يجب أن نحاكم لينين

كريم مروة
الحوار المتمدن - العدد: 1358 - 2005 / 10 / 25 - 10:28
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

يحلو لقدماء الحركة الشيوعية - وأنا واحد منهم - أن يستذكروا بين الحين والآخر بعض أحداث الماضي المجيد في حركتهم، حتى قبل أن ينهار البنيان العظيم للتجربة الاشتراكية المتمثل بالاتحاد السوفياتي، وليد ثورة أكتوبر، الذي كانوا قد استندوا إليه، على امتداد عمرهم المثقل بالنضالات وبالتضحيات، من أجل تعظيم أحلامهم بتغيير العالم في اتجاه الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية. وإذا كانت بعض وظائف ذلك الاستذكار، قبل حصول الانهيار، كانت تتسم بالنقد من أجل تصحيح المسار وتسريع الوصول إلى الحلم قبل نهاية العمر، فإنَّ بعض وظائف هذا الاستذكار، بعد حصول الانهيار، كانت ترمي إلى الهروب من مآسي الحاضر، بسبب العجز عن إيجاد المخارج منها، إلى الماضي القديم والاسترخاء في رحاب أمجاده الغابرة!

ورغم أنني أنتمي إلى جيل أولئك الذين صاروا قدماء، بعدد سني العمر وبعدد سني الانتماء إلى الشيوعية - وقد انتميت إليها في سن الثامنة عشرة، أي قبل سبعة وخمسين عاماً - فإنني أختلف، في استحضاري وفي قراءتي لتاريخ حركتنا، اختلافاً جوهرياً عن تلك الوظائف التي ألتزم ويلتزم بها الكثيرون من رفاقي في الحركة، لبنانيين وعرباً وأجانب. ولذلك فحين لبَّيت دعوة أصدقائي البلغار في لجنة ديمتروف المناهضة للفاشية لحضور ندوة() لاستذكار شخصية القائد الشيوعي البلغاري ديمتروف ودوره ودور المؤتمر السابع للأممية الشيوعية (الكومنترن)، كنت مصمماً على قول ما أنا مقتنع به في قراءتي المختلفة لماضي تلك الحركة، وفي قراءتي المختلفة لمستقبل بلداننا ومستقبل العالم، في الشروط التاريخية التي تميز عصرنا الحالي. وفي قراءاتي الخاصة هذه لتجربتنا ولأحداث التاريخ المتصل بها، وللحقبة التاريخية الراهنة والمقبلة، إنما أستند إلى أفكار ماركس وإلى طوبى مشروعه الاشتراكي القديم، الذي أسسه وأطلقه قبل مئة وسبعة وخمسين عاما، آخذاً في الاعتبار منهج ماركس الجدلي في استشراف التحولات التي يحفل بها عصرنا، بالإيجابي والسلبي منها، وبالصراع المحتدم بينهما على كل الجبهات.

وفي الحقيقة فإن استحضار سِيَر وأدوار شخصيات تاريخية من نوع جورج ديمتروف، واستحضار مواقف وقرارات تاريخية من نوع ما ارتبط بالمؤتمر السابع للأممية الشيوعية (1935)، إنما يرتدي أهمية تاريخية لا تنحصر في الزمن القديم وحده، بل هي تتصل، وينبغي أن تتصل، بالاستنتاجات التي يفترض استخلاصها من تلك السير والأدوار والمواقف، ودائما بالنسبة إلى المستقبل وفي اتجاهه. والمعروف أن ديمتروف قد لعب دوراً مهماً في ذلك المؤتمر لجهة التأكيد على ضرورة تأسيس جبهات موحدة على صعيد كل بلد وعلى الصعيد العالمي لمواجهة خطر الفاشية الداهم آنذاك. علماً بأن ديمتروف لم يكن وحده صاحب ذلك التوجه الجديد والقرارات التي عبرت عنها تلك التوجهات. فقد ساهم في إعداد التقرير الشهير الذي قدمه ديمتروف إلى المؤتمر عدد كبير من قادة الحركة الشيوعية ومن كبار الخبراء والإختصاصيين في شتى ميادين المعرفة الذين كانوا يعملون في جهاز اللجنة التنفيذية للكومنترن.

