الاصالة والمعاصرة: الرنيسانس (*) (2/2)


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 4950 - 2015 / 10 / 9 - 15:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يواجه الساعون لتحديث مجتمعاتهم، وبالذات في منطقتنا المباركة مهبط الديانات، مشكلة "القديم"، او "التراث"، الذي يعوق حركتهم ويفسد محاولاتهم. التراث الذي يقول عنه حسن حنفي انه "في الحقيقة مخزون نفسي عند الجماهير. فالتراث القديم ليس دراسة للماضي العتيق فحسب ... بل هو ايضا جزء من الواقع. ما زال التراث القديم بأفكاره وتصوراته ومثله موجها لسلوك الجماهير في حياتها اليومية اما بعاطفة التقديس ...، أو بالارتكان الى ماض زاهر تجد فيه الجماهير عزاء عن واقعها المضنى" (حنفي, 1992) ص 15-16). انه اذن التاريخ الذي يؤثر في الحاضر والذي تصبح عملية تحديد أسلوب التعامل معه أمرا لازم وضروري لإنجاح أي محاولة تستهدف تحديث (او تنمية) أي مجتمع. وهي العملية التي تتطلب انجاز ثلاثة أمور. أولها هو تعريف التراث وتحديد مكوناته. اما ثانيها فهو تحديد معيار التفرقة بين القديم الذي ينبغي ازالته والقديم المطلوب تطويره. وأخيرا كيفية تطوير القديم بحيث يصبح عنصرا في منظومة ثقافية "متماسكة" Coherent (خالية من التناقضات الداخلية).

ويمكن تعريف التراث بأنه جملة ما خلفه السلف للخلف من أمور مادية ومعنوية وهو يتكون من التراث الثقافي والتراث الفكري والتراث الاجتماعي. و "التراث الثقافي"، أول مكونات التراث، هو كافة المنتجات الثقافية المادية وغير المادية التي انتجها المجتمع عبر مراحل تطوره التاريخية. وتتمثل المنتجات الثقافية المادية في المباني والأماكن التاريخية والعمائر الدينية هذا بالإضافة الى المنحوتات والمواد المنقوشة والمسكوكات والأدوات الفخارية والخزفية والزجاجية والمنسوجات وذلك على سبيل المثال. اما المنتجات الثقافية غير المادية فتتمثل في أشياء من قبيل التقاليد الشفهية، والفنون الاستعراضية، والممارسات الاجتماعية، والطقوس، والمناسبات الاحتفالية. وهو مكون لا يمكن التخلي عنه فهو يعبر عن "خصوصية" المجتمع الذي انتجه. ولا يشكل هذا المكون التراثي عقبة امام عملية التحديث/التنمية بل على العكس يمكن استخدامه لدعم هذه العملية. فيمكن على سبيل المثال تغيير كلمات أغنية شعبية لتحمل مضمونا جديد يدعم عملية التغيير.


وثاني مكونات التراث هو "التراث الفكري" الذي يتمثل في كتابات السلف المتعلقة بتصوراتهم عن وفهمهم لما يدور حولهم في كلا من الواقع الطبيعي والواقع الاجتماعي الذي عاصروه. وفي العادة يلعب هذا المكون دورا سلبيا ومعوقا لعملية التحديث. والمشكلة ليست فيما جاء في هذه الكتابات بل فيمن يأخذها على علاتها فلا يخضعها لأي دراسة نقدية ويؤمن بها دون مراعاة لسياق (زمن ومكان) انتاجها ودون اختبار صدقها من عدمه. والحكم على صدق، او صلاحية، أي فكرة ينطلق اما من قدرتها على وصف الواقع وصفا صحيح ومن ثم القدرة على تغييره (نظرية التطابق (Correspondence Theory، او من عدم تناقضها مع ما ثبتت صحته من أفكار أخرى مستمدة من خبراتنا السابقة (نظرية الاتساق Coherence Theory)، او من قدرتها فعلى إيجاد حل ناجح لمشكلة واقعية (النظرية البراجماتية (Pragmatic Theory. ومما يزيد الامر خطورة إضفاء قداسة على بعض من هذه الكتابات فتصبح مناقشتها من المحرمات ويصبح نقدها خروجا عن الملة يستوجب قطع الرؤوس.


وآخر مكونات التراث هو "التراث الاجتماعي" وهو، على عكس بقية المكونات غير مرئي مثله في ذلك مثل التمساح القابع في قاع البحيرة ولكن اهتزاز ذيله يحدث على سطحها أمواج ومويجات. انه منظومة القيم السائدة في المجتمع والتي تمثل حصيلة خبرات هذا المجتمع في مراحل تاريخية سابقة لكل منها ملامحها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة. وتتكون هذه المنظومة من مجموعة من المعايير والمبادئ التي تحدد لمكونات المجتمع، افرادا وجماعات ومؤسسات، السلوك القويم الذي يتوقعه المجتمع منهم وتكون ملزمة للجميع. والسؤال الان كيف نقيم هذه المنظومة ونتعرف على مدى مواءمتها لواقعنا المعاصر بكل ما فيه تنوع في المكونات وتشابك في العلاقات وتسارع في الايقاعات. والاجابة عل هذا ليست بالعسيرة اذ يمكن استخلاصها من دارسة تجارب التنمية (التحديث) الناجحة التي شهدتها العديد من الدول في النصف الثاني من القرن العشرين. وتخبرنا هذه ان نجاح هذه العملية يتوقف على وجود ثلاثة منظومات قيمية هي: "النظرة المستقبلية"، "الاحتفاء الشديد بالإبداع"، "محددات وضع الفرد في المجتمع".

