ابن خلدون بين التعصب لموطنه وإيمانه بعقيدة وحدة الفاعل الصوفية


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4948 - 2015 / 10 / 7 - 09:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

ابن خلدون بين التعصب لموطنه وإيمانه بعقيدة وحدة الفاعل الصوفية
كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية
القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون
الفصل الرابع : كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

لماذا لم تكن مصر في إبن خلدون ؟ هل السبب تعصبه لوطنه أم إيمانه بعقيدة وحدة الفاعل الصوفية ؟
هنا نفكر معا في بعض الإجابات .
التعصب لموطنه
هل لأنه كان متعصبا لوطنه ( فيما بين تونس والجزائر والمغرب والأندلس )؟
1 : ويرجح هذا الإحتمال أنه جاء لمصر بعد أن بلغ الثانية والخمسين من عمره ، وفي هذه المرحلة العمرية يكون الإنتماء قد تحدد واكتمل ، خصوصا مع حياة حافلة بالتقلبات السياسية والمعارف الفكرية . فلم تكن مصر سوى منتجع للراحة يمارس فيها فترة السكون والمعاش والتمتع الهادئ بالحياة بعيدا عن المشاكل . .
2 : ويتفق مع هذا الإحتمال ما اشتهر به إبن خلدون من المحافظة على زيه المغربى الغريب في مصر ، ورفضه أن يرتدي زي القضاة ، مما أثار المؤرخ الساخط دائما السخاوي فقال عنه " لم يغير زيه المغربي ولم يلبس بزي قضاة هذا البلد لمحبته المخالفة في كل شئ " . أي أنه خالف كل شئ إعتاد عليه المصريون ، كما خالف بذلك القادمين لمصر من المشرق والمغرب وهم كانوا أسرع إلى تمصير أنفسهم . . أي أن كل منهم كان يتمصر ولا يبقى من تاريخه القديم إلا لقب المغربي أو الحلبي أو الفاسي أو المقريزي أو العسقلاني أو العيني أو الشامي . . الحجازي . . الخ . . بينما ظل إبن خلدون في مصر على زيه وعاداته دون أن يتمصر . . أي كان متعصبا لموطنه وماضيه وتاريخه القديم . خصوصا وإن هذا التعصب يدعمه إحساسه بعبقريته وتفوقه على العلماء المصريين في عصره.
وهناك دلائل أخرى في تاريخه ومقدمته يظهر فيها هذا التعصب لموطنه ، إذ بني المقدمة على أحوال موطنه وعصبياته ، وكان يحلو له الإستشهاد – بما يشبه الفخر – بعلماء وطنه مع تأكيده المتكرر على ما أصاب وطنه من تأخر وتخلف.
3 : ثم يكفي عنوان كتابه " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " فالواضح أن العنوان ينقسم إلى تاريخ العرب والعجم وتاريخ البربر . ومن المنتظر ــ منهجيا ـ أن يحتل البربر نصف التاريخ حسب العنوان ، وإلا فليس هناك ما يدعو إلى جعلهم جزءا في العنوان ، إلا أن إبن خلدون حاول إختصار تاريخ العرب والعجم في كتابه الذي يشمل سبعة أجزاء ، ولكن ملأ تاريخ العرب والعجم خمسة أجزاء وشطرا من الجزء السادس . ولم يبق لتاريخ البربر من قبل الفتح الإسلامي وبعده حتى سيرة إبن خلدون إلا الشطر الباقي من الجزء السادس وبقية الجزء السابع والأخير . وإذا فالداعي الوحيد لذكرهم في العنوان هو مجرد التعصب للمنطقة مع قلة إسهامها في التاريخ العام فيما حولها .
4 ــ وليس ذلك عيبا في إبن خلدون ، لأنه لا يُعاب المرء بحب موطنه – ولكنها محاولة للإجابة على السؤال . . نقول ، ربما كان تعصبه لموطنه هو السبب في تجاهله لمصر في مقدمته وتاريخه .
إيمانه بعقيدة وحدة الفاعل الصوفية
وربما يكون ذلك بسبب إيمانه بعقيدة وحدة الفاعل الصوفية وما فيها من تفسير أو تبرير لحياته قبل وبعد مجيئه لمصر .
