العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الرابع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4966 - 2015 / 10 / 25 - 10:04
المحور: الادب والفن     

جاءت فرانسواز مع حميد، وهي تصيح:
- النار تجتاح الرَّدْب!
وثبنا أنا ورونيه نحوها، وأخذتنا في سيارتها. جأر نهر السين، وولولت طيور الليل، والأمواج تنهك قاربًا لا يريد الغرق، بلا شراع. لم ينفك رونيه، وهو ينحني على ظهر المقعد الأمامي، يردد:
- أسرعي! أسرعي!
وصلنا أخيرًا إلى الرَّدْب في اللظى، تمزقت أشرعة النار، والعالم بلونه النزق لا يقلقه ذلك. رأيت مارتا شبه عارية، ورأيت أم أندريه، امرأة رونيه، امرأة لحسن، الأولاد، أشباهًا للأجنحة. كان سكان الرَّدْب قد ألقوا في الشارع ما استطاعوا إنقاذه من متاع، وقد قذفوا كذلك دلاء الماء، لكن بلا جدوى، فالنار تتقدم، تتقدم، ترقى، ترقى في الليل، تخرم الليل، وتتقدم.
- أين رجال الإطفاء، يلعن دين؟ صحتُ.
- منذ ساعة ونحن في انتظارهم، قالت مارتا.
وانفجرت باكية.
- يا إلهي! تأوهَتْ.
نادت أم أندريه، وهي تشد الصليب في يدها:
- ماري! ماري! تعالي إليّ، حبيبتي ماري!
فتكت النار خاصة بالقسم الذي نسكنه، أنا ورونيه وأندريه.
عوت امرأة رونيه، فزعًا من قوة النار، التي عجزنا عن إخمادها. أخيرًا، سمعنا نفير رجال الإطفاء، الذين وصلوا حَيَّنا. تجمعنا خارج الرَّدْب، وعددنا أطفالنا لنكتشف أن العدد ينقص عما كان عليه.
جُنَّت زوج رونيه، اندفعت داخل اللهب، وهي تريد إنقاذ ابنها بأي ثمن، لكن النار الأقوى قهقهت ساخرة، ودفعتها نحونا، فأمْسَكَتْها أذرعنا.
أُغمي عليها، كَسِرْبٍ من الطير، على شفا جُرفٍ هاوٍ، كبضاعة مطروحة في الأسواق. قادتها فرانسواز إلى المستشفى، وأشرعة النار تنطوي كالبرق في الغيم، تحت تأثير خراطيم الماء. وكما لو كان ذلك بسحر ساحر، تحولت إلى دخان أشبه بالشجر العملاق، في السماء. تساقطت أوراقها، وعلت أظافرها السوداء مشيرة إلى الاتجاه الذي علينا أن نسلكه.
صحونا من غفلتنا، لنكتشف ما آل إليه مأوانا: ركام أحمق، رماد أخرق، لهب أزرق. لأول مرة، رأيت حسين مذهولاً، لكنه سَيِّدٌ لكل حواسه، كَيِّسٌ بكل حقده. رأيت كذلك، الأسرة صاحبة التلفزيون، كيف تجذب جهازها في حضنها.
- نار كهذه لم أر في حياتي مثلها!
ارتعد والد لحسن، لحسن، وأولاد لحسن يحدقون بعين فزعة في الرغوة البيضاء التي تبصقها الأفواه الميكانيكية على حَيِّنا. رأيت أصغرهم سنًا، وهو يمص إبهامه، جالسًا على المتاع الملقى هناك. عَبِثَت إصبعه بترانزيستور، فغنى كمال: في الميزير، انت حبيبي، في الميزير! احتد لحسن على سماعه، واتجه نحو الترانزيستور ليحطمه. لم أدر لماذا بحثت عن مدام ريمون، التي كانت تقف خلفي. انحنت على أذني، وهمست:
- أراد المتعهدون أن أبيع بأي ثمن، وها هي النتيجة.
- هل تعتقدين أنهم هم...
- لم أخضع لتهديداتهم.
- ...الذين فعلوا هذا؟
- ومن غيرهم، في رأيك؟
أضافت:
- المحظوظ بيننا، هو الطبيب البيطري، عيادته لم يمسها الشيطان!
التفتنا إلى شخص تخنقه الدموع، فرأينا رونيه، وهو يشد طفليه إلى صدره.
- المجرمون! دمدمَ. قتلوا أخاكما الصغير!
مضى إطفائي قربه، وقال لنا:
- إنه الغاز دون أدنى شك!
نهض رونيه، بهيئة شرسة، وأبدى اعتراضاته للجميع، وهو يشهر التهديد الذي استلمه منذ يومين.
- خذوا، اقرأوا، لتعرفوا من هو المجرم الحقيقي.