وأول هذه المنظومات، "النظرة المستقبلية"، تشمل كافة القيم التي تنظر للمستقبل بوصفه الزمن الذي سيجسد المجتمع فيه أحلام أعضائه المتجددة وتطلعاتهم المشروعة وذلك بالتخطيط الواعي وبجهد افراده. وتأتي قيمتي "التطور" و"تمكين الانسان" على رأس قيم هذه المنظومة. فقيمة "التطور" تعني ببساطة ان التغير والتبدل والتحول من خصائص الكائنات وان التاريخ لا يعيد نفسه. اما قيمة "تمكين الانسان" فتعني قدرته على صنع مستقبله باستخدام ملكاته الفكرية وقدراته الذهنية فقط ودون أي وصاية.

وثاني هذه المنظومات القيمية، "الاحتفاء الشديد بالإبداع"، تأخذ في الاعتبار "المعرفة" كأهم مورد لمجتمعات القرن الواحد والعشرين، فتشمل كافة القيم التي تدعم انتاج المعرفة الجديدة من قبيل: "التسامح مع الأخطاء"، "التعلم المستمر"، "التقييم الموضوعي (العادل) للأفكار"، "تقبل المخاطرة"، "تشجيع التجريب"، "تقبل الخلافات"، و"الاحتفاء بالتغيير". فتبني قيمة "التسامح مع الأخطاء" تعني نظرة الكيان لها بوصفها مصدرا للدروس المستفادة التي تنشأ عنها الأفكار الجديدة. وتعزز هذه القيمة قيمة "التعلم المستمر" بما تنشئه من "نزعة فضولية" تدفع العاملون للبحث عن كل جديد. كما تؤدى قيمة "التقييم الموضوعي للأفكار" إلى تشجيع العاملين على إنتاج الأفكار الجديدة ومناقشتها. أما قيمتي "تقبل المخاطرة" و"تشجيع التجريب" فهما القيمتان اللتان تعززان القدرة على "الخروج عن المألوف"، التي تمثل أحد الشروط اللازم توافرها لإنتاج المعرفة الجديدة.

أما آخر منظومات القيم فهي تلك المتعلقة بـ "محددات وضع الفرد في المجتمع". ومن اهم قيم هذه المنظومة هي الإعلاء غير المسبوق لقيمة "العمل"، أيا كانت طبيعته، واحتلالها مركز الصدارة. فالتفاني في العمل وإتقانه هو وسيلة الفرد الوحيدة لحيازة الثروة وإحراز المكانة. وتعزز هذه القيمة قيمتي "التنافس" و"الجدارة". فقيمة "التنافس" هي آلية "تجويد" الأفكار والأفعال. اما قيمة "الجدارة" فتعني ان المعيار "الأوحد" الذي يحدد مكانة الفرد في المجتمع هو قدرته على "الإنجاز" المرتكزة على ما حصله من علم وما اكتسبه من مهارات. هذا بالإضافة الى "قيم الديمقراطية" وعلى رأسها قيم "احترام التعدد"، سواء كان تعددا في الفكر أو العرق أو الدين، و"الحرية"، بكل أبعادها الشخصية والسياسية والاقتصادية، و"المساواة"، بما تعنيه من حق الإنسان في أن يعامل على قدم المساواة بغض النظر عن عرقه أو جنسه أو دينه أو وضعه الاقتصادي.

وتشكل هذه المنظومات الثلاث إطار متماسك يمكنا من تقييم أي منظومة قيم وتحديد مدي دعمها لعملية التحديث ومن ثم يساعدنا على التخطيط لتغيير منظومة الثقافة السائدة. فالمنظومة الأولى، "النظرة المستقبلية"، تتعلق باتجاه عملية التحديث وتهتم الثانية، "الاحتفاء الشديد بالإبداع"، بمضمونه، اما الثالثة، "محددات وضع الفرد في المجتمع"، فتعني بالمشاركين في هذه العملية.

(*) عندما تحرق النيران "العنقاء"، هذا الطائر الأسطوري، وتحوله الى رماد تخرج منه عنقاء جديدة في ريعان الشباب وتكون لحظة الميلاد الجديد "الرنيسانس".

المراجع
حنفي, ح. 1992. التراث والتجديد (الطبعة الرابعة ed.). بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.