حقائق عن جورج أورويل / 15


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 4979 - 2015 / 11 / 8 - 22:42
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

9 . خيانة پوم و أورويل للجمهورية الإسبانية الثانية
مرَّ بنا في الحلقة العاشرة من هذه السلسلة أن حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية قد تشكلت بعد فوز مجموعة الأحزاب و المنظمات السياسية التقدمية الإسبانية التسع المنضوية تحت مظلة ائتلاف "الجبهة الشعبية" في انتخابات شباط عام 1936 . و هذه الأحزاب التسعة هي : حزب اليسار الجمهوري (IR) ، و حزب الاتحاد الجمهوري (UR) ، و حزب العمال الاشتراكي الإسباني (PSOE) ، و الحزب الشيوعي الإسباني (PCE) ، و حزب العمال للتوحيد الماركسي (POUM) ، و "القوميون الغاليسيون" (PG) ، و "القوميون القطلونيون" (ERC) و "الاتحاد العام للعمال" (UGT) و "الائتلاف الوطني للعمال" (CNT) . و لقد وقَّعت قيادات كل هذه الأحزاب و المنظمات التسع – بدون استثناء - على ميثاق هذه الجبهة الذي يستبعد عمداً و بالضبط المطالب الاشتراكية ، و ذلك تفادياً من الجمهورية الإسبانية الثانية لإثارة حفيظة الطبقة الأرستقراطية و ملاك الأراضي و جنرالات الجيش ضدها . و قد نص هذا الميثاق بالحرف الواحد على : "رفض تأميم الدولة للمرافق الاقتصادية ، و قيام الدولة بتقديم المساعدات للقطاع الزراعي ، و اصلاح قانون الإيجار ، و تشجيع الإنتاج التعاوني ، و توفير الحماية الجمركية للصناعات المحلية و تطويرها ، و تشجيع المشاريع الصغيرة ، و توسيع مشاريع الخدمات الحكومية ، و إصلاح النظام الضريبي ". كما نص الميثاق بصريح العبارة على : "إن الجمهورية التي تريدها الأحزاب الجمهورية هي ليست تلك الجمهورية التي تهيمن عليها المصالح الطبقية الاقتصادية و الاجتماعية ، بل هي حكومة الحرية الديمقراطية ."
المصدر :
Payne, Stanley (1993) Spain s first democracy: the Second Republic, 1931-1936. Madison, Wisconsin, USA: University of Wisconsin Press. p. 266-7.

هذا هو نص ميثاق العمل الوطني للجبهة الشعبية التي شكلت حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية بقيادة أزانيا إثر فوزها في انتخابات شباط من عام 1936 . فما الذي عملته پوم في قطلونيا ضمن إطار التزامها المبدئي بهذا الميثاق الذي وقع قادتها عليه ؟ لنقرأ وصف أورويل نفسه بهذا الصدد في الفصل الأول من كتابه : "الحنين إلى قطلونيا" .
يقول أورويل :
" كان الأناركيون [الفوضويون] ما زلوا يسيطرون تماماً على قطلونيا ، و الثورة ما تزال في أوج زخمها ... تلك كانت هي المرة الأولى التي أتواجد فيها بمدينة تحكمها الطبقة العاملة . احتل العمال عملياً كل بناية مهما كان حجمها و كسوها بالإعلام الحمراء أو العلم الأحمر و الأسود الأناركي ؛ و زخرفوا كل الحيطان بالمطرقة و المنجل و بالأحرف الأولى للأحزاب الثورية ؛ و كانت كل الكنائس تقريباً قد تم نهب دواخلها و حرق صورها . و هنا وهناك يتواصل تهديم الكنائس على نحو ممنهج من طرف عصابات العمال . و كل دكان و مقهى ثبتت عليه مخطوطة تبين أنه قد تم تشريكه جماعياً . حتى صباغي الأحذية تم تشريكهم جماعياً و تلوين صناديقهم بالأحمر و الأسود ... و ما عادت توجد سيارات خصوصية ، حيث تمت مصادرتها كلها للأغراض العسكرية ، و كل عربات الترام و الأجرة كانت مصبوغة بالأحمر و الأسود ... و حسب مظهرها الخارجي ، فقد كانت تلك المدينة قد انتهى فيها وجود الطبقات الغنية عملياً ... و لقد اقتنعت بأن الأمور هي على ما كانت تبدو عليه ، أي أنها فعلاً دولة العمال ، و أن كل البرجوازيين إما قد هربوا أو قتلوا أو التحقوا طواعية إلى جانب العمال ؛ و لم أدرك أن العديد من البرجوازيين الأثرياء كانوا ، ببساطة ، يتخفون مؤقتاً كبروليتاريين . "

