مقاربات انتفاضية


محسن ابو رمضان
الحوار المتمدن - العدد: 5009 - 2015 / 12 / 10 - 16:56
المحور: القضية الفلسطينية     

في مثل هذه الأيام قبل 28 عاماً أي في 9/12/1987 إندلعت الانتفاضة الشعبية الكبرى في مواجهة الاحتلال من اجل الحرية والاستقلال .
لم يكن حادث استشهاد العمال الستة الذي تم دهسهم من قبل أحد المستوطنين السبب الرئيسي الذي فجر الانتفاضة بل كان الحادث تتويجاً لحالة الاحتقان وتراكم الوعي الوطني الذي تعزز في الثقافة المجتمعية من خلال نشاطات الاطر الطلابية ولجان العمل الطوعي واللجان النقابية التي عملت بنشاط قبل الانتفاضة وأدت فاعليتها إلى المساهمة الجادة في مواجهة الاحتلال وكذلك في تعزيز مرتكزات الهوية والوطنية الفلسطينية .
لقد كان عام 87 هو الأكثر ازدهاراً على المستوى الاقتصادي في الاراضي المحتلة وبالتالي لم يكن العامل الاقتصادي مركزياً، في اندلاع الانتفاضة بقدر ما كان تراكم الشعور بالقهر والظلم وهدر الكرامة الوطنية بما حفز على ضرورة العمل الجاد باتجاه تحقيق هذه الكرامة الوطنية عبر الفعل الشعبي التصادمي مع الاحتلال حيث كان الشعار الناظم للانتفاضة يتجسد بالحرية والاستقلال.
تميزت الانتفاضة الكبرى بعمقها الشعبي وبعدها الديمقراطي، حيث شارك بها كافة القطاعات الاجتماعية وتم تشكيل اللجان الشعبية التي كانت أداة الفعل الكفاحي في مواجهة الاحتلال ، حيث تنوعت مهمات اللجان الشعبية ، بين طابعها الصدامي والمواجهة " شعبياً " وبين طابعها الاسنادي والتضامني مع اسر المعتقلين والجرحى والشهداء وبين لجان توزيع التموين والأدوية ...إلخ ، كما ميز الانتفاضة بأنها كانت تقاد من عنوان واحد هو القيادة الوطنية الموحدة التي ضمت القوى الرئيسية في م.ت.ف ذات النقود والامتداد والجماهيري بالأراضي المحتلة ، إلى جانب قيام كل من حركتي حماس والجهاد بتنظيم فاعليات كفاحية بصورة منفردة ولكن في سياق ذات التوجه الوطني الموحد الرامي إلى التخلص من الاحتلال والسعي باتجاه تحقيق أهداف شعبنا بالحرية والاستقلال .
لم تستكمل الانتفاضة أهدافها للعديد من الأسباب أبرزها الاستعجال في قطف ثمارها الأمر الذي قاد إلى توقيع اتفاق اوسلو والبدء بمرحلة طويلة من الحلول المرحلية والانتقالية بما لا ينسجم مع أهداف الانتفاضة الأساسية الرامية إلى التخلص من الاحتلال بصورة كاملة .
لم يكن اتفاق اوسلو النتاج المأمول من الانتفاضة الكبرى وعليه وبعد أن سدت اسرائيل سبل تحويل السلطة إلى دولة مع انتهاء المرحلة الانتقالية في 4/5/1999 ، وارادتها سلطة بلا سلطة وبلا سيادة في اطار رؤية اسرائيل للحل المبني على الحكم الذاتي وتشكيل إدارات محلية في اطار منظومة الباتوستانات قامت قيادة السلطة حينها مجسدة بالرئيس الراحل ياسر عرفات برفض هذه الصيغة التي كان تتويجا لمقترحات كامب ديفيد برعاية الرئيس الأمريكي السابق كلنتون ومشاركة رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق باراك بالاضافة إلى الرئيس الراحل ياسر عرفات .
رفض الرئيس عرفات هذه المقترحات التي تنتقص من حقوق شعبنا واهدافه الوطنية كما تنقص من مبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية .
وكانت عملية اقتحام شارون زعيم المعارضة الاسرائيلية آنذاك الشرارة التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة الثانية في 29/9/2000 .
كان العمل العنيف والمسلح الطابع الأبرز للانتفاضة الثانية باختلاف عن الانتفاضة الأولى التي كان طابعها الأبرز البعد الشعبي والمشاركة .
لم تستطع الانتفاضة الثانية تعديل توازنات القوى بل استغلتها اسرائيل والمجتمع الدولي لاحداث تغييرات في بنية النظام السياسي واستحداث منصب رئيس وزراء ينافس الرئيس على صلاحياته ، حيث قامت اللجنة الرباعية الدولية بتقديم موضوع الاصلاح عن موضوع الاحتلال وحاولت ابراز بأن الأول "الاصلاح" هو المسبب الرئيسي بالأزمة وليس الاحتلال الطويل والمديد والذي يمارس سياسة استيطانية وتوسعية وتميزية .