1 : فالواضح في مقدمته إيمانه بعقيدة وحدة الفاعل التي تجعل الله تعالى هو الفاعل في كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال شريرة أو خيرة ، مع تعارض ذلك مع القرآن والإسلام ، والشواهد في ذلك كثيرة ، ولكن نكتفي منها مما قاله عن السلطان برقوق ونكبته وعزله ثم عودته : " ولحقت السلطان النكبة التي محصه الله فيها وأقاله ، وجعل إلى الخير فيها عاقبته ومآله ، ثم أعاده إلى كرسيه للنظر في مصالح عباده ، وطوقه القلادة التي ألبسه كما كانت " ، والتمعن في ذلك الكلام يؤكد أن إيمان إبن خلدون بوحدة الفاعل – تلك العقيدة الصوفية – نتج عنه إيمانه بالثيوقراطية ، أي أن الله تعالى هو الذي يقيم الحاكم ، ومن هنا يكون من حق الحاكم النظر مستبدا في مصالح العباد بالقلادة التي ألبسه الله تعالى له . والتأكيد على الثيوقراطية أو الخلافة الشرعية أو الحق الملكي المقدس كان ثقافة العصور الوسطى ، وكان إحدى أساسات مقدمة إبن خلدون مع اللازمة الأخرى وهي العصبية التي تقيم ذلك الملك المقدس الذي يملك الأرض ومن عليها ولا يسأله أحد عما يفعل .
ومن خلال هذه العقيدة – وحدة الفاعل – التي آمن بها إبن خلدون ، يمكن تفسير حياته وإعطاء الإجابة على سؤالنا .
2 : لقد كتب إبن خلدون المقدمة والتاريخ في عزلته بقلعة إبن سلامة في الجزائر في حماية أعراب أولاد عريف ، في مدة أربع سنوات (776: 780) ووضع في المقدمة خبرة فشله في حياته السياسية المتقلبة قبل ذلك فيما بين 753 إلى 776 أي ثلاثة وعشرون عاما ، وصل فيها إلى أعلى المناصب من كاتب السر أى السكرتير الخاص بالسلطان والحاجب أي الذي يدير دولة السلطان ، وتآمر على كثيرين وتآمر عليه كثيرون ، وفي النهاية لم يصل إلى شئ . فالمحصلة النهائية أنه بعد الإرتفاع والإنخفاض وإقامة دول وإسقاط دول أخرى ، فإنه لم ينجح على الإطلاق في إقامة ملك لنفسه ، بل إن ما يبدو بين سطوره أن طموحه الشديد كان السبب في خوف السلطان منه ، وكانت العادة أن يستعينوا به لاستمالة أعراب الزواودة من بني رياح بسبب صلاته القوية لهم ، فإذا انتهت مهمته أصبح وجوده ثقيلا عليهم .
أي أنه ربما أدرك أنهم كانوا يستغلونه فقط في مشاحناتهم لصالحهم السياسي ، وهم مجرد ملوك ليس لهم من مميزات إلا عصبيات قائمة على النسب والإستقرار في المنطقة من قرون .وبهذا يمتازون عليه ، وهو حضرمي الأصل ، قدِمَ أسلافه إلى إشبيلية بالأندلس فلم ينجحوا في إقامة ولاية لهم ، ثم رحل جده إلى تونس بعد سقوط إشبيلية وليس له إلا خبرة سياسية تؤهله فقط لكي يكون الرجل الثاني أو الثالث في سلطنة حاكم صاحب عصبية قبلية تقيم الملك وتحرسه . وعبقرية إبن خلدون في حياته السياسية تلك لم تنجح في أن يحقق أكثر مما حققه أسلافه ، وذلك في منطقة لا تدين بالولاء إلا لصاحب العصبية والنسب من القبائل المتحاربة في المدن والصحراء ، ولأنه بلا جذور فقد تحتم عليه في عمله السياسي أن يخدم أصحاب العصبيات ، وأن تتغير تحالفاته حسب مصالحه ، وفي النهاية أخفق ، ورأي كيف عجز عن الدفاع عن نفسه عندما هاجمه أتباع أبو حمو السلطان البربري الذي غدر به إبن خلدون وتحالف ضده مع سلطان المغرب ، إذ لم تكن مع إبن خلدون عصبية تحميه وقت الأزمة ، وظل أبو حمو يطارده إلى أن لجأ في النهاية إلى حماية أولاد عريف بعائلته ، حيث عاش في قلعتهم معتزلا يكتب تاريخه ومقدمته ، فكتب المقدمة تأثرا بهذه الخبرة عن العصبية وأثرها في إقامة الدولة ، وأثرها في إنهيار دولة أخرى .