غير أننا، إذ نستحضر فصلاً مهماً من فصول تاريخ الحركة الشيوعية التي انتمينا إليها بأفق تغيير العالم في اتجاه تحرير البشرية من كل عبوديات الماضي وظلمها وظلامها، فإننا لا نستطيع، إذا أردنا أن نكون أمناء لأفكارنا ولمشروعنا المستقبلي لتغيير العالم، إلاَّ أن نقف عند الأسباب التي أدَّت إلى انهيار تلك الحركة وإلى سقوط تجربتها في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، أي بعد أربعة وسبعين عاماً من ولادتها مع انتصار ثورة أكتوبر. فاستعادة أمجاد تلك الحركة، من دون مراجعة نقدية لمسارها، هي أشبه ما تكون بالبكاء على أطلال الماضي والبقاء في أسر أوهام استعادته!

علينا، إذن، ونحن نستحضر شخصية ديمتروف ودوره، وقرارات المؤتمر السابع للكومنترن وتوجهاته، أن نستحضر، في الآن ذاته، المأساة التي خلَّفها انهيارالتجربة الاشتراكية على مشاعر ملايين البشر وأحلامهم ووعيهم. فالوقوف عند المأساة التي خلَّفهاالانهيار،والقراءة النقدية الجريئة لما جرى بهدف تجاوزه إلى المستقبل،هما، في حقيقة الأمر، أهم، بالنسبة إلينا، من كل رموز حركتنا العظيمة التي طبعت القرن الماضي بطابعها خلال عقود. ذلك أن المسؤولية عن الانهيار، وعن المأساة التي وضعنا فيها، لا يتحملها فقط أولئك الذين كانوا آخر رموز الحركة والتجربة في العقدين الأخيرين السابقين على الانهيار. بل هي مسؤولية لا يتحرر منها المؤسسون، ولو بنسب متفاوتة، بدءًا بلينين بالذات وبرفاقه الأول من البلاشفة، في اختياره واختيارهم صيغة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية في روسيا المتخلفة- خلافاً لرأي ماركس وذلك من طريق ثورة أكتوبر، التي هزت العالم يوم قيامها، وغيـّرت مجرى التاريخ إلى عقود.

كما يتحمل المسؤولية، بنسب متفاوتة أيضاً، الذين جاءوا بعد لينين، ومن ضمنهم ديمتروف ورفاقه والذين أكملوا طريقه وطريقهم من القيادات التي رافقت تطور تلك الحركة، وتطور التجربة الاشتراكية في الإتحاد السوفياتي وفي البلدان التي ارتبطت به واتخذت من نموذجه طريقاً لتطورها. ولا يستثنى من هذه المسؤولية قادة الأحزاب الشيوعية في جميع البلدان، كبيرها وصغيرها على حد سواء. ونتساءل هنا، بمرارة وبألم عميق، عن الأسباب التي حالت، ولا تزال تحول، دون قيام حركة أو حركات جديدة في بلدان التجربة المنهارة وفي الأحزاب الشيوعية على اختلاف مواقعها وأحجامها، حركات تحاول، على قاعدة المراجعة النقدية، إعادة صياغة مشروع ماركس في ظروف العصر وتحولاته الكبرى، بدل أن يغرق جميع، أو معظم، الذين انتموا إلى الإشتراكية في صيغتها الشيوعية في البكاء على أطلال الماضي، وفي تحميل مسؤولية الانهيار المدوي للقوى الطبقية المعادية المتمثلة بالإمبريالية المعاصرة! ولعلَّ من غريب المفارقات أن تظهر في العالم الرأسمالي، وفي الولايات المتحدة الأميركية بالذات، محاولات من قبل مفكرين كانوا حتى الأمس القريب خصوم الماركسية، يستعيدون بها اسم ماركس وبعض أفكاره، بهدف مواجهة همجية الرأسمال المعولم، والرد، ولو بالفكر النظري المجرد، على أصحاب التجربة وبناتها، وتحميلهم مسؤولية ما وصل إليه العالم من ظلم واستغلال وقهر وتوحش، في ظل العولمة الرأسمالية الراهنة، وذلك بعد، وربما بسبب، انهيار التجربة الاشتراكية والزلزال الذي أحدثه ذلك الانهيار في العالم المعاصر.

