نزعة الاستعانة بالخارج: عن «الجلبيين» العرب


محمد سيد رصاص
الحوار المتمدن - العدد: 4997 - 2015 / 11 / 26 - 08:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


لم يغفر الفرنسيون حتى الآن، رغم مرور حوالى ثلاثة أرباع القرن على انتهاء الحرب العالمية الثانية، للماريشال بيتان قبوله بتشكيل حكومة فيشي في ظل الاحتلال الألماني. لم تمثل معركة فردان للماريشال في الحرب العالمية الأولى ومنعه باريس من السقوط بيد الألمان سبباً تخفيفياً. عندما تم تذكير الجنرال ديغول بعد تحرير باريس بأن الماريشال العجوز الذي تجري محاكمته هو «بطل فردان»، أجاب بالعبارة التالية: «الخيانة ليست وجهة نظر».

كان ما فعله الجنرال بالماريشال استمراراً لتقليد فرنسي في نبذ من يستعين بالخارج في قضايا السياسة المحلية لتحقيق أجنداته الداخلية ضد أبناء بلده، وقد حكم الفرنسيون على أسرة آل بوربون التي أعادتها حراب الأجنبي إلى قصر فرساي، بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو، ونفذوا حكمهم في ثورة تموز 1830 بعد خمسة عشر عاماً.
ليس سجل العرب مماثلاً لسجل الغرب: في عام 1882 استعان الخديوي توفيق بالانكليز ضد وزير دفاعه أحمد عرابي جالباً الاحتلال إلى أرض الكنانة. أثناء حركة رشيد عالي الكيلاني في بغداد عام 1941 استعانت الأسرة الهاشمية بالإنكليز ضد رئيس الوزراء الكيلاني من أجل عودتها للقصر الملكي، وكان الكيلاني بدوره، وبتشجيع من مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، قد استعان بالألمان ضد لندن والهاشميين. كان هذا تمثيلاً، بالحالتين، لاستعانة السلطة بالخارج ضد الخصوم الداخليين. في المقابل كان معارضون عرب قد استعانوا بالخارج ضد «الداخل العثماني»: أغلبية أعضاء «المؤتمر العربي» في باريس عام 1913، ثم قسم كبير من الساسة الذين اعتقلهم وأعدمهم جمال باشا يوم 6 أيار 1916 بعد اكتشافه لوثائق علاقاتهم ومراسلاتهم مع باريس إثر اقتحام القنصليتين الفرنسيتين في بيروت ودمشق، ثم الشريف حسين الذي قام بـ «الثورة العربية الكبرى» في 10 حزيران 1916 بعد تنسيق مع لندن بدأ بعد شهر من بداية الحرب العالمية الأولى، أي منذ أيلول 1914.

