من القومية العربية إلى النهوض بالعبء الإسلامي


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4959 - 2015 / 10 / 18 - 18:34
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

خلافا للشعوب الثلاث الكبيرة في الشرق الأوسط، الترك والفرس والكرد، العرب خرجوا من القومية بعد دخولهم فيها بوقت قصير. نخب الترك والفرس والكرد قومية كثيرا بالجيد في ذلك والسيء، خلافا للعرب الذين لا نجد اليوم تمثيلا إيديولوجيا أو سياسيا لرابطتهم الجمعية، ولا تكاد تياراتهم الفكرية غير الإسلامية تجد تعريفا إيجابيا لنفسها. الجيد في القومية أنها قوية في وجه الإسلامية وذات توجه علماني مبدئي، والسيء فيها أنها قوية أيضا في وجه الديمقراطية.
القومية في صيغتها الكمالية العلمانية ليست إيديولوجية حزبية في تركية، بل هي أساس الجمهورية الذي لا يقف على غيره حزب العدالة والتنمية "المحافظ" (وليس "الإسلامي"). هناك مراجعات ونقد لها، على أرضية يسارية وتحررية، وإسلامية أيضا، لكن ينبغي أن يكون المرء إسلاميا سوريا حتى يتصور أن حزب العدالة والتنمية يفكر في طي صفحة الكمالية، أو يريد ذلك، أو يستطيعه. ومنذ الآن يظهر شبه قوي بين الإيديولوجية القومية التركية، التحديثية والعلمانية، وبين الأوجلانية الكردية المنازعة لها حربا حينا وسياسة حينا آخر. حيثما استطاعت الأخيرة أن تشابه ذاتها، وأعلى الشبه يتحقق في سورية في العامين الأخيرين، فإنها تخوض "حرب استقلال"، لا يغيب عنها ما يستطاع من تهجير وسيطرة ونزعة تحديثي غير ديمقراطية. ورغم مركزية الإيديولوجية الشيعية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلا أن الأمر يتعلق بعقيدة مُشرّعة للحكم (تتراجع طاقتها التشريعية)، ومع أداة للسياسة الخارجية، وليس بدولة دينية أو منشغلة حصريا بإعلاء أمر المعتقد الشيعي. وفي الحالات الثلاث هناك هيمنة واسعة للفكرة القومية وتنظيماتها وعوالمها بين نخب الشعوب الثلاثة.
وفي كل أشكالها كانت القومية تحديثية مركزية وعلمانية، متوافقة مع درجة من "تحرر المرأة"، بوصفها "مربية الأجيال" و"نصف المجتمع" و"شريكة الرجل في بناء الأمة". كانت كذلك عند العرب أيضا في زمن حياة القومية القصير الذي لم يكد يمتد أكثر من جيل واحد، وانتهى في وقت ما من سبعينات القرن العشرين. ولا يزال الأمر كذلك في أوساط "قومية سورية"، ازدهرت فاشيتها الكامنة بعد الثورة السورية، وتطورت إلى فاشية بجناحين قويين (هذا وجه مهم من التاريخ السياسي والاجتماعي في "سورية الأسد"، ينبغي أن يكتب يوما ما).
لكن هناك فارق كبير بين الترك والإيرانيين، وكل من العرب والكرد، يتمثل في وجود دولة مركزية، إن لم تطابق "الأمة" الثقافية، فإنها تصنع أمة سياسية حديثة في الحالتين التركية والإيرانية، بينما لا يملك الكرد دولة، وحظي العرب بكثير منها. غياب الدولة لا يضعف هيمنة الفكرة القومية الكردية، بل يبدو أنه يعززها منذ نحو جيل على الأقل. تغدو الحركة القومية بمثابة دولة بديلة أو وعد بدولة. بالمقابل تتعزز هذه الهيمنة في تركيا وإيران بالدولة، بوجود الدولة المركزية ذاته، ثم أيضا بأدوارها التعليمية والإيديولوجية والإعلامية والثقافية، وبالطبع بالهيمنة العالمية لنموذج الدولة- الأمة. وفي كل حال تعزز الهيمنة تماهيا واسعا بالدولة (أو الحركة القومية) يشد السكان إلى بعضهم.
في الحالة العربية تداعت الإيديولوجية القومية والحركة القومية بفعل تعدد الدول العربية واندراجها في النظام الدولي، ولأنها في جميع الحالات تقريبا تشكلت من فوق ودون حركة قومية سابقة، ثم بفعل عوامل نابذة قوية تتمثل أساسا في تبعية الخليج للأمن الأميركي والغربي، ومركزية إسرائيل وتفوقها المكفول غربيا على العرب في إقليمهم. ولا يقل عما سبق أيضا رجحان وزن العنصر الجيوسياسي والانشغال بـ"المخاطر الخارجية" في الدعوة القومية العربية على وزن التحديث الاجتماعي والعلمانية. كان لإقامة الكيان الإسرائيلي في فلسطين دور بالغ في هذا التشوه الوخيم.