وبالوقت التي اسفرت الانتفاضة الاولى عن توقيع اتفاق اوسلو فإن الانتفاضة الثانية اسفرت عن خارطة الطريق وفق المقترح الامريكي والذي تحفظ عليه رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق شارون اصبحت الخارطة بهذه الحالة تعبيراً عن الرؤية الاسرائيلية رغم ما كان يردده قادة الولايات المتحدة بحيث من معزوفة حل الدولتين .
أدت سياسة الحكومة اليمينية المتطرفة برئاسة نيتنياهو إلى تقويض فرص تحقيق حل الدولتين من خلال توسيع الاستيطان ومصادرة الاراضي والسيطرة على منابع المياه وتهويد القدس واقامة منظومة من المعازل وحصار قطاع غزة وشن ثلاثة عمليات عسكرية عدوانية واسعة عليه إلى جانب سياسية التمييز العنصري الممارسة وخاصة بحق جماهيرنا في الداخل أي في مناطق 48.
كان من الطبيعي اندلاع الحراك الشبابي أو الموجة الانتفاضية الراهنة التي بدأت منذ اكتوبر هذا العام " 2015 " وذلك تعبيرا عن الرفض لسياسة المفاوضات طويلة الأمد والتي استغلتها اسرائيل لفرض الوقائع على الأرض ، وكذلك الرفض لكل السياسات الاقتصادية والإدارية التي جربت بالسابق سواءً فيما يتعلق ببناء المؤسسات في ظل الاحتلال أو في سياسة الليبرالية الجديدة والسلام الاقتصادي.
واضح ان الشباب هم وقود هذا الحراك الراهن وهم جيل ما بعد اوسلو الذي لم يرتبط بمصالح مع السلطة ولم ينخرط في بنيتها وتركيبتها ولم يندمج في برامج القروض وأبعادها الاستهلاكية .
أنهم الجيل الرافض للتنسيق الأمني وبروتوكول باريس الاقتصادي ، كما أنه تجاوز الانقسام موجهاً مساره في مواجهة الاحتلال ومن اجل الحرية والكرامة والاستقلال الوطني .
إن غياب البنية المؤسساتية الفلسطينية الجامعة وخاصة فيما يتعلق ب م.ت.ف وعدم تفعيل الإطار القيادي الموحد الذي من الضروري ان يشارك به الجميع وفق اتفاق القاهرة واعلان الشاطئ إلى جانب استمرار الانقسام وحذر طرفيه من الآخر أدى إلى تعطل عملية الدفع الذاتي للحراك الراهن الأمر الذي ادى إلى تراجع اعمال التصادم الشعبي وابقاء اشكال العمل الفردية وحيدة تعبيراً عن رفض الاحتلال .
إن المشترك بالانتفاضات الثلاث وذلك إذا جاز لنا ان تصنيف ما يحدث الان من حراك بأنه انتفاضة أنه لم يجر تشكيل قيادة وطنية فلسطينية موحدة جامعة بمعنى تضم الجميع سواء قوى المنظمة والحركات الاسلامية " حماس والجهاد " ، علماً بأن الانتفاضة الأولى شهدت حالة من التنسيق الميداني باعمال الكفاح الشعبي ، وبالتالي تميزت نسبياً عن الثانية والراهنة .
وعليه فقد كان من الطبيعي قيام المجتمع الدولي وخاصة الادارة الامريكية بالعمل على اجهاض الفعل الكفاحي الراهن عبر تقديم مقترحات سياسية بهدف إدارة الأزمة والعمل على اطالة الزمنلأعطاء مساحة اوسع لدولة الاحتلال لتنفيذ مخططاتها العملية على الارض بحق الشعب والارض والهوية ، لذلك منذ جاء اتفاق اوسلو فقد شجعته الإدارة الامريكية وتم تنظيم حفل التوقيع عليه بالبيت الأبيض ، كما قامت الإدارة الأمريكية بتقديم مقترح خارطة الطريق اثناء الانتفاضة الثانية .
حاول وزير الخارجية الامريكي جون كيري ان يحذو حذو المسار السياسي المتبع لدى الإدارات الأمريكية في مواجهة الفعل الانتفاضي الفلسطيني ولكن مقترحاته بائت بالفشل بسبب عدم ارتقائها لمستوى مطالب شعبنا كما أنها تصب في مصلحة الاحتلال بصورة رئيسية وبهدف تحجيم الفعل الكفاحي وتهديد السلطة بالانهيار بهدف منعها من اتخاذ خطوات داعمة لهذا الفعل الكفاحي.
في اطار الدراسات المقارنةفإن التجارب الانتفاضيةالثلاث تؤكد الحاجة إلى ترتيب البيت الداخلي وإعادة بناؤه على اسس الشراكة والديمقراطية والعمل على تشكيل قيادة وطنية موحدة ترفد الفعل الكفاحي وتغادر المسار السياسي السابق الذيجرب ولم ينجح أي مسار المفاوضات بالرعاية الامريكية باتجاه برنامج جديد يرسخ مقومات الصمود الوطني .
طالما استمر الاحتلال فإن الكفاح سيتسمر والسؤال هنا كيف يمكن استثماره وتقريب الزمن لصالح انهاء الاحتلال وتحقيق أهداف شعبنا بالحرية والاستقلال .