3 ــ وتبعا لإيمانه بالتصوف – الدين السائد في عصره – فإن التفسير الملائم لإخفاقه السياسي هو أن الله تعالى أراد له أن يكون بلا عصبية تقيم له الملك برغم ما حباه الله تعالى به من نبوغ ومقدرة هائلة على التأثير في المستمعين له سواء كانوا من الحكام أو من الأعراب . أي له كل مؤهلات الحكم والسياسة لولا افتقاره إلى العصبية ، وتلك إرادة إلاهية ، أن يظل نباتا طافيا بلا جذور ، في مجتمع يقوم على الأصل والنسب الثابت القديم . ومن هنا تبلورت لديه تلك الصلة التي وثق بها العلاقة بين وحدة الفاعل والثيوقراطية ، والتي أوضحها في المقدمة .
وتناثرت تجليات ذلك الربط في ثنايا المقدمة ، ومنها :
3 / 1 : هجومه على الفقهاء الذين لا تؤيدهم عصبيات ومع ذلك يقومون بثورات على الحكام ويكون مصيرهم إلى الفشل ، واعتبرهم إبن خلدون خارجين على إرادة الله لأنه حين حرمهم من وجود تلك العصبيات المسلحة المؤيدة ، فأنه لم يعطهم الإذن بالثورة ، ولعل ذلك يعطينا لمحة إلى أنه حاول أن تكون له العصبية فلم يستطع ، وكان ذلك تفسيره لفشله السياسي في المنطقة.
3 / 2 : ويفسر ذلك رأيه بأن من الأفضل للحاكم أن يكون متوسط الذكاء ليقترب من المستوى العام لعصره ، فهو هنا يعبر عن رأيه في نفسه وفي حكام عصره .
3 / 3 : كما يفسر ذلك رأيه في أن الشهرة تأتي بالحظ ولمن لا يستحق ، حيث اجتازته الشهرة وتركته إلى حكام متنازعين ليس لهم من مميزات إلا النسب والزعامة القبلية .
ويفسر هذا أيضا نفاق إبن خلدون للحاكم لأنه يعتقد أن الله تعالى قد اختار ذلك الحاكم ليحكم .
3 / 4 : ومن هنا لا يكتفي إبن خلدون بنفاق الحاكم – المتوسط الذكاء في نظره – وإنما يهاجم العالم الكفء الخبير الذي يحافظ على كرامته ولا ينافق الحكام والكبار ، ويعتبر ذلك الترفع من الأخلاق المذمومة ،
3 / 5 : ويفسّر هذا لجوءه الى نفاق الكبار وغطرسته مع من هم دونه .
ولذلك أهدى كتابه العبقري للسلطان المغربي أبي فارس بعد أن أوسعه مدحا ونفاقا .
وفي حياته بمصر قيل عنه أنه كان حسن العشرة إذا كان معزولا عن السلطة، أما إذا تولى القضاء فلا يستطيع أحد أن يجلس معه ، بل ينبغي ألا يراه أحد ، ولذلك كان يتواضع للأكابر ويباسطهم ويمازحهم بخلاف تصرفه مع الناس إذا تولى القضاء أي أنه من حقه أن ينافقه الناس إذا اختاره الله لمنصب ، بينما من واجبه أن ينافق من اختارهم الله للمنصب خصوصا السلطان .
كان بارعا فى (فنّ النفاق ) ، ولذلك إستطاع بمعسول حديثه أن يكتسب إعجاب الطاغية السفاح تيمورلنك الذي دمر دمشق سنة 803هـ . كما إستطاع بهذا المنطق الداهية أن يجعل برقوق يرضى عنه بعد عودته للسلطنة وينسى خيانة إبن خلدون له .
3 / 6 ـ إلا أن طريقته تلك في التعامل جعلت أصدقاءه وتلاميذه قليلين . وبالتالي فلم يكن له تأثير علمي في عصره يتناسب مع قامته العلمية ونبوغه الفكري . خصوصا وأنه ختم نبوغه بالمقدمة والتاريخ وأنهاه بقدومه لمصر ولم يزد شيئا كما قلنا .
4 ـ ومن هنا فلم يكن له من تلامذة إلا المقريزي والدلجي .