إنَّ استحضار شخصية ديمتروف ودوره في المؤتمر السابع للكومنترن بالذات، واستحضار قرارات ذلك المؤتمر وتوجهاته، واستحضار أسماء جمهرة من كبار قادة الحركة الشيوعية العالمية، إنما يكتسب أهميته الخاصة لارتباطه بتلك الفترة التاريخية التي كانت الفاشية فيها قد بلغت ذروة صعودها، وبدأت تتهيأ لإعلان الحرب على الحضارة. وكان من العلامات المميزة للحضارة في تلك الحقبة من تاريخ العالم ما ارتبط بالديموقراطية الاشتراكية، أو الديموقراطية الإجتماعية، بكل التباساتها، التي كانت قد تبنّتها الحركة الشيوعية في مركزها الأساس الإتحاد السوفياتي، وفي امتداداته وامتداداتها. كما كان من العلامات المميزة لتلك الحضارة ما ارتبط بالديموقراطية البورجوازية الليبرالية التي كانت أوروبا الرأسمالية مركز الإشعاع فيها. وقد كان مؤتمر الكومنترن، بهذا المعنى، تطوراً نوعياً في فكر الأممية الشيوعية لجهة الواقعية التاريخية، ولجهة تحديد المهمات ذات الصلة المباشرة بتلك الحقبة بالذات وبتعقيداتها. وهي توجهات عارض فيها المؤتمر السابع للكومنترن قرارات المؤتمر السادس (1928) وتوجهاته القائمة على إبراز التناقض التناحري بين الطبقة العاملة والطبقة البورجوازية تحت شعار طبقة ضد طبقة.

وجوهر قرارات المؤتمر السابع هو الدعوة إلى التحالف بين الأممية الشيوعية والأممية الاشتراكية، وبينهما وبين الديموقراطية البورجوازية في مواجهة الفاشية. وفي أجواء تلك التوجهات قامت الجمهورية الإسبانية حتى قبل انعقاد مؤتمر الكومنترن السابع المشار إليه. وفي ظلها وبوحي منها ومن قراراتها قامت الجبهة الشعبية في فرنسا. وسرعان ما تحول ذلك التحالف الجديد إلى لقاء موسع بين الاشتراكية في شخص دولتها الجديدة الناشئة، ومعها الأحزاب الشيوعية والأحزاب الاشتراكية الديموقراطية، والبورجوازية وأحزابها ودولها، في أعرق وأكبر مراكز ولادتها وتطورها، أوروبا، ومعها أميركا التي كانت قد بلغت ذروة صعودها. وهو التحالف الذي أدى في ذلك التاريخ إلى انتصار الديموقراطية في الحرب العالمية الثانية على الفاشية.

إلاَّ أنَّ ذلك التحالف والانتصار التاريخي الذي حققه لا يجوز أن يخفيا الخلل الذي كان يسود حركتنا الشيوعية وديموقراطيتها الملتسبة، وكان يهيىء، ولو بعد عقود، إلى الهزيمة التي مُنِّي بها مشروعنا الاشتراكي من أساسه. وهذا يعني أنه لم يعد جائزاً، بالنسبة إلينا، أن نظل، في قراءتنا لتاريخ تلك الحقبة، أسرى الطريقة القديمة ذاتها، الطريقة التي كنا نمجد فيها ديموقراطيتنا الاشتراكية ونحقِّر فيها الديموقراطية البورجوازية. كلا. ذلك أن انهيار التجربة الاشتراكية كان، في الحقيقة، إدانة للديموقراطية الاشتراكية، أوالديموقراطية الاجتماعية، التي تبنتها الحركة الشيوعية، والتي أكثرنا من التغني بها، من حيث أنها اعتنت بالجانب الاجتماعي، خلافاً للديموقراطية البورجوازية التي لا يهمها سوى تكديس الربح بكل الوسائل، على حساب القوى المنتجة المتمثلة بالعمال وبالأجراء، على اختلاف مواقعهم في العملية الإنتاجية برمتها. وتجاهلنا، بوعي أو بدون وعي، أن ديموقراطيتنا هذه قد سخّرت لهذا الجانب الإجتماعي حرية الأفراد والجماعات، وجعلت التفكير بسعادة البشر احتكاراً لنخبة من القادة، ولزعيم أوحد لهذه النخبة، يقرر، بالنيابة عنهم وعن المجتمع، في كل ما يتصل بالحياة وبشؤونها العامة والخاصة، سواء في بلدان التجربة، أو في سياسات الأحزاب الشيوعية وبرامجها حيث وجدت.

