العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل السابع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4958 - 2015 / 10 / 17 - 10:51
المحور: الادب والفن     

حزرت مارتين شرودي، فأخذتني بين ذراعيها، وقبّلتني. سألتني إن كنت أحبها. أجبتها أنني أحبها كثيرًا، وذهبنا سويًا إلى مارتا. قبّلناها قائلين إنها أمنا، وإننا نحبها كثيرًا. أخذت مارتا تبكي كما لو أنها تذكرت فجأة ابنها، زوجها، بلدها. ثم، استعادت ابتسامتها، ومسحت مارتين دمعها. سألت مارتا لماذا أهل مارتين لم يحضروا بعد، فأجابت مارتين أنهم سيأتون حتمًا، يأتون من بوردو. فجأة، لم أجد مارتين، اختطفوها ليرقصوا معها. رأيت شارل يهمس في أذن أبي لحسن، وهذا الأخير يهمس في أذن شارل. بدا عليهما التفاهم. كان شارل يأكل طبق مارتا بأصابعه، وأبو لحسن يشرب عصير فواكه، ويدخن سيجارة. إنها المرة الأولى التي أراه فيها يدخن. مع ذلك، أشار عادل إليهما بإصبعه، وقال في أذن جان: ها هم قدماء المقاتلين، بطل مقاومة، قفاي! وشيخ خَرِف يدعي أنه هزم الأسطول البحري الثاني في العالم! بدا جان مصدومًا. "القذر الوقح!" قال لنفسه. اعتذر عادل عما بدر منه منذ قليل، لأن كل الحاضرين هنا يخونون طبقتهم، عملة رائجة عند هذه الطبقة العمالية المتبرجزة! أراد جان أن يبصق على وجهه، إلا أنه همهم ضاغطًا أسنانه: "مثقف منافق قذر!"، وأعطاه ظهره. رأينا فجأة ألبير، وهو يقف على كرسي، ويطلب منا السكوت لحظة، لأن لديه خبرًا سعيدًا بهذه المناسبة السعيدة. احتاجه إسكاتنا إلى جهد كبير، وانتظرنا جميعًا الخبر السعيد، حتى أن مارتا والأطفال أصغوا بانتباه. كان الخبر سعيدًا حقًا: لقد انخرط جورج الأشقر وشارل والمارتينيكي في الحزب الشيوعي. فتحنا قناني الشمبانيا، في وسط التصفيق والصياح، وشربنا على صحة مناضلي الحب الجدد، والإغراء، والجمال.
أتاني الأشقر، وقال لي، بهيئة مسرورة:
- سيكون دورك المرة القادمة.
- هذا صحيح.
- لماذا تتردد، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم؟
- أنا لا أتردد.
- هل تخاف الالتزام؟
- لا.
- إذن لماذا؟
- أريد أولاً أن أنفخ قليلاً.
سحبني من ذراعي، وجعلني أقفز على إيقاع الموسيقى. نفختُ، منفعلاً، وأنا أحاول التحكم بأنفاسي. بعد قليل، سمعنا الأطفال يصيحون أن أهل مارتين وصلوا. ارتمت مارتين في أحضان أبيها وأمها، ثم في أحضان أختها الكبيرة وزوجها. قبّلتُ أمها وأختها، بدوري، وتقبلت التهاني. قدمتُ لهم مارتا كأمي، فقبّلوها، وهنأوها كذلك. سألتْ مارتين أين أختها الصغيرة نادين، أجابتها أمها أنها لم تستطع المجيء، عملها في المستشفى يأخذ كل وقتها.
- حتى يوم سبت؟
- حتى يوم سبت! لقد كتبت لكما هذه الرسالة.
