نحن وزمن -الما بعد-


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 4962 - 2015 / 10 / 21 - 14:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يلتقي قارئو أدبيات الإنسانيات المنشورة في بلدان ما يعرف بالعالم المتقدم، يلتقون كثيرا بسابقة الـ "ما بعد" Post. فيرونها في عناوين الكثير من الموضوعات من قبيل "ما بعد الفوردية" Post-Fordism و"مابعد الماركسية" Post Marxism و"مابعد التاريخ" Post History و"مابعد الإنسانية" Post Humanism و"مابعد الحداثة" Postmodernism. وأخيرا وليس آخرا يرونها في مجتمع "ما بعد الصناعة" Post Industrial الذي تتعدد مسمياته بدءا بـ "مجتمع المعلومات" وإنتهاءا بـ "مجتمع المعرفة". ويعكس هذا الاستخدام المتكرر لسابقة الـ "ما بعد" إلى تلك النزعة المتأصلة في مجتمعات الأمم المتقدمة لـ "المراجعة" المستمرة لما يكون قد ترسخ في ثقافاتها من مسلمات وأفكار وتصورات عن الواقع المعاش. ولاتقتصر هذه المراجعة على ما ثبت خطأه أو قصوره من أفكار بل تمتد لتشمل حتى تلك الأفكار التي أثبت صحتها مردودها الإيجابي على أحوال المجتمعات التي تبنتها. ولاتنحصر نتائج تلك المراجعات وآثارها على مجتمعات المنشأ بل نراها تمتد لبقية المجتمعات لتؤثر في أحوالها بشكل أو آخر. لذا لا يكون مستغربا إن أطلقنا على زماننا اسم "زمن الما بعد".

فعلى سبيل المثال كانت "ما بعد الفوردية" نتيجة لمراجعة فلسفة "الفوردية"، نسبة إلى رجل الصناعة الأمريكي الشهير هنرى فورد، التى سادت منظومة الإنتاج الصناعي في الفترة ما بين 1914 و1973 وتميزت بالإنتاج الضخم للسلع المنمطة والتخصص بالغ التفصيل للمهام والهياكل الإدارية متعددة الطبقات. وقد تمت هذه المراجعة استجابة لعوامل عديدة من أبرزها عولمة الأنشطة الاقتصادية والاستخدام المكثف للكمبيوتر في عمليات الإنتاج. كما كانت "ما بعد الماركسية" نتيجة لمراجعة الأفكار الرئيسية للفكر الماركسي التقليدي مثل فكرة "صراع الطبقات كقوة دافعة لتطور المجتمعات" وفكرة "البروليتارية كالطبقة القائدة لعملية التغيير". وذلك على ضوء التغيرات الهائلة التي شهدتها المجتمعات الرأسمالية بدءا من سبعينات القرن العشرين وتفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار العديد من الأنظمة التى تبنت الماركسية كفلسفة سياسية واقتصادية. أما حركة "ما بعد الإنسانية" فكانت نتيجة لمراجعة فكرة "عملية التطور البيولوجى للإنسان" بهدف تحرير الإنسان من بطء إيقاعها وضيق خياراتها وإلى قيادته نحو عملية "التطور الذاتي" Autoevolution التي تتميز بسرعة إيقاعاتها وبراح خياراتها وتقوم على الاستخدام المكثف للمعرفة العلمية والابتكارات التكنولوجية. فـ "ما بعد الإنسان"، من منظور هذه الحركة، سيتمتع بقدرات عقلية تفوق عباقرة إنسان اليوم، وسيكون قادرا على مقاومة الأمراض ويسيطر على الشيخوخة ليتمتع بشياب دائم، هذا بالإضافة إلى قدرته الفائقة على السيطرة على غرائزه وأمزجته.

وقد اسفرت هذه المراجعة المستمرة عن مجتمع جديد من أبرز ملامحه "الانفجار المعرفي" و"التغير (او التطور) التكنولوجي المتسارع" و"الاستفادة العاجلة". وأول هذه الملامح، "الانفجار المعرفي"، هو الزيادة غير المسبوقة في حجم المعرفة العلمية التي ينتجها الانسان. وفي العادة يقاس "الانفجار المعرفي" بالزمن اللازم لمضاعفة الرصيد (كمية) المعرفة المتوفرة. فعلي سبيل المثال تقلص الزمن اللازم لمضاعفة هذا الرصيد من 50 سنة في الفترة (1900-1950) الى 8 سنوات في الفترة الحالية (1950 - ...). وثاني هذه الملامح، "التغير (او التطور) التكنولوجي المتسارع" والذي يتبدى في تناقص زمن دورة التغيير والتجديد في التكنولوجيا والمؤسسات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال تطرح شركة سوني اليابانية منتجا جديدا كل 20 دقيقة بينما تقدم شركة ديزني الأمريكية منتجا جديدا كل 3 دقائق ...! وطبقا لدراسة حديثة فإن معدلات التغيير خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تبلغ خمسة أضعاف متوسط معدلات التغيير في القرن العشرين (Kurzweil, 2005). اما ثالث الملامح، "الاستفادة العاجلة"، فهو تناقص الفترة الزمنية اللازمة للاستفادة من الاكتشاف العلمي في تطوير منتج او تقديم خدمة. فعلي سبيل المثال لم تتم الاستفادة من نظرية الموجات الكهرومغناطيسية، التي طورها عالم الفيزياء الإنجليزية سنة 1864، الا بعد مرور 31 سنة عندما تمكن ماركوني من تنفيذ اول اتصال لاسلكي عبر الاطلنطي سنة 1901. الا ان الأمر لم يستغرق سوى 9 سنوات لتتجسد الة تيورنج، التي طورها عالم الرياضيات الإنجليزية سنة 1937 كنموذج للحسابات الآلية، تتجسد على هيئة اول كومبيوتر رقمي سنة 1946.