ورغم أن الديموقراطية الإشتراكية الإجتماعية قد حققت إنجازات كبيرة في بلدان التجربة ذاتها، وفرضت على الدول الرأسمالية القيام بتقديمات إجتماعية غير مسبوقة، فإنها، أي الديموقراطية الإشتراكية، قد ظلت تتراجع في صورة متواصلة إلى أن بدأت تفقد مضمونها الإجتماعي، موضوع اعتزاز الشيوعيين بها. وكان ذلك التراجع يتم بفعل غياب الديموقراطية السياسية، هذا الغياب الذي ترافق مع القمع- الذي كان يبرّر أيديولوجياً(!) - لحرية الأفراد والجماعات في التعبير عن آرائها، وفي ممارسة دور الرقيب والحسيب والمصحح للأخطاء. وكان من أخطر أشكال قمع الحريات تشويه دور النقابات- بخلاف رأي لينين - وإلحاقها كليا بسلطتي الحزب والدولة، وجعل مهمتها الكاملة الدفاع عن سياساتهما، وعن المصالح التي ظهرت عشية الإنهيار وغداته في شكل مافيات ساهمت مساهمة أساسية في انهيار التجربة من داخلها، وساهمت، بعد الإنهيار، في تدمير الدولة والمجتمع في آن واحد، كما تشير إلى ذلك الوقائع المذهلة.

هنا، بالذات، تطرح على بساط البحث، من الباب الواسع، مسؤولية القادة التاريخيين لحركتنا، من لينين إلى ديمتروف، وإلى الذين أكملوا المسيرة حتى نهايتها. وفي اعتقادي فإنَّ اختصار المسؤولية عن كل ما حصل في الماضي، وحصرها في شخص ستالين، هو هروب من المحاكمة الحقيقية للمسؤولية وللمسؤولين عن ذلك الخلل البنيوي في حركتنا الشيوعية، وفي تجربتنا الإشتراكية التي انهارت بعد عقود من الإنجازات والخيبات. ذلك أن الفكر ذاته، والمشروع ذاته، والديموقراطية الاشتراكية، أو الاجتماعية، ذاتها، جميعها تتحمل مسؤولية قيام ظاهرة ستالين. ولذلك فالمحاكمة لا يجوز أن تنحصر بستالين وبالجرائم التي ارتكبها، رغم بعض الإنجازات الكبرى التي ارتبطت باسمه، من دون أن تطاول تلك المحاكمة لينين بالذات ورفاقه الأُوَل من البلاشفة.

أقول لينين، تحديداً، من دون أن أقلل من الجهد النظري والسياسي الكبير الذي بذله هذا القائد الثوري العظيم، والذي تمثل في "السياسة الاقتصادية الجديدة" (NEP) التي كان يبتغي منها إحداث مراجعة نقدية جوهرية في تجربته، وفي مسارها. لكن المرض لم يسعفه. فغادر الحياة قبل أن يرى ما إذا كانت تلك المراجعة النقدية، وذلك التغيير الذي تمثل في برنامجه السياسي الجديد، قادرين على تغيير مسار التجربة، وإعادتها إلى الطريق الأكثر ملاءمة للوقائع التاريخية، والأكثر اقتراباً من الاتجاه الصحيح لاستكمال أهداف المشروع الإشتراكي لتغيير العالم. علماً بأن ستالين، الذي ورث لينين في قيادة الحزب والدولة في الاتحاد السوفياتي، كان قد بدأ، حتى قبل وفاة لينين، وفي فترة مرضه الذي أنهى حياته، في تصفية آثار تلك المراجعة وآثار "السياسة الاقتصادية الجديدة" من جذورها.

