العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الثاني


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4953 - 2015 / 10 / 12 - 15:27
المحور: الادب والفن     

عدت لأرى مارتا والأصدقاء، وذهب رونيه ليرى زوجته وأطفاله الثلاثة. كانت هناك شمس في الرَّدْب، لكن الجدران كانت رطبة. كان بعض العمال يشتغلون في سكنى البرتغالي، ولأول مرة أرى نافذته مفتوحة.
أخذتني مارتا بين ذراعيها.
- اشتقت إليك، يا ولدي الحبيب! قالت.
- وأنا كذلك، قلت.
طربتُ على سماع ضحكتها العطوفة، وغطيتُ برنينها كذبي الذي لم أعتد عليه. تبادلتُ معها كلمات بلغة الوُلّوف، ورأيتُ وجنتيها تضيئان بالليل. قفز ابن رونية الصغير على ركبتيّ، وتسلى بقرص أنفي وشد شعري، بينما تطلُبُ أمه منه الهدوء. كانت حركة صليبها الذي تحمله حول عنقها تقترن بعصبيتها، فسألتها أن تترك الصغير يلعب على راحته. رانت على الحجرة بلبلة العائلة الكبيرة، وميزتُ لدى المرأتين التفاهم والوفاق المتبادلين. راحت امراة رونيه تعتذر، وتشكر، ورونيه مثلها. قالت مارتا إن بيتها صغير، لكنه على كل حال كبير بما فيه الكفاية للأصدقاء. ما حصل لعائلة رونيه يحصل يوميًا لكثير من العائلات، وهي ليست غريبة عن هذا العالم، ولا ساذجة، لها أذنان، وهي تُقَدِّر أن هذا ظلم لا يُغتفر. تكلمت كذلك عن طفولتها في السنغال، طفولة صعبة: عندما تنضب جرار زيت فستق العبيد، كانوا لا يأكلون شيئًا، وفي الغالب هذا ما كان يقع، لأن الحقول غالبًا ما كانت تجف، قبل القَطاف، والعَصْر. حكت أيضًا عن أطفال اليوم في السنغال، واعترفت أن الحالة تبدلت بعد الاستقلال، لكنها لم تزل تخضع لكمية زيت فستق العبيد، المرتبطة، بدورها، بالطقس الماطر أو الجاف: إن الأطفال معرضون للخطر في كل مكان يحكمه الظلم. أكد رونيه أن أطفاله لن ينسوا مارتا، فابتسمت بخجل، ثم ضحكت، وهي تسألني إن كنت أرغب في أكل شيء؟ إن كنا نرغب في الأكل، أنا ورونيه؟ نرغب، أجبنا، مما أفرحها.
ذهبتُ لأرى عصام، فلم أجده في حجرته. أعلمني عادل أنه يلعب الورق عند أبناء عم لحسن، واستطرد:
- هل تتابع الأخبار؟
- أتابعها، قلت بلهجة متفائلة، الفدائيون صامدون.
- بالأحرى من اللازم القول إن الثورة تحرز انتصارات جبارة، وأنا على اقتناع من أنها ستكون الضامن، ومن أن الوضع سيتغير كليًا. ستنفخ الثورة نفخة خفيفة، وستتساقط صروح الورق واحدًا واحدًا.
- واحدًا واحدًا؟!
- بما أنني أقوله لك.
- بما أنك تقوله لي.
- وسيكون موضوع كتابي الجديد.
- كتابك الجديد!
- إنها حرب تحرير تستأهل كتابًا.
فكرت في حسين، فسألته عنه.
- تجده ينام على هذه الساعة بعد أن داخ من الشرب، أو يشرب بعد أن داخ من النوم، قال بنبرة احتقار. وحركتكم؟
- ماشي الحال.
دعاني إلى الدخول لنثرثر:
- اسمع! لماذا لا تدخل لنتحدث قليلاً؟ ستُسحق حركتكم، أنا أعرف، أنا أحس بذلك.
- أنت تحس بذلك؟!
- بما أنني أقوله لك.
كان يخريني، هذا "الفيلسوف" المدعي!
- ادخل! سنتحدث في ذلك.
