العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الحادي عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4946 - 2015 / 10 / 5 - 21:04
المحور: الادب والفن     

أعلمنا عادل أنه أوقف كتابه عن الطبقة العاملة ليكتب قصة اختفاء ماري، ويضفي عليها قليلاً من الفلسفة، وهكذا سيكتب رائعة من الروائع. أعلمنا أيضًا أننا كنا كلنا، في كتابه السابق، الأبطال الرئيسيين، وفي كتابه الجديد، ستكون ماري البطلة. إذن سيحقق قفزته الديالكتيكية، من الأبطال العديدين إلى البطل الواحد، الذي يبلور فيه وحده كل مشاكل الطبقة العاملة، ويصبح الناطق بلسانها. ثم، ناح لعدم معرفته ماري قبل أن تختفي، ليكون بمقدوره إقامة تحليل بسيكولوجي مفصل لشخصيتها الفذة. في رأيه، اختفت ماري لسببين: الأول، لأنها مغتربة بمحيطها، الثاني، لأنها تريد تحطيم أداة الاغتراب، مما يتطلب فعلاً ثوريًا تمهيديًا: الاختفاء المفاجئ. هنا، ستشعر بحرية مطلقة بالنسبة إلى النير العائلي، لتحقق في الأخير الفعل الثوري الجوهري: تحطيم أداة الاغتراب، المتمثلة بالسلطة. عَبْرَها، إنه انتصار الجماهير المسحوقة. أما اختفاؤها المفاجئ، فسيشكل قفزة تاريخية نوعية، لأن على القفزة أن تكون مفاجِئة، وهذا ما حصل مع ماري. ستطول الخطوة الثانية، بسبب أهمية المهمة. لهذا السبب لن تعود قريبًا، على عكس توقعاتنا، إلا أنها ستعود إلزاميًا.
بقي حسين فاغر الفم، فهو لم يفهم شيئًا. التفت إليّ، وسألني:
- هل فهمت شيئًا؟
- لا شيء إطلاقًا.
نرفز عادل:
- هذا لأنكم جهلة!
ثم أرغى وأزبد:
- جهلة، هل تسمعون؟ جهلة!
قدم حسين له كأسًا:
- أنت لن تغضب إن قلت لك شيئًا؟
- قل.
- أنت لن تغضب؟
- لا.
- أنت متأكد من أنك لن تغضب؟
- قلت لك لا، صاح غاضبًا.
- أفكر في عضوي ليل نهار، لم أضاجع منذ تسعين يومًا، لو كان حسابي صحيحًا!
قهقهتُ، كذلك جان، الذي راح يصفق فجأة. أضاف حسين جافًا كقطعة الحطب:
- المرة الأخيرة، كانت عاهرة اصطادتني في بيغال. يا مومس غائط العيشة! انجدني، بالله عليك! هل يتكلمون عن هذا في الفلسفة؟ عضوي يؤلمني، فهو منتصب طوال الليل: وتد مغروس في صحراء. يجب أن أجد حلاً، وبسرعة. أنا واثق من أن لديك حلاً. حل فلسفي قاطع، قفزة تاريخية حاسمة، كما ينبغي. ماري خراء أسود للجميع!
خررنا من الضحك، حتى عادل الذي احمر في البداية، انفجر ضاحكًا. حسين وحده الذي بقي جادًا، ودفعة واحدة، غدا تعيسًا. لم نهضم رد فعله. مضت لحظات مثقلة بالصمت. نظرتُ إليه: كان يجتر إخفاقه التام. ما لبث أن راح يشرب كالمجنون، وينزل ما بيننا، بالتدريج. وبشراسة أدهشتنا كلنا، انفجر ضاحكًا، كالمعتوه. وزع الكؤوس بصخب، حاثًا إيانا على الشرب، لأن الحياة ما هي سوى سيجارة وكاس و، إن لم ننكحها نكحتنا! طز في الهموم، طز في السماء، طز في العالم! طز، طز، طز! المهم أن نشرب، وأن ندخن، وأن نضحك، يا خراء! وشرب، ودخن، وضحك. فتح الراديو، وراح يدبك على لحن أوروبي، ثم نفخ في الرماد: كانت هناك حديقة اسمها الأرض!
