حول مفهوم -البيئة الحاضنة-


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4984 - 2015 / 11 / 13 - 14:47
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

درج تعبير البيئة الحاضنة بعد الثورة السورية للدلالة على بؤر ناشطة على نحو مميز في الاعتراض على الدولة الأسدية. البيئة الاجتماعية للثورة هي أحياء وبلدات وقطاعات من السكان ثارت على النظام، واحتضنت الأنشطة المناهضة له، السلمية والمدنية أساسا، ثم بصورة ما مقاومته المسلحة. كان التعبير وجيها في طور الثورة السلمي، بين آذار 2011 وخريف العام نفسه، ثم في الطور الذي تمازج فيه الاحتجاج السلمي مع المقاومة المسلحة حتى منتصف صيف 2012. ومصدر الوجاهة أن قطاعات واسعة من السكان عبرت طوعيا، بوضوح وعلى نحو متكرر، عن رفضها للنظام، مع دراية الجميع فيها بخطورة ذلك وأكلافه المحتملة. لكن تعبير البيئة الحاضنة أخذ يفقد وجاهته بعد انحسار المظاهرات السلمية التام في أواسط عام 2012، وتحول الثورة إلى حرب، والانهيار المتسارع للإطار الوطني للصراع السوري في النصف الثاني من عام 2012. فبينما كانت الاحتجاجات السلمية، لأنها طوعية، تعبيرا موثوقا عن ميول البيئات التي انطلقت فيها من أحياء وبلدات وقرى، فإن الأمر ينطبق بقدر أقل على المقاومة المسلحة في مراحلها الباكرة، ثم لا يكاد ينطبق عليها نهائيا، منذ أن استقل العمل المسلح بمحركاته وعقائده وجهاته الممولة عن المجتمعات السورية المحلية. هذا أخذ يحصل على نطاق واسع في تقديري في مطلع 2013، بترابط مع ضغوط أميركية وإقليمية كبيرة للحيلولة دون دخول المعارضة المسلحة إلى دمشق. كان هذا ممكنا وقتها، وكان النظام ممكن السقوط فعلا، على ما شهد حسن نصر الله بعد شهور قليلة من ذلك. وتقديري أن تدخلات مماثلة حصلت في مناطق متعددة من البلد، وكان لها تأثير مفكك على مستويين: العمل العسكري أخذ ينفصل عن البيئات الاجتماعية المحلية من جهة، وعن قضية الثورة من جهة ثانية، بينما يزداد ارتباطا بعقيدته الدينية المشرعة من جهة، وبجماعات ممولة من جهة أخرى. وبفعل هذه العمليات أخذت تنقلب العلاقة بين المجتمعات المحلية والمجموعات المسلحة، فصارت هذه تعمل على السيطرة على بيئات انتشارها، وبمناهج تقترب من مناهج النظام أو تطابقها. وفي هذه الفترة، عام 2013 وما بعد، أخذت تسمع باطراد أصوات احتجاج على ممارسات هذه التشكيلات بحق ما يفترض أنها البيئات الحاضنة للثورة. لكن في الواقع هذه فصلت عن ثورتها، وصارت بيئات مقيدة أو "محضونة" أكثر مما هي حاضنة. والتعبير الذي استمر استخدامه في انفصال عن التغيرات الواقعية تغيرت وظيفته.
يجري استخدامه اليوم بخصوص داعش مثلا، ليعتبر سكان مدينة الرقة أو سكان الجزيرة العرب دواعش. لسنا هنا حيال حكم شرعي معرفيا، أقله بفعل استحالة معرفة تفضيلات السكان الحقيقية، وما إذا كانوا يوالون هذه التشكيلات أم أنها مفروضة عليهم، وأنهم خائفون منها، وربما يحاولون التكيف معها. لكن أهم من ذلك وأخطر، الوظيفة السياسية لفكرة البيئة الحاضنة اليوم: تحميل عموم السكان في المنطقة مسؤولية داعش معاقبتهم جماعيا. هذا على سبيل المثال ما تمارسه قوات ميليشيا بي واي دي حيال الأكثرية العربية في منطقة تل أبيض. فبصرف النظر عن لا شرعية السلطة الممارسة في المنطقة من حيث كونها سلطة أقلية مسلحة مدعومة أميركيا في مواجهة الأكثرية العزلاء، فإنه يجري إرسال التهم التعسفية بحق سكان المنطقة من عرب وتركمان، يعتقلون ويهانون وتحرق منزلهم، ويمنعون من العودة إلى قراهم وبلداتهم، ويتعرضون لتهجير قسري، على ما وثّق تقرير من أمنستي إنترناشنال صدر مؤخرا. والضحايا هم في كل حال تقريبا أفقر السكان مما لا مكان لهم آخر يتجهون إليه، على ما تواتر قوله من ضحايا التهجير لمعدي تقرير الأمنستي، وعنونت به تقريرها: https://www.amnesty.org/ar/documents/mde24/2503/2015/ar/
وهذا ما تسهله نظرية البيئة الحاضنة، التي تتوافق مع مسالك اجتثاثية من صنف ما سبقت رؤيته في عراق ما بعد صدام من "اجتثاث البعث". هذه السياسة عنت وقتها معاقبة العراقيين العرب، السنيين على نحو خاص، وسهلت خلال سنوات دفع كثيرين منهم إلى أحضان القاعدة وداعش.
