التحولات الإقليمية الراهنة، أي دور للنخب والشعوب


عبد الله الحريف
الحوار المتمدن - العدد: 5013 - 2015 / 12 / 14 - 08:31
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

مداخلة في ندوة

"التحولات الإقليمية الراهنة، أي دور للنخب والشعوب"

لا يمكن فصل الواقع الذي تعيشه منطقتنا العربية عما يعرفه العالم من تطورات.

فالعالم يعيش مرحلة مخاض يصعب التنبؤ بمآلها، على المدى القريب. ذلك أن ولادة العالم الجديد من رحم القديم لا تسير في خط مستقيم. لكن الأزمة العميقة للرأسمالية تؤدي إلى احتداد التناقضات الطبقية داخل كل بلد ووسط الإمبرياليات الغربية وبينها وبين القوى الكبرى (روسيا والصين) والقوى الإقليمية (إيران، البرازيل...). كما تؤدي إلى تصاعد مقاومة الشعوب للحروب الإمبريالية ولمحاولتها تحميل عبء أزمتها للطبقات الشعبية. مما يسرع تراجع الهيمنة شبه المطلقة للإمبريالية الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبروز أقطاب منافسة لها، خاصة مع لجوئها (أي الإمبريالية الغربية) أكثر فأكثر، للتنفيس عن أزمتها، إلى المغامرات العسكرية من خلال التدخل المباشر و/أو الغير مباشر.

إن ذلك يوفر شروطا موضوعية أحسن لقوى التحرر الوطني في منطقتنا الخاضعة، بشكل شبه مطلق، لسيطرة الإمبريالية الغربية والأنظمة التابعة لها.

لقد تم إجهاض السيرورات الثورية المسماة "ربيعا عربيا" والتي شهدت انتفاضات الشعوب ضد الدكتاتوريات، على الأقل مؤقتا، بواسطة تدخل الإمبريالية الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والأنظمة العميلة لها في المنطقة، وعلى رأسها النظام السعودي، التي مولت وسلحت ودربت القوى الإرهابية التكفيرية. وتشكل تونس الاستثناء الوحيد حيث الانتقال الديمقراطي لا زال هشا ومهددا. وتلعب تركيا دورا سلبيا في المنطقة لأنها تخضع كل سياساتها وتحالفاتها للتصدي للأكراد أينما وجدوا غير آبهة باحترام حدود البلدان المجاورة. وللإشارة، فإنها عضو في منظمة الحلف الأطلسي ولها علاقات وطيدة مع الكيان الصهيوني.

إن نتائج هذه السياسات الميكيفيلية كارثية بالنسبة لشعوبنا وبلداننا: خراب وحروب لا تنتهي وقتل وعمليات إرهابية في جميع مناطق العالم وفوضى وتهجير وتشريد الملايين.

واستفاد الكيان الصهيوني من هذا الوضع لتسريع الاستيطان وإحكام قبضته على الشعب الفلسطيني وإقبار إقامة الدولة الفلسطينية. وتشهد فلسطين الحبيبة هبة جماهيرية تبين أن الشعب الفلسطيني البطل لن يستكين ولن يستسلم للاستعمار والقهر والاقتلاع من أرضه وتفضح، في نفس الآن، تواطؤ السلطة الفلسطينية مع الكيان الصهيوني وعجز القيادة الإسلامية في غزة وخطورة انقسام الصف الفلسطيني على مصير القضية.

وبالرغم مما سبق، فإن مقاومة الشعوب في العالم العربي وصمود قوى المقاومة وبداية تغير ميزان القوى نتيجة التدخل الروسي في سوريا والأزمة المستديمة والمتفاقمة للأنظمة الدكتاتورية في المنطقة والمأزق الدموي للمشروع التكفيري، كل ذلك يؤشر على أننا نعيش بداية مرحلة جديدة توفر شروطا إيجابية للنضال التحرري في منطقتنا.

إننا نعتبر أن المهام المطروحة، آنيا، على شعوب منطقتنا هي مهام التحرر الوطني- الذي يعني التحرر من سيطرة الإمبريالية واستقلال القرار الوطني وبناء اقتصاد يلبي حاجيات الشعب، بالأساس، وليس حاجيات السوق العالمي الذي تسيطر عليه الشركات المتعددة الاستيطان- و البناء الديمقراطي. إننا نعتبر أن التحرر الوطني والبناء الديمقراطي مهمتان مترابطتان ومتلازمتان. فلا ديمقراطية حقيقية في ظل السيطرة الإمبريالية واستبداد الأنظمة المحلية التابعة لها ولا تحرر وطني حقيقي في ظل الاستبداد والقهر الذي يعطل الطاقات النضالية لشعوبنا وبالتالي قدرتها على الانتصار على أعدائها.