* * *

تركهم المارتينيكي في حوار حاد يدور حول من أضرم النار في حي بيلفيل، وما كان يرمي إليه إضرام الفتنة بينهم، على الأقل الوقت الذي ينجز فيه مأموريته. ستكون الأخيرة، قال لنفسه، وسأختفي بعد ذلك عن الأنظار، عند الظهر تمامًا. سأعود إلى المارتينيك، جزيرتي التي أكرهها أكثر من أي مكان آخر في الكون، أكره بحرها، أكره شمسها، أكره أهلها. لا تكره أحدًا، يا ولد! كانت تنهره أمه، أبوك يحب الكل، فكن كأبيك! لهذا انتحر أبي، يا ماخور، لأنه يحب الكل! انتحر، هل تفهمين؟ انتحر! ربط قدميه بالسلاسل، ورمى بنفسه في البحر. يحب السمك بالأحرى! يحب الكل، يحب الكل! بل يحب السمك، يحب السمك! وإلا لماذا ألقى بنفسه في البحر، يا مومس غائط العيشة؟! يحب الكل، يحب الكل! فليحب الكل ما شاء له، هذا الأب الطيب القلب! هذا الأب الغائط! يا مومس غائط العيشة! لهذا أَحَبَّ الكل، هذا الأب الغائط، ولم يحبك! يا أمي، أَحَبَّ الكل، هذا الأب الغائط، ولم يحبك! يا أمي، أنتِ كذلك لم تحبيه يومًا، هذا الأب الغائط، يا مومس غائط العيشة! يا أمي، أنتِ لم تحبي أحدًا يومًا، مثلي، مثلي أنا، يا ماخور الماخور! لم تحبي أحدًا، لأن أبي لم يكره أحدًا! كان عليه واجب حبهم كلهم، خاصة أولئك الذين كانوا يجيئون لرملنا وبحرنا وشمسنا، المليئة رؤوسهم بالأفكار السافلة، أولئك الذين كانوا يحلمون كيف يأخذونك في كل الأوضاع، من ظهرك خاصة، من ظهرك، أبناء المومس، من ظهرك، بينما أنظر إليهم، وهم لا يبالون بعين الطفل التي لي، عين بريئة، كانوا يقولون لأنفسهم، فهم يثمّنون الأعين البريئة للأطفال، البراءة، يحمونها، يدللونها، يشخون عليها، من ظهرك، يا مومس غائط العيشة! الوضع الضد الحضاري على أكمل وجه، الوحشي بوداعة، العادي في العين البريئة، فكم من مرة كان يتكرر هذا في اليوم بعيدًا عن العين البربرية لأبي الذي كان يحب الكل، أكثر من السمك، كنتِ تعتقدين، لكنه لم يكن يأخذ قاربه للصيد، كان يأخذ القارب ليبتعد أكثر ما يكون عن الوضع الضد الحضاري، ليحب السمك أكثر من أي شيء آخر، يا مومس غائط العيشة! ليقول لأفكارهم السافلة، أنا أحب السمك أكثر من أي شيء آخر، فليس للسمك ما لكم من أفكار سافلة، ليست المارتينيك للسمك ماخورًا، يا ماخور الماخور! ليست القُبلة الفاحشة، ليست العضة الباغية، ليست الشيء الإلهي بين الإليتين! إلهي هو هذا الشيء عندما لا يتحول إلى فائض قيمة، عندما يكون ملكية خاصة، عندما نتعامل معه كحق فردي لا كحق جماعي، نعم الشيء الإلهي حق فردي، كل ما هو إلهي حق فردي، حق شخصي، حق جحيمي، يا مومس عيشة الغائط! وأول الحقوق الفردية هو هذا الشيء الإلهي الذي بين الإليتين، هكذا يكون الحق الفردي حقًا طبيعيًا! الحق الطبيعي، الحق الجسدي، الحق الإنساني، يا مومس عيشة الغائط! لكنهم جاؤوك، يا أمي من بعيد، من بعيد جدًا، آلاف الكيلومترات، من بعيد جدًا جدًا، يا ماخور الماخور! لم يجدوا الوضع الضد الحضاري عندهم، في قلب حضارتهم، وهم إن وجدوه ملّوه، لأنهم يريدون شيئًا وحشيًا، شيئًا بربريًا، شيئًا لا يُقَدَّر بثمن، لا يُقَدَّر بفائدة، لا يُقَدَّر بمسافة، من بعيد جدًا، آلاف الكيلومترات، من بعيد جدًا جدًا، ولم يهمهم أن يجرموا، لم يهمهم أن يدفعوا أبي إلى الانتحار، لم يهمهم أن أُشعل عود ثقابي (أَشعل المارتينيكي عود ثقابه)، وأن أُحرق العالم (أَحرق المواد الأولية).


يتبع القسم الثالث الفصل الخامس


* يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".