لم نسمع الطرقات على الباب، مما اضطر عصام للدق على النافذة، ففتح له جان. كانت الأصباغ ترشقه كلوحة تجريدية، جذبه حسين من كتفه، وسأله سبب كل هذه القذارة. أخذا يدبكان، وعصام يكشف لنا أنه منذ اليوم يعمل كدهان، وأنه سيكسب خبزه بشرف ككل العاهرات. ترامى على السرير لاهثًا، وطلب كأسًا، وحسين يواصل الزعيق والقفز، ثم سقط على الأرض منهكًا.
سألني عصام ما هي آخر أخبار ماري، فجعلته يقف على الوضع في مجمله، وهو لا يكف عن ترداد "يا مومس، يا مومس، يا مومس...". نهض، والكأس بيده، وجلس على كرسي خَرِب. كان سعيدًا من عمله، لكنه لم يعتد بعد رائحة الدهان النافذة. سأله جان كيف وجد العمل.
- ذاك المهندس الغائط من وجده لي قبل مغادرته إلى تولوز، أجاب. إنه شغل جيد، لكنه مرهق. لم أُرِدِ السفر معه. مهنة الرسام معقدة بعض الشيء لي، ثم، أحب هذه المدينة المومس، أحب باريس أكثر من القدس! أنا طفران، لكني جيد في مدينة النور والبؤس المومس هذه!
- أنت محظوظ، أكد جان. حظ مومس! ضربة بوكر لا تتكرر مرتين في مرحلة البطالة هذه. كما تعرفون كلكم، أنا ميكانيكي. عندما أمروني بالتوقف عن العمل في مارسيليا، وجدته في باريس! ليس لأني أفضل باريس، مارسيليا لي أجمل مدينة في العالم! لكن اسألوا العمل في صدفته وفي كيفيته! ومتى وجدته، هذا العمل المومس، في رأيكم؟ بعد انتظار وعذاب خلال شهور، مما اضطرني إلى الانفصال عن أمي فوق ذلك، أنا الابن الأوحد. لأمي أيضًا قصتها: كانت تعمل في أحد مصانع الألبان وفجأة، قررت الإدارة بيع المصنع لشركة تجارية ألمانية قررت بدورها إقفال المصنع لتحتفظ باحتكار منتجاتها التي تصدرها. النتيجة: وجدت نفسها مع عمال الحليب الآخرين على الحصيرة! وعندما قرر مفتش العمل رفض التسريح، ألغى الوزير قراره بمرسوم يعتبر احتلال المصنع من طرف العمال غير شرعي، بينما هؤلاء لا يرمون إلى شيء آخر غير الدفاع عن حقهم في العمل.
نهض عصام من جديد، واتجه نحو مرآة مشروخة معلقة على الحائط. سألته إن كان صديقه المهندس مهندسًا بالفعل.
- ماذا تريده أن يكون، يا مومس؟ أجاب، وهو يحك ذقنه، قَوَّادًا؟
- ليس هذا قصدي.
دون أن يبقى لحظة واحدة في مكان، أتاني.
- لكنه بخيل إلى حد الموت! عمل.
- هل صحيح أنه يربح أحد عشر ألف فرنك في الشهر؟
- ربما أكثر، لكنه لا يقول. إنه مليونير! هذا صحيح، لكنه بخيل إلى حد الموت!
لاحظ جان:
- مع ذلك ودود جدًا صديقك المهندس!
- كيف عرفت؟
- ألم تعرفني عليه؟
توجه عصام بالكلام إلينا:
- انظروا إلى مغفل الغائط هذا الذي يدعي أن صديقي البخيل ودود بينما لم يُمض معه أكثر من خمس دقائق.
حاول جان الدفاع عن نفسه:
- أولاً، بقيت معه أكثر من خمس دقائق، وتحدثنا في أشياء كثيرة. ثانيًا، إنه انطباعي، وأنا لم أزل أجده لطيفًا. مهندس مثله يتفضل بالعيش معنا!
- مثلي واعجباه! تدخل عادل دون أن يعيره أحد الانتباه.
هز عصام رأسه عدة مرات، قال يا مووووووومس... حالمًا:
- لو كنت أكسب مثله، لخرجت من هذا العفن حالاً بلا تأخير.
- أي عفن؟ سارع عادل إلى السؤال.
- أنتم.
مخيبًا، استدرك عادل قوله:
- أنا، عفن؟! الله يسامحك!
- ليس أنت، لكن أنتم، أنتم... ردد، وهو يحرك إصبعه قرب وجوهنا بعصبية.
