العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثاني عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4947 - 2015 / 10 / 6 - 14:56
المحور: الادب والفن     

في البداية، لم نصدق الخبر. سيغلقون مصنع الأحاسيس! كم هذا مرعب! إغلاق مصنع تم تجديده منذ عهد قريب! شيء متعذر تصوره! لم تُقرأ على الوجوه سوى الدهشة. هل يتخيلون الكارثة؟ ورشات جديدة منذورة بأكملها للدمار، آلات فائقة الحداثة متروكة للخردوات! ونحن الآخرون عمال الشهوة، بعد عمال المتعة، ماذا سيكون مصيرنا؟ مصير المُعْوِزين حقًا، المُلْقَيين في عُرض الطريق بل وأكثر، ربما كانت النهاية لنا جميعًا؟
اتُخذ القرار المحير في اجتماع مدراء التروست الملتحِق به مصنعنا: إنها القصة ذاتها، يفضلون إقامة مصنع على أرض أكثر خصوبة وأكثر مردودية، في إسبانيا. كل شيء إذن مرتبط بالربح. إن ربحوا قليلاً، ذهبوا هناك حيث يستطيعون أن يربحوا أكثر: يد عاملة رخيصة، مواد أولية أقل غلاء، وإلى الجحيم الآلات الفائقة الحداثة وملايين الفرنكات التي استُثمرت! السبب الذي يتذرع به رب العمل والإدارة باستمرار، إلقاء المسئولية على عاتق منتجات الشرق الأقصى، فهذه المنتجات الرخيصة هي التي وضعت ليس فقط مصنعنا في مأزِق، ولكن كل مصانع النسيج الفرنسية! بينما الحقيقة هي غير ذلك طبعًا، عندما نعلم أن 75 بالمائة من الأنسجة المستوردة تأتي من السوق المشتركة، من ألمانيا الاتحادية خصوصًا. وما يختفي وراء كل هذا، المشروع العقاري الجبار: هدم كل شيء، قناة سان-مارتن أول الأشياء، لبناء ناطحات سحاب، شقق بسعر الذهب.
ما العمل؟
هناك اقتراحات ثلاثة: الأول، تكليف النقابات بإجراء مفاوضات مع الإدارة لإلغاء قرار التصفية ومواصلة الإنتاج. الثاني، احتلال المصنع في الوقت الذي تكون فيه المفاوضات. الثالث، إجراء مفاوضات، ثم، في حالة الفشل، احتلال المصنع. أقر معظم عمال الشهوة هذا الاقتراح الأخير.
لاحظتُ أن المارتينيكي يشارك بحماس في حِراك الأصحاب، ولم يكفّ عن ترداد "وبييرو هذا، وبييرو ذاك...". نَصَحَنا بيير أن نبقى متحدين ويقظين في وجه أزلام رب العمل، وإلا فقدنا كل شيء. لوّح "بالحُلم" قائلاً:
- نحن نرفض أن يستغلونا كل الوقت، وأن يرمونا، كلما خطر ببالهم، على البلاط. البِطالة شيء مفزع! نحن وُلِدْنا لنعمل لا لنبحث عن عمل، كل الوقت، لننعم بعملنا لا لنشقى. أنتم ترون جيدًا ما نعانيه يوميًا لإقصاء شبح الجوع عنا! حالة ستيفان لن تتكرر، جعلوه مجنونًا بعد أن سلبوه قواه. أما نحن، فسنتحداهم. سنعمل كل ما في وسعنا لمواجهة تقززهم، في سبيل تحرير الأحاسيس، واسترداد حقوقنا في الشهوة، في الحب، في الإغراء، في المتعة.

