العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الخامس عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4950 - 2015 / 10 / 9 - 11:55
المحور: الادب والفن     

لم ننه حزننا على ماري حتى نبدأ حزننا على البرتغالي، مات ومعه سره، هكذا أبدى التقرير. بعد دفنه، ذاب الجليد متحولاً إلى سيول جبارة تزمجر عند حواف الأرصفة. تساقطت المياه من الأسطح مباشرة على الأرض، وهي تجرف الوحول، وتسربت كالقدر إلى سفن الشمس. هاج نهر السين وماج، وهو يخفق من الغضب، وعلا كالصقر المحلق في الجو. خلال ذلك، كانت أمي في مخيم الشقاء والسناء تغطس بقدميها في الوحل، مشمرة عن ساعديها، وهي تدفع عربة الخبز الذي تبيعه لأفقر الناس في الكون. تصارعت العجلات مع الوحل، فركض بعض سكان المخيم ليدفعوا معها. قامت العربة بخطوة، لكن مستنقعات الوحل بقيت ممتدة. جاء بعض جنود الاحتلال، ودفعوا العربة خطوة أخرى.
- جنود بطيبة القلب مثلكم، أنا لم أر، قالت شاكرة، لكني امرأة بسيطة لا أملك شيئًا أقدمه لكم بالمقابل غير خبزي، ناسنا يأخذونه عن طيب خاطر، فهم ناسنا، وأنتم تعرفون من هم ناسنا، أما أنتم، فلا حاجة لكم به، الخبز عندكم كثير. خذوا، يا إخوان، كتر الله خيركم! روحوا، أنا أسكن غير بعيد. وصلتُ. وأنتم، أيها الجنود الطيبو القلب تعالوا... ياسمين، يا ياسمين! ياسمين، يا صغيرتي! لدينا ضيوف، تعالي، علينا واجب إكرامهم.
دخل الجنود الكوخ القذر، وجلسوا، ولم تظهر أختي.
- ياسمين، أين أنت؟ نادت أمي، الضيوف علينا واجب إكرامهم. ارتدي أجمل حللك، وتزوقي، لتروقي في أعينهم. هي دومًا هكذا، ابنتي ياسمين، تستحي. قلتُ لكِ جنود طيبو القلب، سيسعدونك إن أسعدتِهم. ياسمين... لا تجيب! فلتذهبوا إليها واحدًا واحدًا، وكونوا طيبين معها كما كنتم طيبين معي، ارفقوا بكتفها، اخترقتها رصاصة، هذا ليس مهمًا، لكن كتفها لم تزل تؤلمها، المسكينة! ياسمين، سيدخلون عليك واحدًا واحدًا، وَعَدوا أن يكونوا طيبين معك، فأكرميهم، هم يستحقون كل خير، دفعوا معي عربة الخبز حتى الباب، تصرفوا كرجال، فلتسلم البطون التي ولدتهم! أمهاتهم بهم فخورات مثلي بكم... لا تصرخي هكذا، يا طفلتي! ستقولين لي هذه صرخات العناق! نعم، أريدك أن تشبعى متعة، أن تَنْفُقِي لَذة، إنهم أشداء وطيبون كما قلت لك، وهم يستحقون كل خير، والبرهان، ها أنت تصرخين كقحبة! كم أنا سعيدة، يا ابنتي! أنا سعيدة، أكثر الأمهات سعادة! أنا سعيدة لأنك أنت سعيدة! أنا سعيدة لأنك تدركين الآن ما هي السعادة! أعظم سعادة هي سعادة المواخير، يا ابنتي! لهذا أنا سعيدة لأنك سعيدة، هل تسمعين؟ لأنك سعيدة، لأنك سعيدة، آه، يا ابنتي التعيسة! يا أتعس بنت في الوجود!
وقليلاً قليلاً ترك البرد باريس، رأينا شعاعًا ساخنًا يعبث مع العشب المبتل، وبرزت البراعم في أشجار قناة سان-مارتن. تمهلت القدم على حوافها، لتحث الربيع على الإزهار. عند مدخل مصنع الأحاسيس، وصلني هذا الصوت العذب:
- اشتر الحُلم، يا رفيق!
تقدمتُ بقدم عازمة نحو الفتاة ذات الصوت العذب، واشتريت الجريدة. كانت تبتسم دون انقطاع، فقلت لنفسي كم هذه الابتسامة نورانية، شلال ضوء! كنت سعيدًا لأنني أرى عن قرب، هذه المرة، ابتسامتها، أقرب ما يكون، ولأنني أستطيع أن أقول لبيير: اشتريت الحُلم، يا رفيق! وبينما أنا أرتع في خِصْبِ رؤيتي، شاهدت فجأة اثنين من حراس المصنع، وهما يقتربان من الفتاة، ويدقانها في صدرها. ارتفق رفيق الفتاة شجاعته، وتصدى لهما:
- فاشست! صاح.
