العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل العاشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4961 - 2015 / 10 / 20 - 10:41
المحور: الادب والفن     

وصلت نادين: فتاة حلوة، كستنائية الشعر، هي ومارتين أشبه من الماء بالماء. جاءت لترانا، وتودعنا. كان عليها الذهاب إلى بيروت لتمنع الموت عن الأطفال، وكان لدي انطباع أنني أعرفها منذ وقت طويل، هذه الممرضة التي تحب الأطفال بقلب طفلة.
أعدت لنا مارتا للعشاء طبقًا أفريقيًا. كان ألبير وفرانسواز وعادل معنا وكذلك بيير ومادلين. جاءت وردة كذلك. حاول عادل إيجاد تقارب مع نادين، وحاولت وردة إيجاد تقارب مع عادل.
خلال السهرة كلها، لم يتبادل ألبير وفرانسواز سوى بعض الكلمات، بدا أن هناك سوء تفاهم بينهما. أسقتنا مارتين بسخاء، حتى أن مارتا شربت معنا كأسًا كبيرة، وسمعنا موسيقى فرنسية وعربية وإفريقية. قال عادل لمارتا إنه يعرف السنغال عَبر أفلام وكتب سمبين عثمان، وسأل ألبير إذا ما شاهد فيلم "خالا".
- لا، أجاب ألبير، شاهدت بالأحرى "الحوالة".
أخذ يحكى لنا حكايتها: يرسل عامل سنغالي حوالة إلى عائلته، تتأخر عن استلامها لأن العم لا يملك بطاقة تعريف. بانتظار صرفها، الأهل، لكن أيضًا كل الحي، يبنون قصورًا في إسبانيا. يركض الجيران بحلل الأكل، التجار بالبضائع، يضاعف حمال الماء عدد جراره. يدين بعضهم، ويستدين بعضهم. طبعًا، يَعِدون بقروض حتى يستلم العم الحوالة. وبدورهم، يبنون قصورًا في إسبانيا. يدينون، ويستدينون، وهكذا حتى اللحظة التي يستلم فيها العم الحوالة، ويسلبها منه موظف بطرقه الماكرة.
قال عادل إنه يود كتابة كتاب عن سمبين عثمان، وهو لا بد فاعل، لأنه يعتبره أحسن كاتب أفريقي، زيادة على كونه سينمائيًا عملاقًا.
- هل ترين ما ينتجه السنغال من رجال؟ قالت مارتين لمارتا.
ضحكت مارتا.
- السنغال عظيم بعظمة فرنسا! أجابت.
- أما سنغور، رد عادل، فلم يكن يومًا سنغور!
غير أن مارتا أعادت:
- السنغال عظيم بعظمة فرنسا!
تابع عادل فكرته:
- يصدّق فعلاً ما اختلقته السلطة هنا في فرنسا بخصوصه: أنه أحد عقلاء أفريقيا. طبعًا عندما يصف الغرب أحدًا بالعاقل، هذا يتضمن أشياء كثيرة.
- إنه مسحور بالنظام الليبرالي، رد ألبير، ولا تنس أنه إنتاج هذا النظام.
- أما شعره، فهو يترجم بعض "الأَنْسِيَّة"، نزعة إنسانية يتصرف حسبها تصرف المفهوم الليبرالي الذي يحاول تفسير السلبي بالسلبي، دون المساس بأسبابه الحقيقية. طبعًا، الحجة هي طبيعة الشعر ومتطلباته الفنية!
- لأن الليبرالية هي هذا: تأخذ المظاهر كحقائق، وتتجاهل الأسباب، التي من وراء عذابات البشر. لماذا؟ لأن الليبرالية كنظام، هي خالقة هذه الأسباب.
- لهذه الأسباب سبب.
- سبب مفتعل، ثانوي.
- أساسي.
- العالم يتحرك لا العالم يتغير.
- العالم يتحرك.
- العالم يتغير.
- العالم لا يتغير.
- العالم لا يتحرك.
- العالم يتحرك بالنسبة لهم.
- لليبراليين، فيطلبون منا أن نتكيف.
فتحت مارتين الباب لرونيه، كنا قد انتهينا من الأكل، فسألته مارتا إن كان يريد العشاء. أجاب أنه أكل شيئًا. أردنا أن نقدم له نبيذًا، لكنه رفض حتى شرب العصير. قال إنه لا يريد أن يشرب شيئًا هذا المساء.
قدمنا له نادين، فحياها بأدب، وأثنى على جمالها. أكد عادل كلامه، ونادين تتورد.
قررنا أن نعمل ملصقًا بمناسبة الاجتماعات الشعبية، والحملة الإعلامية الواسعة.
استعد الكل للإسهام في هذه المبادرة ما عدا عادل الذي يرغب في إنهاء تحرير كتابه عن الحرب في لبنان، وفرانسواز التي طلبت استشارة حزبها والعمل حسب تعليماته.
في اليوم التالي، علمنا أن المظاهرات اجتاحت الأرض المحتلة احتجاجًا على المحتل، وأن الجنود فتحوا النار على المتظاهرين. كان هناك قتلى وجرحى، وهاجم الجنود بعد ذلك المضربين عن الطعام من الأسرى.
في المساء، قلت لمارتين:
- سيقتلون أخي الصغير، السجين دومًا.
- لن يقتلوه، أكدت مارتين.
- بلى.
- لن يقتلوه، يا حبيبي.
- سيقتلونه.
- عناصر تعشق السلام والعدل توجد عندهم.
- سيقتلون أخي الصغير، أعدتُ، سيقتلونه.
أخذتني بين ذراعيها.
- لا تخف، يا حبيبي! همست في أذني. كل البشر العاشقين للسلام والعدل سيسهرون على أن يبقى أخوك على قيد الحياة.
نظرتُ في عينيها، فطمأنتني من جديد:
- لا تخف، يا حبي! لن يقدروا على قتله.
ومست عنقي بشفتيها مسًا خفيفًا.