انتهى اقتباسي المختار لوصف أورويل للوضع في قطلونيا و هي تحت سيطرة مليشيات پوم .

الواضح من الوصف أعلاه أن پوم قد استغلت الوضع السياسي السائد في قطلونيا للقيام بتطبيقات اشتراكية حسب مفهومها الفوضوي لها و ذلك خيانة منها لبنود ميثاق الجبهة الشعبية الذي وقعت عليه قبل الانتخابات و الذي يمنع عليها منعاً باتاً اتخاذ مثل هذه الإجراءات . طيب ، من هو الخائن هنا إذن ؟ مليشيا پوم الانتهازية ، أم الحكومة الشرعية للجمهورية الإسبانية الثانية ؟
إن خيانة پوم لميثاق الجبهة الشعبية واضحة وضوح الشمس هنا ، و هي ليست بالأمر الجديد على انتهازية الفوضويين منذ عهد باكونين في الأممية الأولى ، إلى أعمالهم الخيانية ضد الجمهورية الإسبانية الأولى (1873-4) التي فضحها فريديريك إنجلز في كتيبه الشهير : "الباكونينية في العمل" ، إلى پوم .
و يلاحظ هنا مدى ضحالة الوعي الاشتراكي لأورويل نفسه . ما علاقة "دولة العمال" المزعومة بالنهب الممنهج لموجودات الكنائس و حرقها و هدم بناياتها ؟ الجواب : هذه هي أعمال تخريبية تطعن حكومة الجمهورية الإسبانية بالظهر في وقت الحرب عبر إشاعة الفوضى و سيادة اللاقانون على أراضيها بغية تقديم الخدمة للفاشية ، و هي لا تليق إلا بعصابات الجريمة المنظمة و ليس بمن يدعي لنفسه الثورية العمالية . أبنية الكنائس و ثرواتها هي من ثمرات عمل العمال أنفسهم و ليس أحداً غيرهم ، و من ينهب و يحرق و يهدم و يسرق ثمار عمل العمال هم المجرمون الحقراء . ليس هذا فحسب : ما علاقة التطبيق الاشتراكي باحتلال البنايات كافة ، بضمنها بنايات الدولة ؟ هذا السطو المسلح على المباني لا تقوم به إلا عصابات الخارجين عن القانون . و لكن ليس هذا فقط : كيف يمكن التشريك الجماعي للمقاهي و الدكاكين و سيارات الأجرة و صناديق صباغي الأحذية مثلما يثبِّت أورويل ؟ الجواب : لا يمكن ذلك مطلقاً إلا عبر فرض پوم نفسها رأسمالياً عليهم و سرقتها لنسبة من مدخولاتهم اليومية لمنفعتها . لماذا ؟ لأن هذه كلها هي مشروعات فردية لا يوجد فيها أرباب عمل رأسماليين مستغلين لكي تستوجب التشريك الجماعي أصلاً . و هذا هو بالفعل ما حصل ، إذ فرضت مليشيات پوم نفسها من فوق كرأسمالي حقير يتسلط ليس فقط على أجور العمال في المصانع و المزارع ، بل و حتى على مدخولات صباغي الأحذية و أصحاب المقاهي و الدكاكين الفردية و اصحاب سيارات الأجرة و حتى على سكان الدور السكنية المصادرة . كما صادرت لنفسها كل ممتلكات الدولة ، بضمنها الثكنات العسكرية و مراكز الاتصالات ، و راحت تتنصت على المخابرات البرقية و الهاتفية الرسمية للجمهورية الإسبانية الشرعية المنتخبة ديمقراطياً . هذه هي دولة قطاع الطرق داخل دولة الجمهورية الإسبانية الثانية و ليس "دولة العمال" مثلما يزيف أورويل . بل ، و ليس هذا فحسب . كيف تقوم پوم بقتل البرجوازيين و تشريدهم في ظل "دولة العمال" مثلما يعترف أورويل بذلك صراحة ؟ ما علاقة الثورية الاشتراكية بقتل و تشريد المواطنين العزل الأبرياء ؟ الجواب : القتل و التشريد للمدنيين له علاقة بعصابات المجرمين القتلة من طراز الدواعش و من لف لفهم ، و ليس بثورية "دولة العمال" مطلقاً مثلما يدعي أورويل لكون الاشتراكية هي نظام تحرير الجميع من الاستغلال و ضمان العيش الكريم لهم و ليس قتلهم و تشريدهم . لا تعي ضحالة أورويل أن الحقيقة الثورية ليست هي في ألوان اليافطات و الشعارات المرفوعة ، بل هي في نوعية الإجراءات المطبقة على أرض الواقع و من هي الجهات المتربِّحة منها . و لقد آثرت پوم معانقة السياسة الانتهازية الخيانية هذه ضد ميثاق الجبهة الشعبية الذي وقعت عليه لضمان امتلاء جيوبها بالغنائم الحرام .
و إزاء كل هذه الجرائم و الخيانات الفاضحة لپوم ضد المصالح العليا للجمهورية الإسبانية ، و استهتارها بضرورات ترصين الجبهة الداخلية أثناء الحرب التي يعترف بها أورويل بعظمة لسانه ، فلماذا يزيف أورويل كل هذه الوقائع التاريخية بتصويره تحرك قوات الشرطة للجمهورية الإسبانية الشرعية في مايس لفرض النظام و سيادة القانون في برشلونة بكونه "خيانة شيوعية " للعمال من الخلف ؟ مَنْ الذي يخون و يطعن مِنَ الخلف مَنْ هنا : عصابات المجرمين القتلة لپوم (ممن يحلو لأورويل تسميتهم بالثوار تعكزاً بألوان يافطاتهم) ، أم شرطة الجمهورية الإسبانية الشرعية ؟
في الثالث من شهر مايس ، 1937 ، وصلت ثلاث شاحنات من رجال الشرطة التابعين لحكومة الجمهورية الإسبانية إلى دائرة الهاتف في برشلونة ، و طلبوا من رجال مليشيا پوم و بشكل سلمي تسليمهم تلك الدائرة الحيوية و الحساسة و ذلك بموجب أمر رسمي صادر من السلطة الشرعية بهذا الشأن . هنا ، لم تكتفي مليشيات پوم برفض قرارات الجمهورية المنتخبة ، بل و لقد أطلقت نيرانها على شرطة الحكومة الشرعية ؛ و أردفت ذلك بقيام عصاباتها بنصب المتاريس و شن حرب الشوارع التي ساهم أورويل و كوپ و فرانكفورد و غيرهم فيها ضد شرطة الحكومة الشرعية ، حيث سقط العديد من الجرحى و القتلى من الطرفين ، لتقدم پوم بذلك أثمن خدمة للقوات الفاشية المحدقة بالجمهورية . استمر هذا الوضع ثلاثة أيام ، و انتهى حال وصول قوة كبيرة من قوات شرطة الحكومة الشرعية إلى برشلونه ، و التي فرضت سلطة القانون على المدينة . و إزاء ارتكابها لكل هذه الجرائم الفظيعة ، فقد اضطرت الحكومة لحل پوم ، و نزع سلاح أفرادها ، و محاسبة المتهمين بالجرائم منهم قضائياً .