لاحظت أن جان لا يشرب، سألته سبب ذلك، فأشار بإصبعه إلى حسين:
- لم يقدم لي ما أشرب، فهو لا يحبني، وأنا أجهل لماذا.
كان حسين منهكًا دومًا، وبدا لي أنني أسمعه، وهو يردد: حورية! حورية! كان ينادي بنتًا يحبها، كان يحبها، بينما يقول عصام لجان متهكمًا:
- حسين لا يحبك، لأنه عنصري، أما صديقي البخيل، فليس عنصريًا على الإطلاق، لهذا هو ودود، ودود جدًا، يا المارسيلي الصغير الغائط!
- نعم، هذا ما أعتقده. ولا تدعُني بالمارسيلي الصغير الغائط!
- المارسيلي الصغير الغائط!
- قلت لك ألا تدعوني بالمار...
- المارسيلي الصغير الغائط!
- ...سيلي الصغير الغائط!
- المارسيلي الصغير الغائط!
- وأنت وقدسك؟
- لا تتكلم بالسوء عن "قدسي"، يا المارسيلي الصغير الغائط!
- توقفا أنتما الاثنان، تدخلت.
- هو من بدأ، قذف جان. تكلمت عن حسين الذي لا يحبني، وقال لي إنه عنصري، إن صديقه المهندس لست أدري ماذا، إن...
- لكنه بخيل صديقي المهندس الذي أنت معجب به، عاد عصام إلى القول، بخيل، بخيل إلى حد الموت!
- بخيل يملك مرسيدس، هذا لا يوجد، علق جان.
- المرسيدس لشركته.
- لماذا يكذب علينا مدعيًا أنها سيارته؟
- حتى البنزين مدفوع، يا المارسيلي الصغير الغائط!
نبر جان:
- يا له من قذر!
وعصام: هاهاها...
- قال لي إنها سيارته، وعندما عرف أنني ميكانيكي، قال إنه يريد بيعها بسعر بخس، لأنها تستهلك كثيرًا، ويا حبذا لو أبعث إليه مشتريًا. أجبت إذا انتظر شهرين اثنين، دفعت له الجزء عدًا ونقدًا، والباقي على عدة دفعات. كان موافقًا تمامًا.
ضج عصام بالضحك أكثر: هاهاها...
- وهل تعرف لماذا تفضل هذا المهندس الغائط بإمضاء بعض الوقت معنا؟ لأن شركته التولوزية تريد أن تشتري الرَّدْب من مدام ريمون. نعم إنها حرب مومس بين المتعهدين في كل البلد! مع عمولة عشرة بالمائة، يا مومس المومس! عشرة بالمائة! صفقتان أو ثلاث هكذا، وعندك الملايين، يا مومس المومس! الملايين! لكن مدام ريمون رفضت البيع. ماذا تظن إذن؟ سأل بوقار. هل تجده ودودًا دومًا، مهندسك الغائط، يا المارسيلي الصغير الغائط؟
- بدا لي ودودًا.
فجأة، قال عصام بلهجة استهزائية وقاسية في آن:
- إذن أنت محشو بالنقود، أيها الميكانيكي القذر!
- محشو بماذا؟
- محشو بالن...
- محشو بالنقود!
- ...نقود. نعم، محشو بالنقود.
- أنا، محشو بالنقود!
- تريد أن تشتري سيارة، وفوق هذا مرسيدس، يا مومس المومس! هل ترون هذا الجرذ؟ لديه ما يمكنه شراء "مرسيدس"، ودفع كمية البنزين "الضخمة" التي "تبلعها" هذه "المرسيدس"!
ابتسم جان برضاء:
- قلت لنفسي لا لزوم لاستعمالها، يكفي تركها جنب الرصيف. لكن عندما يكون لي كراجي، عندما أصير معلمًا، عندما أصبح غنيًا...
كان يضحك بهدوء مما يقول، ثم بصخب، فانفجرنا كلنا ضاحكين، ما عدا حسين. سألته عما به، بينما يتسلى الآخرون. أخذ نفسًا عميقًا، وهمس: حورية، حورية... قال، بصوت أليم، إنه حزين وتعيس، وإنه يتمنى قتل أحدهم ليرتاح من هذه الحياة المومس. ثم دندن: كانت هناك حديقة اسمها الأرض!
رغبت رغبة جامحة في معرفة سر الفتاة التي يدعوها حورية.