أعطتنا إياها لنقرأها، بينما اعتنى باقي الأصدقاء بالعائلة. غدت الشقة الآن ضيقة جدًا، مما اضطر أوديت الانفصال عن حميد. اقترح أبو لحسن فكرة عبقرية، وزايد شارل على الفكرة بفكرة، فصفق الكل، وها نحن ننتقل بكراسينا وكؤوسنا إلى الرَّدْب، الذي يفوق اتساعًا شقتنا، ومع الحجرات الجانبية اتساعًا وعرضًا. وقبل كل شيء، كان الطقس معنا، ربيعيًا ورائعًا. صار البعض في الخارج، عندما أوقفتُهم لأقول إننا سنزعج الجيران.
- أي جيران؟ نحن كلنا هنا!
والرصاص يثقل جناحيه، أجاب حسين:
- الحقيقة، أنتم تزعجونني كثيرًا، أنتم تزعجونني أكثر من كثير!
قهقه البعض، فأفهمتهم أن هناك الأسرة صاحبة التلفزيون، الطبيب البيطري، ثم مدام ريمون التي لم تأت بعد، التي من المحتمل أن لديها مانعًا.
قال سعيد، ابن العم الآخر وصديق العجوز البرجوازية:
- يقفل الطبيب البيطري بعد ظهر السبت.
- نطلب من الأسرة صاحبة ماذا؟ سأل بيير.
أجابت مادلين باسمة:
- التلفزيون.
ضحك البعض، وعاد بيير إلى القول بنصف ضحكة:
- سنطلب كذلك الإذن من إدارة التلفزيون.
صار عصام وفرانسواز تحت.
- سنمر كذلك على مدام ريمون لنسأل عن أخبارها، رميا.
ثملاً كما لم يثمل من قبل، رد حسين:
- أنتم مؤدبون جدًا، اليوم، يا مومس الغا...ئط!
- ماذا؟
- أقول أنتم مؤدبون جدًا، اليوم! هكذا، فجأة، أنتم مؤدبون جدًا، يا مومس الغا...ئط! تظنون أن أصواتكم لا تزعج الحي! حتى ولو كنتم في المريخ، أزعجتم بأصواتكم كل... الحي!
ضحكنا.
- يريدون أن يطلبوا موافقة الأسرة... صاحبة الغائط الأسود لل... جميع!
ضحك باستهزاء و، أمام استغراب الجميع، قسا صوته، على الأقل كان هذا انطباعنا:
- تظنون أن الأسرة... (تجشأ) صاحبة الجهاز لم تزل في بيتها، بانتظار طلب... إذنكم؟ تجدونها راحت منذ مدة طويلة إلى دار... التلفزيون!
بالفعل، عاد عصام وفرانسواز بصحبة مدام ريمون التي أهدتنا لوحة زيتية، ولا أحد يجيب عند الأسرة صاحبة الجهاز.
قهقه حسين كمخمور، لأنه حزر. جعلت قهقهاته وصرخاته الكل يقهقه ويضحك. أخيرًا، ذهبنا لنقيم في الرَّدْب: فرانسواز، عصام، وردة، جان، وآخرون، نزعوا الأشرطة الملونة والبالونات، لتعليقها على الجدران. حملوا كذلك الورود، الأطباق، الموسيقى. كل شيء! وجدنا أنفسنا في قلب الرَّدْب، ردبنا. كنا سعيدين أن نكون هناك، تحت السماء المتشحة بالغروب. لم يكن الجو ساخنًا كما كان ظهرًا، لكنه دافئ، منعش. نَصَبَ بيير والمارتينيكي وأنطونيو خيوط الكهرباء، وبييرو هذا، وبييرو ذاك. عندما انتهوا، انتهى النهار، وبدأ الليل. غمزت الأضواء في ردبنا النجوم، فأجابت النجوم. النجوم في الرَّدْب، والأضواء في السماء، تنثرها أيادي بيير والمارتينيكي وأنطوان. أضاءت ابتسامات مارتين شفاهنا، كانت تبتسم لنا دائمًا، وتبتسم للحياة: كانت تعتقد أن السعادة ممكنة، كالحب والأمل، وفكرت، كألبير، كبيير، كجورج الأشقر، كالمارتينيكي، كشارل، الذي يبدو في عمره كأبينا أو كجدنا، أن السعادة ممكنة، كالحب والأمل. لهذا السبب كانت تبتسم دائمًا للحياة، كانت تبتسم دائمًا للمستقبل. كانت تبتسم دائمًا وأبدًا، وكانت الشمس تشرق في الليل.

