 على:
"منع وقمع الأعمال الإرهابية"... "والقضاء على الملاذ الآمن الذي أقامته تلك الجماعات (الإرهابية) على أجزاء كبيرة من سورية..." "ويعرب (مجلس الأمن) عن دعمه لتعمير سورية وتأهيلها بعد انتهاء النزاع..."

يتطلب القضاء على التطرف والإرهاب معالجة الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تخلق التربة الملائمة لنشوئه وترعرعه... ويتطلب تعمير سوريا، وتحقيق إرادة السوريين وشعوب المنطقة بعد انتهاء النزاع، القيام بعملية تنموية على كافة الأصعدة وخاصة:
ـ القيام بالتغيير السياسي المنشود لبناء الدولة على أسس علمانية ديمقراطية دستورية حضارية، تصون حقوق وكرامة الإنسان وحريته، وتساهم في نيل أبناء ومكونات الشعب الإثنية والدينية كافة من عرب وأكراد وغيرهم حقوقه كاملة وصيانتها دستورياً وقانونياً...
ـ بناء وتطوير البنية الصناعية والزراعية والسياحية والخدمية على أسس التمنية والعدالة الاجتماعية،
ـ تنفيذ مشروع ثقافي قائم على الأسس العلمانية وأحد أركانها وضع الخطط الثقافية والإعلامية التي تساهم في بناء منهج التفكير العصري الحضاري السليم، والاهتمام بالمناهج والسياسة التربوية والتعليمية لتربية الأجيال تربية حضارية علمانية سليمة،
على أن تتم هذه العملية التنموية في إطار خطة إستراتيجية ومشروع اقتصادي لا يقل شأناً عن مشروع مارشال، بل يتجاوز جميع ثغرات ذلك المشروع ويشارك فيه الفريق الدولي لدعم سوريا على أسس المنفعة المتبادلة، وتنفيذ التغيير السياسي الذي ينشده الشعب السوري الذي يعزز الحرية والكرامة، ويعالج آثار الفساد والفروق الطبقية الكبيرة، والأمراض الاجتماعية، ويقضي على التربة المؤدية لنشوء التعصب والتطرف والإرهاب من فقر وجهل وجميع أشكال الاضطهاد والتمييز... ويساعد في تحويل سورية إلى منارة حضارة وتنوير، بعيداً عن مختلف أنواع الاحتكار، والاضطهاد، والاستغلال...
ولما كان الوجود العسكري الروسي قد أضحى واقعاً مدعوماً دولياً، وقد خلق حالة جديدة من إعادة التوازن، وكسر احتكار أمريكا والغرب والتطرف لحيز هام من المسألة السورية؛ فمن المجدي سياسياً العمل على الاستفادة من هذا الوجود لتحقيق تطلعات الشعب السوري وشعوب المنطقة...
ويعلق الكثير من السوريين آمالاً كبيرة على الدور الذي سيلعبه الروس في هذا المشروع فضلاً عن معالجة الأزمة العميقة التي وصلت إليها سوريا.. فهم يترقبون من الروس، غير تجريب أسلحتهم على الأراضي السورية، أن يساعدوهم في معالجة الأسباب السياسية التي أودت بالبلاد إلى هذه الحالة، والمساهمة في إعادة اعمارها...
ومن المفيد التأكيد على أنّ إنهاء النزاع وإنجاز عملية التغيير السياسي والبناء الاقتصادي الذي ينشده السوريون في إطار عملية تنموية اقتصادية اجتماعية ثقافية علمانية متكاملة تقوم على أسس العدالة الاجتماعية يقود إلى بناء وتحويل سوريا إلى منارة حضارية تلعب دوراً فعالاً في تطور وتقدم مختلف بلدان المنطقة، ويساهم في تجفيف منابع التطرف. ويتطلب ذلك ـ بعد إنهاء النزاع، والبدء بالعملية السياسية الموعودة ـ البدء بتشكيل فرق دراسة وعمل مشتركة لوضع تلك الخطط المتكاملة في إطار زمني محدد لمشروع تنموي يتجاوز مختلف المشاريع السابقة...
ومن الضروري أن يشمل هذا المشروع مختلف دول المنطقة ومنها سوريا ومصر والعراق، ومعالجة المسألة الفلسطينية قضية العرب الأولى...
إن تحويل سوريا ومصر والعراق إلى منارات حضارية تساهم في دفع المنطقة بأكملها نحو التقدم الحضاري، وتجفيف منابع التطرف والإرهاب، ليس أمراً مستحيلاً، فشعوب هذه المنطقة شعوب معطاءة محبة للعمل وللحضارة، بنت حضارات عريقة، ويمكن أن تبني وتحول بلدان المنطقة إلى منارة حضارية عندما يتحقق التغيير السياسي والاقتصادي الشامل الذي تنشده شعوبها، وتؤمن الظروف السياسية والاقتصادية والخطط والمشاريع التي تسمح لها بالإبداع، المشاريع التي تسمح باستعمال موارد بلدان المنطقة في خدمة الشعوب، وتجفيف بيئة الفساد، وجعل هذه المشاريع نماذج للمسؤولية والعدالة الاجتماعية وحماية البيئة، ووسيلة للتغيير والتنوير، وجعلها نقطة بداية كنوع من الثورة في تقديم مختلف أنواع الخدمات لأبناء شعوب المنطقة.
فهل يستطيع الروس والدول العظمى في "الفريق الدولي لدعم سوريا" وضع وتنفيذ مشروع اقتصادي حضاري تنموي في سوريا والمنطقة، بمساعدة شعوبها، يتجاوز مشروع مارشال، ويساهم في ارتقاء دول المنطقة اقتصادياً إلى مصاف الدول المتطورة؟ ليسجل التاريخ مأثرة الروس في المساهمة في خلق منارة حضارية تنشر العلم والمحبة والعدالة والتسامح تساهم في القضاء على التربة المناسبة لنشوء التطرف والإرهاب في العالم!
ثمة نقاد يرون أنّ بعض أصدقاء الروس وأعداء العرب اللدودين في المنطقة لا يسمحون لهم بالقيام بهذا المشروع، خاصة وأن أي مشروع تنموي لا بد أن يلحظ بعين الاعتبار استعادة الجولان والأراضي العربية المحتلة، ونيل الشعب الفلسطيني حقوقه كاملة... ويزعم هؤلاء النقاد أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن البنى المافيوية لا يمكن أن تنجز مشاريع تنموية لا في بلدانها، ولا في الدول الأخرى، ويؤكدون أنّ الروس سيكررون أخطاءهم، وتغادر روسيا المنطقة من غير أن تحقق شيئاً ملموساً، كما حصل معها تاريخياً، وكما غادرت أمريكا العراق!
إنها فرصة روسيا التاريخية لإثبات مكانتها الدولية وتجاوز جميع الأخطاء والثغرات التي شابت سياستها الدولية، وخلقت حاجزاً بينها وبين الشعوب التي يرى الروس أنهم يضحون ويدفعون الغالي في سبيلها، وشعوب المنطقة تتطلع إلى دور روسيا الإيجابي في التقدم الاجتماعي والحضاري؛ فهلا استفادت روسيا من هذه الفرصة التاريخية.