وإني لأعترف هنا، أمام التاريخ، وأمام الذين لا يزالون ينتمون إلى تاريخهم في الحركة الشيوعية، حتى وهم ينتقدونه، وأمام الذين لا يزالون يعتبرون أنفسهم من أبناء التجربة الاشتراكية المساهمين في بنائها، والتي انهارت بسبب الخلل البنيوي فيها، أعترف بأنني، وإن كنت ما أزال أتمسك بحلم ماركس في تغيير العالم، لم أعد أرى في مشروعنا الاشتراكي القديم، الذي انهار وانهارت معه الأسس التي استند إليها، ما يحقق حلمنا القديم - الجديد بتغيير العالم. وأزعم أن ماركس لو عاد إلى الحياة لبادر من دون تردد، وبالاستناد إلى العقل الذي استنبط فيه أفكاره العظيمة، إلى إعادة النظر جذرياً في كل ما كتب حول المستقبل، وحول آليات الذهاب في الطريق إلى ذلك المستقبل الذي تصور فيه المجتمع الإنساني مجتمعاً خالياً من الاستغلال والقهر بكل أشكالهما المرتبطة بالرأسمالية وبنظامها العالمي. علماً بأنه كان، في استشرافه للمستقبل، يرى أن العالم سيتغير بمقاييس مذهلة، وأن الرأسمالية، وهي تحاول توحيد العالم تحت رايتها ووفق مصالحها، ستقوم بدور تقدمي موضوعي لا يجوز التقليل من شأنه. وهو ما تشير إليه الإنجازات العلمية المذهلة التي تتم اليوم في ظل العولمة الرأسمالية، رغم كل ما في هذه العولمة الرأسمالية من توحش ومن همجية لا سابق لهما في التاريخ. وكان ماركس، في استشرافه هذا للمستقبل، يرى، ولو في تحديد نظري مجرد، أن على القوى صاحبة مشروع تغيير العالم أن تأخذ في الاعتبار تلك التحولات المحتملة بكل ما فيها من جديد غير مسبوق، وان تقدم صيغتها الجديدة لمشروعه القديم الذي دمره من ادعوا أنهم ورثة ماركس ومكمّـلو رسالته.

إنَّ الديموقراطية السائدة اليوم ومنذ قديم الزمان في العالم الرأسمالي هي، في جوهرها وفي أساس تكونها التاريخي، الديموقراطية التي تحتاج إليها الشعوب التي لم تلجها بعد، والتي تبرر عدم ولوجها بحجَّة الدفاع عن هوياتها القومية الغارقة في ظلام التخلف، والدفاع عن وهم استقلال بلدانها. فاختارت، بديلاً من تلك الديموقراطية التي كانت ولا تزال بحاجة إليها من أجل تقدمها، البقاء تحت نير الاستبداد، ونير التخلف، خارج العصر وخارج تحولاته، أي خارج التاريخ. ذلك أن الأساس في هذه الديموقراطية التي تمتاز البلدان الرأسمالية في تنظيمها لدولها ولمجتمعاتها، ليس الخلل الذي يرتبط بتوحش الرأسمال المعولم في تعامله مع القوى المنتجة من عمال وأجراء وعلماء وخبراء وفنيين، ومع الشعوب الضعيفة ومع بلدانها المتخلفة ومجتمعاتها المفككة من أجل الهيمنة عليها والتحكم بمصائرها. بل أن أساس هذه الديموقراطية إنما يكمن في أن الرأسمال كان في بدايات نشوئه ونشوء نظامه الإجتماعي بحاجة، من أجل تطوره وتوسعه، إلى تحرير الأفراد من نير العبودية والقنانة والإقطاع، لكي ينخرطوا في عملية الإنتاج كأفراد أحرار. أي أن الرأسمال كان، ولا يزال، بحاجة إلى ديموقراطية تقوم على حرية الأفراد والجماعات في مجتمعاتها المتطورة. فحرية الإنسان الفرد، بما في ذلك حريته في أن يموت جوعاً إذا هو لم يخضع لشروط الرأسمال، هي أساس الديموقراطية البورجوازية التي لا تزال أقسام أساسية من شعوبنا ومن نخبها الثقافية والسياسية تتردد في سلوك الطريق إليها، رغم الإقرار المبدئي بأنها ، أي الديموقراطية، حاجة موضوعية من أجل التقدم، وأنها الشرط الضروري لكي تمارس قوى التغيير دورها في تحقيق الحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية.