* * *

ارتحنا خلال بعض اللحظات الوادعة، فقال أبراهام لنا إن قسنطينة بانتظارنا لقضاء شهر عسلنا. طلب أبو مارتين من نسيبه الذهاب لإحضار هديتنا، في السيارة، فعاد مع كرتون كبير فتحه الوالدان، لنجد فيه طناجر من كل الأحجام، ومقالي، وكؤوسًا، وطقمًا من البورسلين.
قبّلت مارتين كل فرد من أفراد أسرتها شاكرة وعند ذاك، التحق أبوها بشارل وأبي لحسن، فسألاه إن كان يعمل.
- كنت أعمل في مسبكة، قال، لكني الآن على التقاعد.
أجاب شارل أنه هو أيضًا في سن التقاعد، بَدَّل المهنة عدة مرات في حياته، وهو يفضل العمل.
أخبرهما أبو لحسن أنه فقد حق التقاعد بعد الاستقلال على الرغم من كونه "زواوي" من فيلق الدار البيضاء، ساهم في الدفاع عن فرنسا كدفاعه عن المغرب، وهو لبسالته قلده ديجول ميدالية الشرف والفخار التي ها هي: عرى كتفه، وأراهما جرحه.
- لقد اندمل تمامًا، شكرًا لله! قال. فرنسا الغالية، فرنسا المهجة! لم تمهلني في حبها، فأحببتها شابًا، وأحببتها شيخًا، وكان عليّ أن أبذل الغالي والرخيص من أجلها، ولولانا نحن "الزواوية"، لما كانت فرنسا. قاتلنا لتكون، وأن نكون لم يكن شيئًا مهمًا.
جاء المارتينيكي، وجاء أبراهام، وجاء بيير، وجاءت مادلين، وجاءت فرانسواز، وجاءت وردة، أحاطوا به، وكذلك عصام، لأنه سمع قصة أخرى، وهذه أروعها.
- لكنك تفعل كل ما في وسعك لتبقى، هذا هو سر كل حب عظيم. حبي العظيم كان فرنسا، وفرنسا كانت جانين، امرأة لا وكل النساء! كنت في إجازة، فجاءتني، وسألتني عن زي الزواوي الغريب الذي أرتديه. قلت لها ما هو، ومن أنا، فوقعت في غرامي. كان ذلك من سحر الحرب عليها، فللحرب سحرها وهولها، سحرها من هولها، وهولها من سحرها. عزمنا على الزواج قبل انتهاء الحرب، كانت خائفة من أن تأخذني الحرب منها، وكانت تريد مني طفلاً يذكرها بي، ولم تكن تعلم أن الحرب قد قررت كل شيء. في إحدى إجازاتي، ذهبت لأراها، كما هي عادتي، فأخبرني الجيران أنها ماتت في غارة جوية.
تأثرنا كلنا، فطلبت فرانسواز من المتيم القديم، الالتقاء بأعضاء خليتها، فعلمتُ أنها عضو في أحد أحزاب أهواء الروح، الحزب الاشتراكي. إضافة إلى ذلك، علمتُ أنها ابنة لمحامٍ كبير، حاليًا هو في عداد قياديي هذا الحزب.
كان ألبير يحب فرانسواز، قال لي إنه حاول معها عدة مرات، لكن بلا نجاح. كان يريدها رغم كل شيء، وكان مقتنعًا أنه الوحيد الذي بإمكانه إنقاذها. إنقاذها ممن، مم، لم يقل لي. مع ذلك، لم يبدُ غيورًا من عصام. أما المارتينيكي، فقد حاول عبثًا إخفاء خيبة حبه بالشرب.
- وردة عذراء، يا رجل، قال لي. رفضت أن تضاجع معي رفضًا قاطعًا، وركلتني في قفاي، يا ماخور الماخور!