- لا، شُكْ...
خرج عصام.
- ...رًا.
اتجه نحوي:
- هل معك مائتا فرنك؟ سأردهما لك غدًا.
- هل هكذا تستقبلني؟
- أنا في الغائط، يا مومس!
- وعملك؟
- تركته. لم أستطع احتمال رائحة الدهان، لكني أبحث عن عمل آخر. ثم، مغاربة الغائط هؤلاء، إنهم شياطين بالفعل! يغشون في اللعب، فيربحون دومًا.
- لماذا لا توقفهم؟ سأل عادل.
- لأنهم يغشون دون أن تكتشفهم.
- ولا يسمحون لك بالغش أبدًا.
- هذا هو! يا مومس المومس...
- كيف عرفت أنهم يغشون؟
نبر عصام:
- يغشون، يا مومس!
جذبني من ذراعي، ودخلنا حجرته. ترامى على سريره متعبًا، ونفخ:
- أنا تعبان!
- ألاحظ ذلك.
- كيف حال حركة غائطكم؟
- جيدة.
- أنا متأكد من أنهم سيسحقونكم.
- هل هو عادل الذي قال لك؟
- كيف عرفت؟
- هكذا.
- لا، قل. كيف عرفت أنه عادل؟
- كف عن الاهتمام بذلك.
- قل لي، يا غائط!
- نحن صامدون إلى حد الآن.
- قل لي، يا غائط!
- نحنوووووو صامدووووون...
- قل لي، يا ألف ألف غائط!
- قال لي رأيه منذ قليل، وأراد التحدث في ذلك معي. يخريني هذا الشخص! ليسه فقط هو وقح، هو محشو بالادعاءات.
- محشو بالغائط، تريد القول! إذن قل لي إنهم لن يسحقوكم.
- نحن صامدون، قلت لك.
- حتى الوقت الحاضر.
- هل ترى؟ أنت تقول: حتى الوقت الحاضر!
- حتى الوقت الحاضر؟
- نعم، حتى الوقت الحاضر.
- تقول إنكم صامدون "حتى الوقت الحاضر".
- ماذا تعني؟
- أنكم صامدون حتى الوقت الحاضر، "كإخوتنا في السلاح"...
- عادل يفكر العكس تمامًا.
- ...في بيروت.
- عادل يفكر العكس تمامًا.
- تظن أنني أتبنى كل ما يقول فيلسوف الغائط هذا أو لا أدري ماذا دون أن يكون لي رأيي الخاص الذي لي، يا مومس؟! إذا أنتم، مع حركة غائطكم، تصبون يومًا إلى الخروج مما أنتم عليه، الفدائيون، بخصوصهم، فسيتم سحقهم. هل تسمعني؟ سَحْقُهوووووم.
غَضِبْتُ:
- لماذا أنت هكذا!
- لا، ليس هذا.
- تريدهم أن يقاتلوا وعند...
- إذا ما قاتلوا...
- ...ما يقاتلون...
- ...أريدهم أن يعرفوا...
- ...تريدهم أن يتوقفوا عن القتال...
- ...كيف يقاتلون.
- ...أو أن يقاتلوا بشكل آخر.
- إذا ما قاتلوا أريدهم أن يعرفوا كيف يقاتلون.
- وكيف هذا، في رأيك؟
أطلق ضحكة مستسلمة.
- وما أدراني، يا مومس؟!
- هل رأيت؟!
- أنا لا أتمنى سوى الخير للثورة، على أي حال.
- لكن، كيف؟ صحتُ.
- هل ستدينني...
- قل لي كيف؟
- ...المائتي فرنك، يا غائط أم لا؟
- قل لي كيف؟
- وما يدريني، أنا، يا مومس مومس الغائط!
- لا تريد أن تقول لي كيف؟
- هل ستدييييينني الماااااائتي فرنك، يا غاااااائط أم لا؟
وقعتُ بعيني على الرسالة دون الطابع، المنسية قرب قطعة خبز عفنة، وتأملت الوجه الغير الحليق أبدًا:
- الأحوال لا تسير على ما يرام! قلت. يقدم عمال الشهوة ما يقدرون عليه من رواتبهم ليعيش مصنع الأحاسيس، أنت تعرف هذا جيدًا.
- نعم، لكنني قلت ربما...
- لا، لا يمكنني أن أقرضك المائتي فرنك.
استطرد بمرارة مزيجة بالسخرية:
- كان ذلك من أجل العاهرة.
- من؟!
- أوديت. تريد أن ترى مسرحية.