ما تشوشه الاستخدامات الراهنة لنظرية البيئة الحاضنة هو الفارق بين الاحتضان الطوعي للسكان لقوة معينة وإنتاجهم لها، وبين خضوعهم بالإكراه لها وإنتاج هذه القوة بيئة تناسبها، بما فيها من عملاء محليين ومن انتهازيين متكسبين ومن أكثرية مخضعة تتدبر عيشها بالمتاح. تمر المصالح اليومية لعموم السكان الباقين في الرقة ومناطق سيطرة داعش عبر دولة داعش، على نحو ما تمر المصالح اليومي للكرد وغير الكرد الباقين في المناطق التي يسيطر عليها بي واي دي بهذا التنظيم، وعلى نحو ما مرت مصالح أكثرية السوريين بالدولة الأسدية طول عقود، وما مرت مصالح العراقيين بدولة صدام قبل الاحتلال الأميركي. بين هؤلاء من يطور ولاء بقدر ما للمنظمات و"الدول" القائمة، لكن هذا لا يمحو الفرق بين إنتاجية اجتماعية حرة لتعبيرات سياسية جمعية، وبين إنتاج فوقي وقسري لمجتمعات "محضونة" من قبل قوى سياسية مسلحة.
لم يكن حزب البعث شعبيا في سورية قبل 1963، ولم يكن السوريون حاضنة اجتماعية له، وإن كانت له بالفعل حواضن في الحقبة الديمقراطية في بلدات أو أحياء أو قطاعات من السكان. معلوم أن الحزب المذكور نال 17 عضوا في البرلمان وقت كان البرلمان السوري 120 عضوا في انتخابات حرة جرت عام 1956. لكن في مستهل هذا القرن كان العدد الاسمي للبعثيين يتجاوز مليونين من السوريين أي أكثر من 10% من السكان وقتها. فهل هذا احتضان اجتماعي من قبل السوريين لـ"الحزب القائد للدولة والمجتمع" على نحو يسوغ "اجتثاثا" من الصنف العراقي؟ أم هو بالأحرى تسلط على السكان، وتشكيلهم عبر السنين، في صورة تناسب دوام حكم البعثيين، بما يحكم على سياسة اجتثاث عمياء أن تكون استمرارا للطغيان البعثي لا قطيعة معه؟ خلال العقود جرى تبعيث واسع الناطق للتعليم وعاش أكثر السوريين في سورية لم تعرف غير حزب البعث، ثم الحكم الأسدي. وعبر السنوات لم يعد مرئيا بصورة واضحة الفارق بين الولاء الطوعي وبين أشكال الولاء المصنعة، وإن بقي الفارق ممكن الإظهار تحليليا، وعبر الاستعانة بالسجل التاريخي. واستنادا إلى التشوش الحاصل، بفعل أربعين عاما أسديا، وتأسيسا عليه ومساهمة في مزيد منه، كان مثقفون قبل سنوات قليلة فقط يستنتجون النظام الأسدي وأشباهه من "بنية الشعب العربي" أو من "نسيج عقليات" عموم المحكومين. ولم يكن الأمر يحتاج تشككا خاصا حتى يرى المهتم أن هؤلاء كانوا يقلبون لأغراضهم التبريرية الخاصة علاقات السبب والنتيجة، وأنهم عمليا كانوا يجعلون عموم السكان المحتقرين هم مقرري مصير بلدنا، فيما يكون أمثال حافظ وبشار ومخابراتهما انعكاسا لهم، إن لم يكونوا ضحية أولئك العوام. هذه "الثقافة" ضالعة بصورة لا تغتفر في قتل ربع مليون من السوريين، ويبدو أن نسخا منها تنتج اليوم لأغراض مماثلة. ومن النسخ الجديدة ما تتوسل نظرية "البيئة الحاضنة" لاشتقاق داعش هذه المرة من ذهنية قطاعات السكان ذاتها التي كان الأسديون اشتقوا منها قبلا.
أقل ما يمكن قوله هو أن نظرية "البيئة الحاضنة" تعميم مضلل، هذا إن لم تكن مصممة لتسويغ العقاب الجماعي والتعامل الإجرامي مع القطاعات الأضعف والأشد فقرا من السوريين. كأداة للتحليل الاجتماعي، البيئة الحاضنة مفهوم ركيك ومشوش؛ ومن حيث التوظيفات الحقوقية والسياسة هو أنسب للسياسات الفاشية، منه لأية سياسات ديمقراطية، تنيط المسؤولية بالأفراد، وبأفعال الأفراد لا بمنابتهم وأصولهم.