- كنت أعتقد أن لك معشوقة تساوي عشر مومسات!
- لا تذكرني بكذباتي الصغيرة...
- كذباتك الصغيرة!
- ...وبتعاساتي الصغيرة، من فضلك، يوم عرسك، يا لمومس عيشة الغائط!
عدلت عن سؤال عصام حول خلافه مع أوديت، الآن وقد استعاض عنها بفرانسواز. كان هذا إحساسي. اختفت أوديت وحميد، وعلق أخو لحسن، كمال، أنهما اختفيا، دون شك، في إحدى الحجرات. ما لبث كمال وزوجة لحسن أن بدءا يغنيان أغنية عربية، أبراهام ينقر على الطبلة، ووردة تهز ردفيها. شكلنا حلقة حولهم، ونحن نصفق.
بدوره، دخل الحلقة سعيد، ابن العم الثاني. أخذ يهز ردفيه وبطنه في مباراة حامية الوطيس مع وردة، فأوقف كمال الغناء، ودخل في الحلقة تاركًا امرأة لحسن تواصل وحدها، إلا أن أبناءها ما لبثوا أن راحوا يغنون معها. كان كل الأطفال هنا، حتى أنطوان شارك، بفضول وحبور. رأينا أبا لحسن الشيخ ينهض، بغيرة وحمية، ويدخل في الحلقة. أخذ يهتز على إيقاع الطبلة، كشاب في العشرين. كان من الخفة والرشاقة إلى درجة جعلتنا نشعر أنه يركض داخل جسده. تحمس لحسن على مرأى أبيه، فأخذ يصفق له، وهو يقفز، ويصرخ. تناول يد أبيه، وجعل أباه يدور حول أبيه، والشيخ يهتز كغصن تفاح يانع بين يدي ولد عابث. سكت المغنون مبهورين، ونحن نصرخ بدورنا، ونقفز، ونصفق، مسحورين ومفتتنين على رؤية الشيخ الذي بقي وحده في الحلقة. كان يهتز إلى حد لم نعد نميز فيه لا شكلاً ولا لونًا. فجأة، توقف، ومعه كل حركة. أمسكناه من ذراعه، وأجسادنا تقطر نشوة. أجلسناه، وقدمنا له عصير فواكه، فرفضه.
بعد عدة لحظات، أخذ رونيه يعزف على الجيتار، فرقص البعض، وأحاط به البعض. رأيت بين الراقصين أبا مارتين وأمها، ابنة لحسن وابن رونيه. أمسكت مارتين يدي، فأحطتُ كتفيها بذراعي. قلت لها إني أحبها، فقبّلتني، وقالت لي إنها تحبني أيضًا. بقينا هكذا، مغتبطين منتشين. وَصَلَنا صوت رونيه، وَصَلَنا ثريًا حريريًا. جاء أناس لا نعرفهم يشاركوننا فرحنا. شربوا، وضحكوا، وغنوا. بعد كل هذا، جعنا. كانت امرأة لحسن قد أعدت طبقها، فأتت بتل من الكُسْكُسي في صينية كبيرة من النحاس، وبجاطات من الخشب مليئة بلحم الخروف والحساء. أكلنا وشربنا، أكلنا وشربنا، أكلنا وشربنا الكأس حتى الثمالة. ثم جاء دور الكعكة التي صنعها لحسن خصيصًا لنا، وأنا ومارتين سعيدان، سعيدان جدًا. أخذتُها في أحضاني، ورقصنا. عاد رونيه يعزف على الجيتار، وبعد عدة لحظات، همست مارتين في أذني:
- لماذا لا نفتح الرَّدْب؟
لم أفهم في البداية، فأشارت إلى الجدار الذي يغلق الرَّدْب سادًا إياه من وسطه.
- سنفتحه يومًا، قلت لها.
شدتني إليها، مقتنعة من أننا سنفتحه يومًا. لم يزل رونيه يعزف... وراح يغني.


يتبع القسم الثاني الفصل الثامن



* يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".