إن تحرر الشعوب هو بيد الشعوب وطبقاتها الكادحة مسلحة بتنظيماتها وليس بيد نخب معزولة أو قادة ملهمين وان هذا التحرر يتم عبر النضال الشعبي المنظم والطويل النفس.

إن نجاح نضالنا التحرري يتطلب، أولا وقبل أي شيء، تحديد من هم أعداؤنا الأكثر شراسة وتوجيه سهامنا، الآن، لهم وليس لغيرهم. أعتقد أن هؤلاء الأعداء الأكثر شراسة هم الإمبريالية الغربية –كقوى كانت، بالأمس، تهيمن على شعوبنا بشكل مباشر بواسطة الاستعمار الذي أصبح استعمارا غير مباشر من بعد-وقاعدتها في المنطقة، الكيان الصهيوني، والأنظمة العربية التابعة. وفي هذا السياق، يجب العمل على بناء جبهة معادية للامبريالية الغربية على صعيد المنطقة ليتم توسيعها من بعد. إنها مهمة قابلة للانجاز.إن هذه الجبهة سيكون بمقدورها اتخاذ مبادرات نضالية ملموسة موحدة في الزمان كما ستكون عامل ردع للأنظمة الرجعية نحو التطبيع مع العدو الصهيوني وبإمكانها إعطاء بعد تقدمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني (الصراع ضد المشروع الصهيوني الاستعماري وليس ضد اليهود كيهود).

إن نجاح نضالنا التحرري يستوجب أيضا التقدم في البناء الديمقراطي في منطقتنا. الشيء الذي يتطلب بناء علاقات ديمقراطية بعيدة عن الإلحاق والهيمنة بين القوى التحررية في منطقتنا وفي كل بلد على حدا والتوافق بين القوى التحررية ذات المرجعيات المختلفة على أسس المجتمع الديمقراطي المنشود. إن ذلك يفترض أن تقوم القوى التحررية بمراجعة شاملة لتصوراتها ومشاريعها:

فالقوى الإسلامية التي تنشد التحرر يجب أن تلعب دورا هاما في الإصلاح الديني الذي كان أحد أركان النهضة والتقدم الذي عرفه العالم الغربي عوض الإنشداد إلى الماضي والإصرار على تطبيق الشريعة بحذافيرها في واقع يختلف تماما عن ظروف تبلورها ويجب أن تتبنى قيم التسامح والتعدد الفكري وحقوق الإنسان، ومن ضمنها حقوق المرأة، وحرية المعتقد وأن لا تختزل الديمقراطية في الانتخابات.

والقوى اليسارية التحررية يجب أن تحترم المشاعر الدينية للجماهير وأن تلتزم بالدفاع عن حقها في ممارسة شعائرها الدينية بكل حرية وأن تعترف أن الإسلام الشعبي يشكل أحد مكونات هوية شعوبنا.

وفي بلادنا، نعتبر أن النظام المخزني يشكل العقبة الكأداء أمام إنجاز مهام التحرر الوطني والديمقراطي، وفي نفس الآن، لا نريد استبدال استبداد باستبداد آخر. لذلك ندعو إلى بناء جبهة موحدة للنضال الشعبي ضد المخزن ولبناء نظام ديمقراطي. ولبلوغ هذا الهدف، ننادي بالنضال الميداني مع كل القوى المناضلة، وخاصة منها المناهضة للمخزن، ونرحب بالنقاش العمومي مع القوى المناهضة للمخزن أيا كانت مرجعيتها-ما عدا القوى التي تلجأ للإرهاب والتكفير. على القوى المناضلة والمخلصة لقضايا الجماهير والمتحررة من وهم الاصلاح من الداخل ان تلتحم كل واحدة من موقعها بالحركات الاحتجاجية القائمة وان تنفض عنها الانتظارية او التلكؤ تجاه متطلبات الساحات النضالية وعلى هذا الأساس تبرز الحاجة إلى المزاوجة بين النضال الميداني والحوار العمومي من شأنه تقريب وجهات النظر وخلق علاقات الثقة والتآزر بين المناضلين الذين يتواجدون في الميدان في مواجهة نفس الأعداء. إنها مهام ملحة لتأهيل القوى التحررية لجعلها قادرة على أن تكون في مستوى الأحداث الني تتسارع في بلادنا وتنبؤ بتحولات وانفجارات مفاجئة.