4 / 1 : والمقريزي الذي عاش بين عام (766)، (845) ، كان في الثامنة عشر من عمره حين قدم إبن خلدون مصر ، أي صحبه شابا إلى أن مات إبن خلدون وقد تجاوز المقريزي الأربعين من عمره ، وقد تأثر المقريزي بإبن خلدون في نقله ملاحظات خلدونية في الخطط المقريزية ، كقوله نقلا عن شيخه إبن خلدون ، إن أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب " تعليقا على مظاهر الإنحلال الخلقي في ذلك الوقت ، وفي إنتقاد المقريزي للظلم المملوكي وعنايته بالأسعار والأحوال الإقتصادية في تاريخه السلوك وفي مؤلفاته الصغيرة ، والأمر يحتاج إلى دراسة متخصصة في مؤلفات المقريزي . لتوضيح تأثر المقريزى بشيخه ابن خلدون ، وننتظر هذا البحث من شبابنا الباحثين الجادين ، فى عصرنا عصر السطحية العلمية ووالخواء الثقافى .!
4 / 2 : أما الدلجي ( شهاب الدين أحمد بن على ) فقد تأثر في كتابه " الفلاكة والمفلوكون " بإبن خلدون ونقل آراه في الكيمياء والمطالب أي الكنوز المدفونة وغيرها ، واستعمل نفس أسلوبه في المقدمة دون أن يشير إليه ، وتأثر بإبن خلدون في حياته ، إذ كان مهتما بالعقليات ومشهورا بانتقاصه للناس والإستهزاء بهم إلى أن مات 838 .
وهذا هو ما رصدناه من المتأثرين بإبن خلدون.
5 ــ أما غيرهم ، فلم نجد تعاطفا مع إبن خلدون فيما ذكره عنه أعلام عصره كإبن حجر والعيني والسخاوي وحتى إبن تغري بردي أبوالمحاسن.
6 ــ وذلك وثيق الصلة بعقيدة إبن خلدون في وحدة الفاعل التي جعلته ينافق الأكابر دون حرج ولا يأبه بالآخرين ممن هم أقل منه أو يساوونه . لذلك قل اصدقاؤه وتكاثر منتقدوه . وبالتالي فإن مشروعه في إصلاح النظام القضائي في مصر لم يفلح ، حين قام بعزل الفاسدين من الشهود والموقعين ، وحين رفض الإستجابة للوساطات في القضاء ، إذ كان يمكنه أن يجمع حوله عصبية ممن هم أقل منه شأنا ليُآزروه في حركته الإصلاحية ، ولكن طريقته في التعامل حالت دون ذلك ، هذا بالإضافة إلى إحتقاره لعلماء عصره ، ومعرفته بنبوغه وتفوقه العلمي عليهم .
7 ــ وأدى هذا الفشل المزدوج ( في مشروعه لإصلاح القضاء في مصر بالإضافة إلى فشله السابق في مشروعه السياسي في موطنه ) إلى أن يعيش السنوات الأخيرة في حياته (803: 808) في إستسلام غريب للسقوط ، لانجد له تبريرا أيضا إلا في عقيدة الفاعل الصوفية ، أو بالتعبير المصرى الشائع " ربنا عايز كده ".
8 ــ وهكذا نفهم ما قالوه عنه في آخر حياته أنه سكن على البحر أي النيل وأكثر من الإستماع إلى المطربات ، ومعاشرة الأحداث ( أي الشذوذ الجنسي ) وأنه تزوج إمرأة لها أخ مصاب بالجنون مما جعل خصومه يشنعون عليه طبقا لهذا الاتهام بالشذوذ الجنسى ، ومع ذلك أكثر من الإزدراء بالناس ، حتى تخلى عنه المتحمسون له وكان منهم الإستادار الكبير الذي رفض شهادته لأنه لم يعد أهلا للشهادة ، وكيف أنه في ولاياته الأخيرة للقضاء لم يعد ذلك القاضي المصلح الذي كان ، بل أصبح لينا مفرطا عاجزا خائرا يسمع بعض نوابه يستهزئ به فلا يرد عليه .
في ضوء عقيدة الفاعل الصوفية يمكن تفسير حياة إبن خلدون بين الصعود والسقوط ، ويمكن أن نفهم من خلالها لماذا غابت مصر عن تاريخه وثقافته ، ولماذا لم يكن له فيها كثيرون من المعجبين والتلاميذ .
ولكنها ليست الإحتمال الأخير . .