* * *

استلقى سليم وشيمون على الشاطئ تحت الشمس الدافئة لربيع حيفا، وهما ينعمان بلحظات يعجز حق الشعوب في تقرير مصيرها عن الإتيان بها.
- الوطن في الجسد، يا شيمون! قال سليم.
- الوطن... أعاد شيمون مفكرًا.
- في الجسد، أكد سليم.
- ...في الجسد.
- والحرية وهم.
- تريد القول، ماذا تريد...
- عِشْ وهم الحرية تصبح حرًا.
- ...القول؟
- ربيع حيفا غير حقيقي، وهم، لهذا شمسه دافئة.
- كل شيء وهم.
- البحر وهم.
- حتى البحر؟
- حتى البحر، حتى الرمل، هذا الرمل الذي أنثره بيدي، حتى الناس الذين هم حولنا، كلهم، وعلى الخصوص، تلك الحورية التي تتحدى الحيتان بجسدها.
- حتى الحيتان.
- حتى الحيتان، مع كل ثقلها وعلى الرغم من حجمها، وربما بسبب هذا الثقل وهذا الحجم الحيتان وهم. هكذا كانت الحيتان، وهكذا ستبقى، فالأوهام تتجاوز الأزمان.
- الأوضاع ستبقى هكذا إلى الأبد.
- الوضع، في حالتنا.
- وضعنا.
- وضع التسلسل في الدرجات، فهناك الحيتان، وهناك غير الحيتان من شتى أنواع الأسماك.
- وفي الأفعال.
- وعلى كل المستويات، المالية أعلاها، مالية الحيتان، أفظعها، أجرمها، الإنسانية نعلها.
- ومن الطبيعي في مجتمع "درجاتي" كهذا أن يدفع أحدهم الثمن، هنا أو هناك، هناك أو هنا.
- دون بكاء.
- كل أنهار الدموع هذه تباكٍ لا ينفع في شيء.
- يضر.
- نعم يضر.
- هل تعرف لماذا يضر؟
- لماذا؟
- لأنه يُظهر بشكل مذهل الحيتان كشخصيات السينما، الوهم، دومًا الوهم، شخصيات لها الكثير من السلطة، شخصيات كاملة، كشوكولاطة "لِندت" في الصفحات الدعائية، شوكولاطة كاملة، ليغروا بحبها، ولا يعلمون أنهم "يغرون بكرهها"، فيقضون على الوهم من حيث لا يشاؤون، ويجعلون الناس يعيشون لحظات من الخلل العقلي، لحظات تبعدهم عن إنسانيتهم الوهم، ليرتكبوا الحماقات، فهذه الحماقات التي يرتكبونها هي شرط العودة إلى الحرية الوهم، الحرية كما يجب عليها أن تكون، وَهْم بِوَهْم بِوَهْم.
وصلتهما قطعة موسيقية يعزفها موسيقي على كمان، وأمواج البحر ترتفع حتى خاصرتيه، من أروع الألحان.
- هل تعرف ما تثيره هذه الألحان الرائعة في نفسي؟ سأل سليم.
- ما تثيره شوكولاطة لِندت، همهم شيمون.
- أكثر مما تثيره شوكولاطة لِندت.
- ماذا؟
- الرغبة في قتله.
- قتل الموسيقي، يا ماخور؟
- ومن يكون غيره في ظنك؟ هذا هو أثر ثقافة "الروائع" في عصرنا، عصر الوهم، ثقافة تهيننا بجمالها، فنفعل كل شيء لتدمير كل شيء، هذا هو جوهر الإرهاب، اليوم، تحت كافة أشكاله، هذا هو سره.
فجأة صاح سليم بشيمون، وهو يحميه بجسده:
- حذار!
فغرس شاب بعينين يائستين مجنونتين، نصل سكينه في كتف سليم، بينما سحب شيمون مسدسه من سترته الملقاة إلى جانبه، وأطلق على المعتدي الرصاص.
- ارحمني من عينيه، ابتهل سليم.
عاد شيمون يطلق على المعتدي الرصاص، وهو يجمجم "يا ماخور الماخور!"، وهذه المرة أرداه قتيلاً.
- نادِ سيارة إسعاف، يا ماخور الماخور، أنا أتألم! هل صدقت ما أقول؟
- قلتُ لنفسي...
- كل أوهام الحياة لا تعادل ألمًا كهذا!
- ...ما هذه الفلسفة التي سقطت على رأسه؟
- سيارة إسعاف، يلعن دين!
- حالاً.
- بسرعة.
- حالاً، حالاً.
- بسرعة، بسرعة.
- حالاً، حالاً، حالاً.
- بسرعة، بسرعة، يا ماخور الماخور، بسرعة!



يتبع القسم الثاني الفصل الحادي عشر والأخير



* يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".