هذه الوقائع والتقديرات المشار إليها على عجل مدخل إلى القول إن تراجع التماهي العربي بفعل تداعي القومية في العالم العربي ترك الباب مفتوحا لتماه نشط وحيد: التماهي الإسلامي، يجتذب طاقات باحثين متعددين عن مشروع عام. ولا يقتصر الأمر على أن التماهي الإسلامي لا يوحد العرب، ولا حتى المسلمين منهم، ولا حتى السنيين من المسلمين، أهم من ذلك أن هذا التماهي ينشط مياها قديمة راكدة، لا جديد فيها يتصل بكرامة الإنسان وحريته أو العدالة والمساواة، دع عنك معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات المعاصرة. يمكن للتماهي الإسلامي أن يثير حماسة وحسا جمعيا قويا بالانتماء واستعدادا للفداء في سياقات صراعية، لكن هذا هو كل شيء.
ثم أنه بمجرد الكلام على تماه إسلامي، أي سني في معظم مجتمعاتنا، يظهر موكب من التماهيات المصاحبة حتما، الدينية والمذهبية: شيعي وعلوي ودرزي وتاسماعيلي (في سورية)، وبالطبع مسيحي. وبصرف النظر عن أي نقاش سببي، فإن الترابط بين التماهي الإسلامي، في أي من صيغه، وتنامي االتماهيات الطائفية أمر لا جدال فيه. وهو ما يعني بكل بساطة أن التماهي الإسلامي عملية انقسامية، وليست توحيدية بحال، خلافا لما يفضل أن يعتقد الإسلاميون ممن دأبوا على وضع التاريخ بين قوسين. باختصار وبساطة، الإسلام اليوم يفرق ولا يوحد.
وكان مما سهل انفتاح باب التماهي الإسلامي، غير ما ذكر من بنية النظام الدولي ومن أوضاع جيوسياسية، العلاقة الخاصة بين العرب والإسلام كدين وعقيدة و"علوم" مكتوبة بالعربية أساسا، ثم كتاريخ امبراطوري في أطواره الباكرة خصوصا. القومية العربية ذاتها كانت في جانب منها إسلاما معلمنا، ترد الإسلام إلى مجد عربي، عسكري وحضاري. حتى إذا تداعت سهّلت هي ذاتها، عبر هذا التكوين، حلول الإسلام محلها. ضباط جيش ومخابرات صدام حسين الذين انضموا إلى داعش وشغلوا مواقع قيادية فيها كانوا لا يجيئون إليها من عالم غريب عنها كثيرا. على أنه ينبغي القول إن القومية العربية ارتبطت في جانب آخر مهم منها، بخاصة في زمن صعودها في خمسينات وستينات القرن العشرين، بقضايا التحول الاجتماعي والاشتراكية ونشر التعليم والتحديث و"تحرر المرأة"، وكذلك مناهضة الامبريالية والعالم ثالثية وعدم الانحياز. شكل "الإسلام" عمقا رمزيا وسندا ثقافيا في الغالب، لكن هذه التطلعات لم تنبثق منه، وكانت أحيانا على صدام معه.
في زمن انحدارها، وبخاصة في العراق بعد هزيمة 1991 الساحقة، عرضت القومية العربة نكوصا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا هو الذي سهل التحول القاعدي الداعشي اللاحق.
نحن على كل حال في عالم غير قومي اليوم ومنذ جيل ونصف. واستعادة القومية فيه لا تبدو مشروعا ممكنا، ولا تقدميا في تقديري، لا القومية العربية ولا غيرها. ومع خسارة القومية نخسر السند القوي في مواجهة الإسلامية، التي نعلم من تجربتنا اليوم أنها ليست قوة ترق أخلاقي أو نهوض ثقافي أو تحرر سياسي، هذا حين لا تكون مطحنة للبشر. أما وقد تركنا دون وقاء بنيوي أو سياسي ممأسس في مواجهة الإسلامية، فلم يعد هناك ما يمكن أن يكون مشروعا تحرريا وتاريخيا غير الاضطلاع بالعبء الإسلامي وإعادة تنظيمه على نحو يكون مواتيا لتحرر العرب وغيرهم. الإسلام هو "عبء الرجل العربي" إن حاكينا تعبيرا شائعا، بمعنى الثقل الباهظ الكاسر للظهر، وبمعنى الواجب الكبير الذي يتعين النهوض به. هذا ليس عملا ثقافيا فقط، وإن يكن كذلك بقدر كبير، إنه أيضا عمل سياسي واجتماعي وفعل صراع، وهو كذلك بقدر ما إن الإسلامية ذاتها قوى سياسية واجتماعية، وعسكرية، ويمكنها أن تكون وحشية في مواجهة خصومها. ونحن في هذا الصراع اليوم، على كل حال، هو "اختارنا" إن لم نختره نحن.
ما افتقرنا إليه خلال أكثر من جيل منذ تداعي القومية العربية هو النقد التحرري للإسلامية، والصراع التحرري معها. كان لدينا اعتراض عليها من مواقع نخبوية، لا تنحاز إلى الحرية والعدالة والمساواة بين الناس، وكان هذا النقد ما بعد القومي دخل في أزمة قبل الموجة الحالية من الإسلامية التي ترتبت على فشل الثورات. في مواجهة هذا النقد النخبوي يلزم الإلحاح على أن هناك شيء واحد يمكن أن يقف بقوة في مواجهة الإسلامية، الحياة الحرة لعموم السكان، أو بعبارة أبسط، أوضاع أكثر ديمقراطية. وبموازاتها تمس الحاجة أيضا إلى اشتباك متجدد، متعدد المستويات مع الإسلامية، نفكر فيه كإعادة بناء للمجتمع والثقافة والدولة، وللحياة الدينية ذاتها، وكمساهمة في تغير العالم المعاصر. هذا العالم ليس "هو الحل".
وفي هذا أكثر من غيره ما يصون كرامتنا في مواجهة الإهانة الداعشية الهائلة، وفي مواجهة الإهانات الأميركية والغربية الهائلة بدورها، وهو أكثر من غيره أيضا تحويل جذري للذات، وتكريم لموكب الضحايا الذي لا ينتهي.