في عام 1882 استعان الخديوي توفيق بالإنكليز ضد وزير دفاعه أحمد عرابي
في يوم 4 شباط 1942، اقتحمت الدبابات البريطانية في القاهرة قصر عابدين وأجبرت الملك فاروق على تعيين زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا رئيساً للوزراء، حيث لم يجد خليفة سعد زغلول، زعيم ثورة 1919 ضد الانكليز، غضاضة في أن تفرضه الدبابات البريطانية المحتلة ضد إرادة المصريين.
كانت حادثة «4 فبراير» سبباً في تشكيل جمال عبدالناصر لتنظيم الضباط الأحرار بعد أن أصيب بهزة وجدانية كبرى من تلك الحادثة. مثّلت الناصرية صعوداً لنزعة وطنية مصرية وعروبية استقلالية تجاه الخارج الأجنبي، وقد خاصمت وشكلت مثالاً مضاداً لهاشميي بغداد، الذين ظلوا تحت حماية لندن ثم واشنطن مع تشكيل حلف بغداد عام 1955، ولا يمكن تفسير 14 تموز 1958 العراقي من دون 23 يوليو 1952 المصري.
بعد ساعات من صباح 14 تموز 1958، عندما تمت تصفية الملك فيصل الثاني والأمير عبد الإله وباقي أفراد الأسرة الهاشمية في «قصر النهاية» في بغداد، لجأ رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد، ربيب لندن المدلل، إلى بيت الوزير السابق عبدالهادي الجلبي. في صباح اليوم التالي خرج من البيت بعباءة نسائية، وفي طريقه نحو بيت آخر تم تمييزه تحت غطاء العباءة وقامت الجموع بسحله في الشارع. بعد قليل من 14 تموز 1958 غادر عبدالهادي الجلبي العراق، وعاش في الخارج مصطحباً أسرته، ومنها ابنه أحمد الذي كان يومها يبلغ الثالثة عشرة من العمر.
عاد أحمد الجلبي إلى العراق مع الغزو الأميركي (20 آذار - 9 نيسان 2003). في أكثر من مناسبة تباهى أحمد الجلبي بأنه استجلب الأميركيين لغزو أرض الرافدين واسقاط حكم صدام حسين رغم إرادة الكثير من صانعي القرار في واشنطن، ومنهم جورج تينيت رئيس C.I.A، مستغلاً علاقاته مع البنتاغون و«المحافظون الجدد». عندما شكل الجلبي «المؤتمر الوطني العراقي» عام 1992 كان مغموراً ونافراً، وملوثاً بفضيحة مالية في الأردن وملاحقة قضائية بسبب افلاس بنك البتراء. ولكن عندما عقد مؤتمر لندن للمعارضة العراقية في الشهر الأخير من عام 2002، أعطت الصورة التي قدمها ذلك المؤتمر بأن «النزعة الجلبية» قد انتصرت في المعارضة العراقية، ولم يكن صدفة أن يصبح جلال طالباني عام 2006 رئيساً لـ«العراق الجديد»، وهو الذي قال الكلمات التالية في مؤتمر لندن: «لم نستطع التغيير بواسطة قوانا الذاتية. يجب أن نكون واقعيين ونقر بذلك. القضية تم تدويلها ولنا الحق بالمطالبة بدعم دولي ويجب أن لا نخجل» (جريدة «السفير»، 16 كانون أول 2002). تأكد هذا الانتصار لأحمد الجلبي لما شكل بول بريمر، الحاكم الأميركي للعراق، «مجلس الحكم» في تموز 2003، ودخل تحت ظل خيمة الاحتلال طيف عراقي سياسي يمتد من الاسلاميين الشيعة والسنة إلى الحزب الشيوعي وصولاً إلى الطالباني والبرزاني. خلال دزينة من السنين امتدت من سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي إلى وفاته مؤخراً، ظل أحمد الجلبي رقماً صعباً في «العراق الجديد» وكان صاحب نفوذ وتأثير، ولم يكن في وضعية آل بوربون أو الماريشال بيتان. كان ملفتاً للنظر أن ظاهرة أحمد الجلبي قد تخطت العراق وبدأت بالامتداد عربياً في مرحلة ما بعد 9 نيسان 2003. أول امتداداتها بدأت في بيروت (أيلول 2004 - آذار 2005) عقب صدور القرار 1559، وكان ملفتاً للنظر أن يطلق جنين شرارتها الكتائبي جوزيف أبو خليل في مقال نشر بالشهر التالي لسقوط بغداد حمل العنوان التالي في جريدة «النهار» (14 أيار 2003): «لبنان ما بعد الزلزال: عندما يصبح مستحيلاً التغيير من الداخل»، وقد كان مليئاً بالرموز أن صاحب المقال المذكور هو مهندس وبادئ العلاقة بين حزب الكتائب والاسرائيليين عام 1976 لما أحسّ بشير الجميل بأن هناك «حاجة حتى للتحالف مع الشيطان» في ظل تقدم القوات المشتركة للفلسطينيين واليساريين اللبنانيين. عقب نجاح 14 آذار اللبنانية في استغلال الرياح الأميركية الآتية من بلاد الرافدين واخراج الجيش السوري من لبنان يوم 26 نيسان 2005، بدأت النزعة الجلبية بالتسيّد داخل المعارضة السورية، بعد أن أحسّ الكثير من المعارضين السوريين بأن العامل الخارجي كان الأساس في التغيير في بغداد وبيروت، وليس العامل الذاتي. كان قيام «اعلان دمشق» يوم 16 تشرين أول 2005 على وقع ما جرى في بلاد الرافدين والأرز، وقد ضم أغلب قوى المعارضة السورية عند قيامه، وكان انشقاقه عقب خروج «الاتحاد الاشتراكي» و«حزب العمل الشيوعي» إثر ما جرى في مؤتمر الاعلان المنعقد في دمشق أول كانون أول 2007، تعبيراً عن انشقاق المعارضة السورية إلى خطين: خط يراهن على الاستعانة بالخارج لاحداث تغيير داخلي مثله «الليبراليون الجدد» و«الاخوان المسلمون» في «الاعلان» ثم في «المجلس الوطني» عام 2011، وبعده «الائتلاف»، وخط وطني ديمقراطي وهو ما تجسّد في «الخطّ الثالث» عام 2008، وهو الذي كان مؤلفاً أساساً من ناصريين وماركسيين، ثم في «هيئة التنسيق» عام 2011.
في ليبيا 2011 كانت «الجلبية» سائدة في «المجلس الانتقالي» لمصطفى عبد الجليل لما قام «الناتو» بإسقاط القذافي، وفي المعارضة السودانية يوجد الكثير من التشابه مع المعارضة العراقية لحكم صدام حسين حيث تسود نزعة الاستعانة بالخارج، عند «الحزب الاتحادي» و«حزب الأمة» و«الشيوعي» وعند أحزاب الأقليات جميعها، ضد الرئيس السوداني عمر البشير.
السؤال الآن: كيف يمكن تفسير رواج «الجلبية» و«البيتانية» في السياسة العربية الحديثة.