وفى المقابل تبرز ظاهرة "مجتمع الما قبل" التي تسود أغلب ثقافات مجتمعات بلدان الشرق الأوسط بصفة عامة وتلك الناطقة باللغة العربية بصفة خاصة. فثقافات هذه مجتمعات تتميز بنزعة "ماضوية" تقدس كل ما تبناه السلف من أفعال وأقوال فـ "كل خير في إتباع من سلف ... وكل شر في إتباع من خلف". فالمستقبل المأمول من منظور هذه الثقافات ليس إلا "إعادة إنتاج" لحقبة تاريخية بعينها والماضي في أعرافها هو دوما "الزمن الجميل". وهكذا تقع مجتمعات هذه البلدان فى فخ "التبعية المزدوجة" ...! وأولى أبعاد هذه التبعية المزدوجة هو "التبعية للماضي" حيث تسيطر أفكار، بل وأساطير، الماضي، على نظرة هذه المجتمعات لأحوالها المعاصرة وعلى تفسيرها وفهمها لما يدور في عالمنا المعاصر من تغيرات. ومما فاقم الأمر سوءا هو اضفاء القداسة على هذه الأفكار ليصبح من يفكر في مراجعتها خارجا عن الملة ومستهينا بثوابت الأمة ...! وما حدث لإسلام بحيري، ومن قبله نصر أبو زيد، الا امثلة على استبداد النصوص. وبالطبع يؤدى هذا بالضرورة إلى تقليص قدرة هذه المجتمعات على التكيف والتطور مع مقتضيات العصر وإلى عدم تقدير لقيم الإبداع والابتكار في شتى المجالات. لذا نراها عاجزة عن إنتاج المعرفة، بشتى صورها من معرفة علمية وابتكارات تكنولوجية وتنظيمية. وهكذا يصبح انتاج العنف وكراهية الآخر هو البديل الذي يعوضها عن هذا العجز. كما يقودها هذا العجز في إنتاج المعرفة إلى البعد الثاني من أبعاد التبعية وهو تبعيتهم لمن ينتج المعرفة وعجزهم عن الاستخدام لما يستوردونه من معارف الاستخدام الأمثل. وهكذا تعاني هذه المجتمعات من "صدمة الحضارة"، حضارة الآخرين من منتجي المعرفة، فنراهم يستهلكون ما ينتجه الآخرين مرددين "سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰ-;-ذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ" (سورة الزخرف 13)، ولكنهم في نفس الوقت ينظرون اليهم نظرة متعالية واصف إياهم بأحفاد القردة والخنازير (عجبي)!

إننا نعيش الآن "زمن الما بعد"، زمن "ما بعد" ماإستقر في عقولنا من أفكار حتى تحجرت فيه كمسلمات غير قابلة للنقاش، و "ما بعد" ماإعتدنا عليه من مؤسسات ونظم اجتماعية تجمدت حتى تكلست وأصبحت غير قابلة للتغيير، و "ما بعد" منظومة قيم رفعناها إلى مرتبة القداسة فأصبحت أي دعوى لمناقشتها من المحرمات. و"زمن المابعد" هذا قد أصبح "زمن الآن" بالنسبة للعديد من المجتمعات. وفى زمن تلاشت فيه الحواجز التي تحد من انتشار المعلومات والأفكار بفعل الإنترنت والفضائيات لا عاصم لنا من موجة زمن المابعد إلا بالانفتاح على ما تحمله إلينا والتكيف مع معطياتها. ولا يتأتى هذا إلا بمناقشة ما نعتبره من مسلمات وبمراجعة ماإستقر عليه المجتمع من بنى ومؤسسات وبتنقية منظومة قيمنا مما يحد قدرة مجتمعنا على الانطلاق. فعلى حد قول مالكوم إكس، الناشط أمريكي المدافع عن حقوق الأمريكيين من أصل أفريقي، "المستقبل هو فقط ملك لمن يعدون أنفسهم له للقاءه اليوم".
المراجع
Kurzweil, R. 2005. The Singularity is Near: When Humans Transcend Biology. London: Binguin Books.