وعلينا أن نتذكر، هنا، أنَّ فكر ماركس إنما يقوم في جوهره على اعتبار أن الإنسان الفرد هو القيمة الإنسانية المطلقة في الحياة. والمقصود عند ماركس، في التأكيد على أن الإنسان هو أعظم رأسمال، هو تنبيه وتحذير للقوى المرتبطة بالفكرة الإشتراكية وبمشروعها لتغيير العالم، من أن تتمادى، باسم الجماعة وباسم مصالحها، في تحويل الإنسان الفرد إلى برغي في آلة. إذ أن من شأن ذلك أن يفقد الحرية معناها ومضمونها، ويقود إلى اغتراب القوى العاملة أفرادا ومجموعات، تماما مثلما هي حالهم في النظام الرأسمالي. ففي كل أدبيات ماركس تأكيد قاطع على أن الإنسان الحر هو الإنسان الذي يمتلك الوعي الحقيقي بذاته، ويمتلك التفكير الحر بمستقبله، ويمتلك القدرة، من خارج الجماعة ومن داخلها، على البحث بحرية عن الوسائل التي تقوده إلى سعادته، من دون قيود أيديولوجية تحدد له نمط تفكيره، وتحدد له آليات حركته، وتحدد له صورة سعادته وشكلها.

وغني عن التأكيد أنَّ المقارنة التاريخية بين الديموقراطية التي عبَّرت عنها قرارات المؤتمر السابع للكومنترن وتوجهاته وبين الديموقراطية التي تطمح إليها شعوب العالم اليوم، لا سيما شعوبنا العربية الرازحة تحت قيد الاستبداد بأبشع أشكاله وصيغه، هي مقارنة بائسة. ذلك أن الأساس التاريخي والوقائع التاريخية وجملة من الأمور المرتبطة بكل من الحقبتين، حقبة ثلاثينات القرن الماضي وحقبة مطالع القرن الجديد والألفية الجديدة ، جميعها شديدة الاختلاف في ما بينها. ومفهوم الديموقراطية ذاته، برغم ثبات جوهرها، مختلف في فهم الأممية الشيوعية له في ذلك التاريخ عن المفهوم المعاصر للديموقراطية. وغني عن التأكيد أيضاً، في هذا السياق، بأن حركة التاريخ هي سلسلة حلقات، يعبَّر عنها تعاقب المراحل والحقبات. إذ لا انقطاع في هذه الحركة، ولو ظهر فيها تعرجات أو انزياحات كبرى، مثلما حصل بالنسبة لانهيار التجربة الاشتراكية. ولا أبالغ إذا قلت أن بعض تلك التعرجات والإنزياحات ليس سوى تعبير، برغم مأسويتها، عن شكل من أشكال إعادة ترتيب مسار حركة التاريخ، الترتيب الذي تستعيد فيه بعض القوانين الموضوعية دورها، بديلاً من التعسف الذي يكون قد ساد عقودا، أو حتى قرونا طويلة، في التعامل مع تلك القوانين.

وطبيعي، كما يشير إلى ذلك ماركس ذاته، أن استعادة القوانين الموضوعية للتطور دورها إنما يتخذ في أحيان كثيرة، مثلما هو حاصل بالنسبة لانهيار التجربة الاشتراكية، شكل عقاب للذين خالفوا هذه القوانين في محاولتهم المتعسفة فرض قوانين بديلة منها غير ذات صلة بالوقائع العنيدة. وسيكون من الطبيعي، في السياق ذاته، إذا ما سارت الأمور في اتجاهها الصحيح، أن تتصدى لإعادة تصويب هذا المسار، بما في ذلك إعادة صياغة مشاريع تغيير العالم، أجيال جديدة أكثر ارتباطاً بالوقائع التاريخية، وأكثر جرأة في نقد التجربة السابقة وفي الاستفادة من الصح فيها ومن الخطأ، وأكثر وعياً بالمسؤولية، وأكثر احتراماً للقوانين الموضوعية للتطور، وأكثر احتراما للشروط الجديدة التي تميز عالم اليوم عن عالم الأمس.

