إرهابيون - بكين - سيناريو10


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5012 - 2015 / 12 / 13 - 20:21
المحور: الادب والفن     

أوجه ندائي الحار إلى الناشرين والممولين لنشر "المشروعان مشروع التنوير ومشروع الدولة"، هذا الكتاب الأداة التثقيفية، بعشرات آلاف النسخ، وتوزيعه في جميع بلدان العالم العربي...




- اسمي كْسِن كْسِنيانغ، كمقاطعة كْسِنيانغ الواقعة شمال غرب الصين، مقاطعتي. الجغرافيا تجمعني مع هذه المقاطعة، والتلوث، والجفاف. منذ عدة أعوام، بدأت الصحراء تزحف إلى قرانا، وفي الوقت نفسه بدأ السرطان يزحف إلى رئتيّ. ألم أقل لكم إن لِكْسِنيانغ ولي مصيرًا واحدًا؟ لهذا السبب كنا نموت نحن الاثنين ببطء، ولا أحد يبالي بنا. رحل كل سكان قريتي أسوة بسكان القرى الأخرى، فالرمل دون الماء لا يسمن ولا يغني من جوع. قالوا لي تعال معنا، هناك بنايات جديدة، ولكل واحد منا شقة، لكني لم أذهب. أردت الموت في المكان الذي أحمل اسمه، فأنا سأموت على أي حال، والشقة الجديدة لن تمنع موتي. أردت الموت في المكان الذي ولدت فيه، في المكان الذي يموت مثلي. كان ذلك إخلاصنا، الواحد للآخر، الإخلاص عندما يخدعك الكل، حتى ولو كان ذلك على الرغم من كل إرادة. لم يفعل أحد شيئًا للحيلولة دون غاز الدفيئة، لم يرسل أحد إنذارًا نهائيًا بخصوص الدخان، لم يحتج أحد على موت الأرض، بالتدريج كما أموت الآن بالتدريج، ولا فائدة من علاجي. كانت مصائرنا ترتبط بالأوزون، كنا نعلم ذلك، لكننا لم نفعل شيئًا. لم يكن دافع ذلك اليأس، كان دافع ذلك الكسل، والاتكال على صدقات الدولة. رشتنا الدولة ببعض اليوانات، فسكتنا عنها، لأن هذه دومًا وأبدًا غايتها، أن نسكت عنها، بينما خزائنها تمتلئ بالمليارات، بمليارات المليارات، ليس لتطوير الصين، وإنما لجعل الصين قوة إمبريالية، لتحل الصين محل أمريكا، لا لتطوير الصين، ولا لتطوير العالم، لتطوير هيمنتها العالمية، والذهاب بالكون من سيء إلى أسوأ. تمامًا مثلي، أنا، كْسِن كْسِنيانغ، ومقاطعتي كْسِنيانغ، التي كانت جنة قبل عدة عقود، واليوم هي جحيم.

كثيرًا ما قالت لي سيم ابنتي: بابا، ستموت وحدك مثل جرذ، تعال عندي في بكين، فأعنى بجثمانك، أعطره قبل إحراقه، وأحتفظ برماده، أضع رماده في قارورة أتركها تحت مخدتي. وكل الرماد الذي من حولي، أقول لها، ألا يكفي؟ عمَّ تتكلم، بابا؟ عن قريتنا، أقول، احترقت قريتنا، ولم يبق منها إلا الرماد. تبكي سيم ابنتي، وتضمني. تتذكر كيف كنا نزرع حقلنا بالأرز، ومع الأرز نزرع الأسماك، تتذكر كيف كانت الأسماك تلعب تحت أقدامنا. كانت الأسماك تدغدغ ماما من قدميها، تقول سيم ابنتي، فتضحك، وأضحك معها، ولا تفعل غير الإمساك بها. كانت ماما تقول، الأسماك تريدنا أن نأكلها، لهذا تدغدغنا من أقدامنا، إنها تدعونا إلى العشاء. وإذا ما خرج عليك سرطانك، بابا، تقول سيم ابنتي، ماذا ستفعل، وأنت وحدك؟ كانت تتكلم عن سرطاني كأنه واحد منا؟ تقول خرج عليك، كخروج العصاة في ساحة تيننمن. سرطاني لم يخرج عليّ إلى حد الآن، أقول. وإذا ما خرج عليك، سيخرج سرطانك عليك في يوم ما، وإذا ما خرج عليك، ماذا ستفعل؟ أنا لست هنا لأعمل على تخفيف ألمك، أنا لست معك، بابا. أنتِ لستِ معي. أنا لست معك، أنا بعيدة، أنا في بكين. أنتِ بعيدة، أنتِ في بكين. وإذا ما خرج عليك سرطانك، كل سرطان يخرج على صاحبه، فيذيقه أقسى ألم، وإذا ما خرج عليك سرطانك، بابا، ماذا ستفعل، وأنت وحدك؟

كنت كمن يريد أن يعاني أقسى ألم بعيدًا عن سائر البشر، وأول البشر سيم ابنتي. لم أكن أريد إزعاجها، فكيف إيلامها، لأني كنت أعرف أنها ستحس بألمي ذاته، فتفقد ابتسامتها الدائمة على شفتيها، وتضيع في الكحول. كان ضياع ابنتي في الكحول أشد وطأة من سرطاني عندما يخرج عليّ، عندما يتحداني، ويخرج عليّ، عندما يرفسني بحافره كما كانت ترفسني فرسنا بحافرها قبل أن تموت من دخان المصانع، قبل أن يتغلغل ثاني أكسيد الكربون في رئتيها، كما يتغلغل في رئتيّ، وتصاب بالسرطان كما أصاب. لهذا فضلت احتمال الألم بعيدًا عن سيم ابنتي، وأردت الموت بكل حرية، فما أرهب الموت في وسطٍ يبكيك، ويحنو عليك، وينتظر إحراقك بحرقة وشوق.

حفرت قبري بيدي، وتمددت فيه. كان علي أن أموت قبل أن يخرج سرطاني عليّ، لأنني سأموت على أي حال، ولأنني لا أريد أن أتألم، لا أريد أن تتألم سيم ابنتي، لا أريد أن تتألم الرياح، لا أريد أن أترك لحمي للكواسر من طيور كْسِنيانغ، فتتألم قريتي الميتة، لا أريد أن تتألم أرواح أجدادي، لا أريد أن تتألم نجوم الصين، لا أريد أن يتألم المغامرون الذين يعبرون من هنا بعد مائة عام عندما يعرفون قصتي، لا أريد أن يسعد الرأسماليون عندما يشربون كأس نبيذ فرنسي نخب ألمي، لا أريد أن يتألم الجنود عندما تجتاح الرمال فلولهم بلا أمر ضباطهم، فلا انتقام من أحد، ولا أحكام بالموت، ولا تدابير ثأرية...




* * *

لكن أهم ما في فكرة الدولة هو إمكانية تحقيقها وممارستها في الحياة اليومية لكلٍ منا... الحلم بدولة الإنسان التي تحفظ كرامة الإنسان، هو حلم يراود الأذهان، وسوف يحققه المضطهدون والمقموعون...

قاسم حسن محاجنة