غير أنهم مطرقوه.
وصل حارس ثالث عاديًا، بصحبته كلب شرس، وأراد الانقضاض على الفتاة. انطلقتُ لأمنعه، فنهشني الكلب من كتفي. هوى مطرق على رأسي، وسمعت صرخات الفتاة ترن في أذنيّ:
- فاشست!
وهذه الأصداء: فاشست... فاشست... فاشست...
قال ضابط الشين بيت لأخي:
- ها نحن صنعنا منك شخصًا وطنيًا عندما حبسناك، والآن نطلق سراحك، لتنقل إلينا كل ما يفعل الوطنيون، أبناء المومس، وما لا يفعلون.
- ما لا يفعلون!
- لا تتشاطر عليّ، يا ماخور!
- أنقل إليكم ما لا يفعلون، هذا شيء فوق طاقتي.
- لا تتشاطر عليّ، لا تتشاطر عليّ، يا ماخور، قلت لك!
- أنقل إليكم ما يفعلون، أما ما لا يفعلون، فهذا شيء فوق طاقتي.
- لا تتشاطر عليّ، لا تتشاطر عليّ، لا تتشاطر عليّ، يا ماخور!
- أنا لا أتشاطر عليك، أنا أقول لك فقط إن هذا شيء فوق طاقتي أن أنقل إليكم ما لا يفعلون.
- توقف عن معاندتي، يا ماخور!
- معاندتك! أنا لا...
- معاندتي، معاندتي!
- ...أعاندك.
- معاندتي! معاندتي! معاندتي!
- أنا لا أعاندك.
- معاندتي! معاندتي!
- أنا لا...
- معاندتي!
- ...أعاندك.
- توقف عن معاندتي!
- سأنقل إليكم إذن كل ما يفعل الوطنيون وما لا يفعلون.
- هكذا.
- هذا شيء لا يقدر على فعله سوى واحد ابن مومس.
- هكذا.
- فاشستي.
- هكذا.
- وطني مثلي.
- هكذا، هكذا، هكذا.
- وماذا ستكون مكافأتي؟
- مكافأتك!
- مكافأتي.
- ...
- نعم، مكافأتي.
- ليس هذا وقته، يا ماخور!
- في كل لحظة هذا وقته.
- ليس في المكتب، يا ماخور!
نهض أخي، وكبس بقدمه زر الضوء الأحمر الخارجي.
- سليم، هل فقدت عقلك؟
- انتظر، لا، لم أفقد عقلي... أقول لك لم أفقد عقلي.
- سليم... سليم...
- ...
- يا إلهي! سليم...
- ...
- أنت جميل كإله!
- ...
- أنت قوي كجيش!
- ...
- أنت لذيذ كألف امرأة!
فجأة، سقط ضابط الشين بيت على الأرض. ظن سليم أنه يريده في الحال، فاحتواه، وإذا به يطلق أنفاسًا مختنقة مرددًا:
- قلبي، قلبي، قلبي... سيتوقف قلبي عن الدق!
- شيمون! لا تفعلها، يا ماخور!
- قلبي، قلبي...
- شيمون!
- قلبي...
- النجدة... المساعدة...
أخذ سليم ينفخ الحياة في فمه، ويصرخ:
- المساعدة... العون... لا، يا شيمون! لا تفعلها، يا رجل! سيارة إسعاف، نادوا سيارة إسعاف... سيارة إسعاف، يا ماخور! بسرعة، بسرعة، بسرعة...
في سيارة الإسعاف، وشيمون موصول بآلات الإنعاش، لم يترك سليم يده لحظة واحدة، والدموع تسيل من عينيه. بقي أمام حجرة المعالجات المكثفة ساعات رائحًا غاديًا حتى جاءه الطبيب، وطمأنه على سلامة المريض: لقد نجا من الموت بأعجوبة.
صحوتُ في سرير أبيض، برأسٍ وكتفٍ مضمدين. كانت هنا، تبتسم إلى ما لا نهاية. نظرتُ إلى مارتا، فقالت لي بحنان:
- حمدًا لله على سلامتك، يا ولدي!
أدرت برأسي المثقل إلى الفتاة، فعرّفتني بنفسها:
- أنا مارتين.
سكتت قليلاً، ونَفَسُها يداعبني، كالنسيم:
- أنت سالم، أليس كذلك؟
ابتسمتْ لي، ابتسمتُ لها، ابتسمت مارتا، ابتسمت الورود التي أحضروها.


يتبع القسم الأول الفصل السادس عشر والأخير