* * *

جاء رونيه، واعتذر لأنه تأخر، وجاء أنطونيو وأندريه كذلك، حييانا، وبقيا واقفين قرب الباب. سألاني عن أخبار المصنع، فقلت ممتازة. سألت أندريه كيف يجري عمله مع أنطونيو، أجاب أنه لم يزل يتعلم، وأضاف أنطونيو أنه يتعلم بسرعة، مع أن مهنة المرصص ليست سهلة إطلاقًأ. بعد لحظة، ناداني أندريه، واعتزلنا في زاوية من زوايا الرَّدْب. قال لي إنه لم يستطع إيجاد فرصة للحديث معي، منذ موت أخته: أولاً، عمله مع أنطونيو يأخذ كل وقته، ثم مشاكل مصنع الأحاسيس تُبعدني عن البيت. وأنا اسمعه، أحسست برجل في ضائقة، على حافة الهاوية، وهو يريد أن يكفى عائلته شر عذاب، لهذا يرجو عوني. وأنا أقول لنفسي هذا، خفق الاحمرار وجهه، وارتعش صوته. راح يشكرني على كل ما فعلت من أجل أسرته، خاصة أمه، وأكد، كمن يريد التخلص من عبء، أنه لو كان يعرف، لما حصل شيء مما حصل. في ذلك الوقت، كان مصابًا بالجنون. في الوقت الحاضر، هو يعي أفعاله، وهو يكفّر عن خطاياه. سيعمل لأمه ولأخيه الذي عليه أن يكبر ككل الأطفال العاديين، سيعمل كذلك لرَدْبِنا ولنا كلنا، للمودة بلا حدود. لو لم أشد على يده، لداوم على ذلك طويلاً. أوصيته خيرًا بمارتا أثناء غيابي، فقال لي ألا حاجة لي بذلك، لأنها بمثابة أمه.
وتهدج صوته:
- كانت تحب ماري كثيرًا.
عندئذ، حط بيننا عصفور غريب الشكل، فكأنه روح ماري، وما لبث أن راح يَحُوم فوق رأس أندريه، وهو يصرخ، ويضرب جناحيه. انحنى أندريه، وذراعاه في الهواء، لا يدري ما يفعل. حاولت طرد العصفور، وأنا أشعر بالعجز. استولى على أندريه الرعب، وكالعدوى حمل الرعب إليّ. رأيت في العصفور عدوًا أزرق، لم يكن التعسف في المعنى، ولا في الكلام، كان الشيء أقوى مني، شيء في داخلي، كان ينام في أحشائي، في أعوامي، في كل تجاربي، شيء أقوى من كل شيء، أقوى من كل الحب، كان كل الحقد، وكل ما لم أقدر على تحقيقه، كل ما لم أقدر على عدم تحقيقه: قبضت على العصفور بيد الشيطان التي لي، وفسخت رأسه عن جسده. عندما رأى أندريه ما فعلت، أبدى كل عنفه الماضي، وقد عاد إليه. أشبعني ضربًا مُبَرِّحًا، وهو يسب، ويلعن، فخرج علينا الأصدقاء، وفصلوا بيننا.


يتبع القسم الثاني الفصل الثالث