قارن عزيزي القارئ الكريم بين هذا الموقف الخياني لبوم عندما تجرأت مليشياتها على فتح النار على شرطة الجمهورية الإسبانية التي جاءت لتنفيذ أمر رسمي لاستعادة دائرة الهاتف المركزية في برشلونه منها ، و بين الموقف المسؤول لقيادة الفيلق الاممي في تشرين الأول عام 1938 ، عندما طلب رئيس الوزراء الإسباني خوان نغرين حله ، أملاً بقيام بريطانيا و فرنسا بالمقابل بإلغاء حضرهما المفروض على توريد الأسلحة للجمهورية الإسبانية ، و هو الأمل الذي لم يتحقق قط . عندها ، تم حل الفيلق الأممي فوراً . لماذا ؟ لأن هذا الفيلق انما قد تشكل أصلاً لخدمة الجمهورية الإسبانية ، و ليس لخدمة نفسه مثل بوم ، و عندما يعتقد رئيس وزراء هذه الجمهورية بأن في حله مصلحة للجمهورية ، عندئذ يصبح تنفيذه أمراً واجباً . هذا هو الفرق بين جرائم قطاع الطرق و بين التزام الثوريين المبدئيين .
و ما أن تولت شرطة الجمهورية الإسبانية الثانية فرض الأمن و سيادة القانون على برشلونه ، حتى ولّى غالبية الثلاثين متطوعاً من حزب العمال البريطاني المستقل – و منهم أورويل و زوجته و ماكنير – الإدبار من إسبانيا كالجرذان ، أو ألقي القبض عليهم لارتكابهم أفظع الجرائم فيها . بهذه الطريقة خدم هؤلاء القضية العادلة لجمهورية الإسبانية الثانية . و كالعادة ، فإن كل هذه الحقائق تصبح عند أورويل هي الأكاذيب ، و العكس بالعكس . المطلوب من ذهان أورويل هو اصطناع مؤامرة شيوعية موهومة ليتمسح بها فينصب من نفسه بطلاً بلا بطولة على حساب سمعة الجمهورية الإسبانية الثانية الشرعية المغدورة بكل جبن و خسة من طرف القوى الغاشمة للإمبريالية العالمية جمعاء التي خنقتها و آزرت بنذالة أعداءها الفاشيين المنقلبين على الشرعية الديمقراطية في نفس الوقت . كيف ؟ لا يوجد أبسط من ذلك : باختزال "شرطة الجمهورية الإسبانية" كلها بـ "الشيوعيين الستالينيين" ، و تسمية المليشيا الخارجة على القانون بالثوار ، فقط ؛ و لقد كانت الإمبريالية تحب عبادها الأفّاكين الكذابين . مثل هذه التسلكات أمر متوقع لأن جنون معاداة الشيوعية من طرف خدم الإمبريالية يعمي العيون و تصم الآذان عن تمييز أنصع الوقائع و الحقائق ، و يزيّن للقتلة و للجواسيس تبييض جرائمهم بفقاعات أوهامهم بكونهم ثواراً بكل حق و حقيق . عند هؤلاء : القتلة و الخونة هم ثوريون ؛ أما الثوريين الحقيقيين فهم خونة قتلة . ألم يصرح أورويل عام 1940 بأن صورة المجرم هتلر بقميص قوات الصاعقة النازي الأسمر تستحضر لديه صور عذابات بروميثيوس و نابوليون و المسيح المصلوب ، و أن هتلر المعذب يستحق الانتصار على أعدائه رغم عناد القدر ؟

لم تكن تنقص بلاغة أورويل وقتها سوى قيامه برفع عقيرته المبحوحة مغنياً لحبيبه المعذب هتلر أغنية :

آه من قميصك الاسمر يا غدار ؛
صحيح شواءك ده ، و لَّا هزار ؟

يتبع ، لطفاً .