* * *

أطل أنطونيو من النافذة، فخفَفْتُ إلى فتح الباب له. طلب مني أن أغلق الباب، وأن أتبعه حالاً، لأن إيزابيل اعترفت ببعض الأشياء.
- اعترفت؟ قلت مذهولاً.
- نعم.
تبعته بصمت.
وأنا أصعد الدرج، كانت السماء فوقي ليلكية ومرصعة بالنجوم، تمامًا كسماء الصيف في الأرض المحتلة، ما عدا هنا، كان البرد شديدًا.
بكت إيزابيل، وابتهلت إلينا أن نغفر لها، فهي كذبت علينا! هجرت الأم استسلامها، ونظرت إلى الفتاة بهيئة قلقة. أعادت إيزابيل ما قالته:
- هربت ماري مع صاحب المصنع لتتزوج به، هي الآن في قصره، وأنا أجهل مكانه.
ظننتُ أنني سمعتُ بالغلط:
- صاحب المصنع أم ابنه؟
- المعلم.
- ابن المعلم.
- المعلم، المعلم.
- ظننت أنكِ كنتِ قد كلمتني عن ابن المعلم، حاليًا في لندن.
- كانت تعرف الابن لكنها ذهبت مع الأب.
سبّتها الأم ناعتة إياها بالكاذبة، حتى أنها اتهمتها بتشجيع ابنتها على هذه القذارات، فتدخلت مارتا قائلة على العكس من اللازم شكرها على اعترافها، وقد احتاجها هذا الاعتراف إلى كثير من الشجاعة، لأن إيزابيل كانت تجهل خطورة الفعل. الآن، وقد فهمت، هي على استعداد لعوننا بكل كيانها.
قالت إيزابيل راجفة:
- كانت تُعِد لزواجها في الغد من ذهابها، وكنت على اقتناع من أنها ستجد سعادتها.
انفجرت باكية، فتابع أنطونيو القول:
- اهدأي! الحمد لله أن أحدًا لم يمسها بسوء.
كنتُ مذهولاً، أفكر في ماري، وأزداد ذهولاً. كيف استطاعت هذه اللؤلؤة أن تفعل كل هذا؟ كان ذلك كمن يطعنني أحدهم. أعادت مارتا:
- نعم، الحمد لله أن أحدًا لم يمسها بسوء.
سألت الأم مضطربة:
- لماذا هربت إذن، وسممت حياتنا؟ إذا كانت تُعِد لزواجها، لماذا لم تقل؟ هل كنت سأمانع؟
ترددت إيزابيل، ثم قالت:
- كانت خائفة.
- لماذا؟
- لأنه كبير السن.
ترددت الأم بدورها:
- ليس هذا سببًا كافيًا إن رغبت في هذا الزواج.
تساءلتُ إذا ما كانت ترغب فيه فعلاً؟ فجأة، أضافت إيزابيل:
- ولأنها حبلى.
- حبلى؟
اهتزت شفتا الأم ثم انشلت تمامًا.
- هل قلتِ حبلى؟
- نعم.
- الأم لا تستأهل كل هذا العذاب!
- أنا آسفة.
تدخلتُ:
- اهدأي.
أكدت مارتا:
- نعم، اهدأي! الآن نحن نعرف كل شيء. شكرًا لله! ليست ميتة، ولم تعمل أي حادث. ماري خجولة بطبيعتها، لهذا السبب أخفت عنكِ كل هذا. إذن، لا سوء في الأمر طالما أن الرجل سيتزوج منها. سيتزوج منها، أليس كذلك؟ ربما تزوج منها. لم يبق لنا سوى أن نتصل به أو بها، أو بالاثنين. نعم، علينا أن نتصل بهما. لا داعي لقول أي شيء للشرطة، بما أنها، حسب عرفهم، هي بالغ، ذهبت مع رجل بالغ، واختارت بإرادتها طريقها.
ركعت الأم، وابتهلت إلى المسيح. شعرتُ بصداع عنيف، واجتاح الدوار عقلي، فأردت الخروج:
- سأعود، قلت.
غير أني لم أعد.
في صباح اليوم التالي، بينما أنا أستعد للذهاب إلى العمل، قالت لي مارتا إن إيزابيل تعرف عنوان صاحب مصنع الشوكولاطة، وإنها ستذهب اليوم، بصحبة الأم، لإحضار ماري.


يتبع القسم الأول الفصل الثاني عشر