محصلة ما أريد أن أصل إليه في قراءتي لتاريخ تلك الحقبة التي نستحضر رموزها واتجاهات التفكير فيها، هو أننا، نحن الذين ما زلنا نعتبر أنفسنا معنيين بتغيير العالم، وبالتغيير الديموقراطي في بلداننا،باسم الإشتراكية الجديدة التي نسعى لإعادة صياغتها، أو بأسماء أخرى، ملزمون بأن نغيِّر طريقة تفكيرنا، وأن نعيد الاعتبار للأساسي في فكر ماركس، لا سيما منها ما يتصل باحترامه لحرية الإنسان الفرد، الذي هو، في نظر ماركس، الأساس في بناء المجتمع، أي مجتمع، وهو الأساس والهدف النهائي في أية حركة لتغيير العالم. وفي ولوجنا الطريق إلى هذا التغييرفي طريقة تفكيرنا، ارتباطاً بالجديد الناشئ في حركة التاريخ المعاصرة بالذات، نكون قد أحدثنا نقلة نوعية في فهمنا لمعنى الديموقراطية، الديموقراطية داخل وعينا كأفراد، والديموقراطية داخل أحزابنا ومؤسساتنا في علاقة بعضها ببعض، وفي علاقاتها بالآخرين، والديموقراطية في صيغة وآلية وتحديد المهمات التي تواجهنا كل منَّا في بلده، والمهمات التي تواجهنا جميعنا على الصعيد العالمي، في التصدي للجانب المتوحش في الرأسمال المعولم. وفي التزامنا بهاتين المهمتين، الوطنية والأممية، سنكون بحاجة إلى تشكيل كتل تاريخية من نوع جديد في بلداننا، كتل متعددة في مكوناتها السياسية والإجتماعية، ومتناقضة، في الآن ذاته، في المصالح الآنية والبعيدة المدى بين أطرافها. ووظيفة هذا الالتقاء بين القوى المختلفة المتناقضة في مصالحها ومهمته هما تحرير بلداننا من الآثار المدمرة لسيادة أنظمة الاستبداد فيها، والمساهمة معا في بناء الدولة الديموقراطية الحديثة، دولة المؤسسات والقوانين المفتقدة منذ الإستقلال. كما سنكون بحاجة إلى تشكيل كتلة تاريخية من نوع جديد على الصعيد العالمي، متعددة في مكوناتها السياسية والاجتماعية، ومتناقضة أيضاً في المصالح ومهمته الآنية والبعيدة المدى بين أطرافها. ووظيفة هذا الإلتقاء بين القوى المختلفة في المصالح هما مواجهة توحش الرأسمال المعولم والحد من أخطار مغامراته، والعمل على تفعيل الحوار بين الثقافات من أجل جعل الحضارة العالمية المعاصرة حضارة إنسانية يتوحد فيها العالم بكل شعوبه وأممه، في مسار تاريخي عالمي جديد بالكامل. وفي اعتقادي فليس ثمة بديل من تحقيق ذلك الهدف الكبير إلاَّ بالعودة إلى الأمم المتحدة، كمركز أممي متفق عليه يوازن بين القوى العالمية المختلفة، في ما يشبه حكومة عالمية مهمتها ضبط الصراع بين المتناقضات، وإحلال السلام العالمي، وتوحيد العالم في صيغ واقعية، تختلف بين حقبة وأخرى، وتساهم في بناء الحضارة الإنسانية الجديدة على قاعدة تفاعل الثقافات والهويات القومية بديلاً من صراعها واختصامها. وفي هذا التطور، إذا ما سار في الإتجاه الصحيح، استعادة حقيقية لجوهر مشروع ماركس، مشروعه الإنساني العظيم لتغيير العالم، التغيير الذي يحرر الإنسان الفرد، ويحرر الجماعات البشرية، من كل أشكال العبوديات، ويحقق العدالة الاجتماعية في شكلها التاريخي الملموس، مقرونة بالحرية وبالتقدم في مجالاتهما كافة.

(عقدت في صوفيا بين 1 و 2 تشرين الأول 2005).