* * *

عند عودتي إلى البيت، حكيت لمارتا ما جرى في المصنع، فبدت ناقمة، ورجتني أن أكون يقظًا مع عمال الشهوة الآخرين. حكت لي، بدورها، ما جرى مع أم ماري. برفقة إيزابيل، ذهبت إلى قصر صاحب المصنع، في سان-جيرمان-أُن-ليه. كان قصرًا حقيقيًا قائمًا في وسط حديقة تبدو جنة حقيقية! انتظرت إيزابيل في الخارج راجية أم ماري ألا تتكلم عنها، وإلا طردوها من العمل.
دخلت الأم القصر مبهورة، مذعورة من كل ذاك الغنى. استقبلها خادم دون اهتمام، وتركها تنتظر في زاوية لم تكن أكثر ثراء مما يوجد في القصر من أشياء. مع ذلك، كان المقعد وثيرًا جدًا إلى حد لم تشعر فيه بالراحة. ثم، نهضت، نصف مشلولة، نصف مذعورة، وهي ترى ماري تنزل كأميرة في ثوبها الحريري الطويل، وتتباهى بِعِقد من اللآلئ البراقة، وحذاء مذهب يغرق كعبه في وبر السجادة الفارسية المغطية للدرج الفخم، المزوَّق بتمثال جدير بمتحف. تساءلت إذا ما كانت حقًا ابنتها ماري أم أخرى تكتشفها الآن فقط. ترددت قليلاً قبل أن تضمها ثم، تقدمت، وذرفت الدموع بغزارة على صدرها، بينما بقيت ماري جامدة كالتمثال، منتظرة بصبر أن تريق أمها عواطفها. بسبب هذا البرود، تشبثت الأم أكثر بابنتها، لترى أن كل هذا حقيقي، وإذا ما أنكرت ماري عليها حق أمومتها. تأكدت من ذلك عندما تخلصت ماري منها بدفعة من أطراف أصابعها، وابتعدت تحت ثريا تضيء في وضح النهار. في البداية، شُلَّت الأم ثم، انفجرت منتحبة بِحَنَق. مضت عدة لحظات، والدموع تُعتم النور في عينيها. أحست أن شيئًا ما قد وقع، فقطعت بكاءها، ومسحت عينيها لترى، لكنها لم تر ماري، التي أخذت الدرج الفخم من جديد، صاعدةً إلى أعاليه.
والأم تقطع الممر الطويل الموصل إلى الحديقة، مرت أمامها سيارة سوداء براقة كما لم تر أبدًا من قبل. كانت ماري تجلس في المقعد الخلفي، فاقدة الحس كالمُشايع لِمِلَّة أو طائفة، ولم تلاحظ، لم تشأ ملاحظة أن السيارة لطخت أمها بالوحل.
جذبت مارتا نَفَسًا طويلاً.
- كانت ماري تحب أباها أكثر من أي كائن آخر في الوجود، قالت.
- تحب أمها.
- تحب أباها، أباها.
- كانت تحب أباها.
- كانت تحب أباها، بنت من نوع "بابا، بابا..."، هل تدرك ما أقول؟
- بنت من نوع...
- أريد هذا، أريد ذاك، يا...
- ...بابا، بابا.
- ...بابا.
- يا بابا.
- ثم مات البابا الذي لماري بسكتة قلبية.
- مات بسكتة قلبية؟
- وبددت الماما الثروة التي تركها، فصنعت من أندريه السوقي الذي نعرفه، ومن ماري إلكترا التي لم نعرفها.
- إلكترا؟
- لقد كذبت عليك، يا سالم.
- ماذا؟ لقد كذبتِ عليّ!
- أنا ابنة قديمة لمسرح، نجمة ملعونة كنت، دمرتها الأضواء، تمامًا كأم ماري على طريقتها. نحن ملاعين الأرض، مثلكم، لا فرق بيننا، الظروف أقوى منا، أقوى من القوة نفسها، حتى وإن كانت قوة للآلهة! بابا، بابا... وبابا يلبي كل الطلبات. هل تفهم ما يعني ارتكاب محارم النقود؟ أنت تفهم ما يعني ارتكاب المحارم، ربما كانت هذه حال ماري مع أبيها، رمزًا على الأقل، لكن ارتكاب محارم النقود شيء آخر، إنه المضاجعة، مضاجعة المال للمال، إلى درجة لا يعود فيها هناك فقير أو غني، أسود أو أبيض، حُر أو عبد! بابا، بابا...
وانفجرت مارتا باكية.
- لم يكن لي أب أنا، قالت، ولو كان لي أب لكرهته أكثر من أي كائن آخر في الوجود!


يتبع القسم الأول الفصل الثالث عشر