العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل التاسع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4944 - 2015 / 10 / 3 - 21:29
المحور: الادب والفن     

وجدت الأم حقيبة ماري في جوف الخزانة، كانت تخلو من أوراقها: جواز السفر وبطاقة الهوية. أحست بصدمة كبيرة، وبذلت جهدًا لتتذكر: استيقظت على صوت خطوات ماري، وظنت أن الساعة كانت الثامنة، ساعة ذهابها إلى العمل. قالت لها ماري إن الساعة لم تكن سوى السادسة، إنها لم تكن تقدر على النوم، وإنها ستسقي أصص الزهور في الخارج. عندئذ عادت إلى النوم، ثم، ساعة فيما بعد، نهضت الأم، ولم تكن ماري هناك. حَضَّرت الأم المسكينة ابنها للذهاب إلى المدرسة، أعدت الفطور، رتبت البيت، ناسية ابنتها تمامًا. فكرت أن ابنتها غادرت للعمل ساعة قبل وقت مغادرتها كل يوم، حتى اللحظة التي اكتشفت فيها الحقيبة. والآن، هل يعني هذا أن ماري بارحت البيت على الساعة السادسة؟ ولماذا الساعة السادسة تحديدًا؟ هل من أجل سفر في قطار أم في طائرة؟ أن تترك الحقيبة يعني أنها لم تكن تريد إيقاظ الشكوك لدى أمها، لكن جواز السفر يعني أشياء كثيرة، من بينها السفر إلى الخارج، فهل هربت؟ و... لماذا؟
ونحن نبحث في الحقيبة، وجدنا ورقة صغيرة كتب عليها اسم واحدة إيزابيل، ورقم هاتف. لم تكن الأم تعرف هذه البنت. في الواقع، كانت لماري صديقة طفولة واحدة، بريجيت، تعيش اليوم في بوردو.
- هل تفكرين أنها في بوردو؟ سألتها.
- أنا لا أفكر.
- ربما ذهبت عند بريجيت، في بوردو.
فوضت المرأة أمرها إلى المسيح، واستشاطت:
- لماذا ستذهب عند بريجيت، في بوردو؟
- قلت "ربما" ذهبت إلى بوردو، عند صديقة طفولتها، بريجيت.
- لماذا، أيها الشيطان، ستذهب إلى بوردو؟ ولماذا كل هذه الألغاز؟ كل هذه التكتمات؟ لم تخبئ عني شيئًا أبدًا! لماذا تريدها أن تهرب مني لتذهب إلى بوردو؟ ماذا فعلت لها؟
- لا تثيري أعصابك! أنا أبحث عن تفسير، فقلت لنفسي ربما ذهبت إلى بوردو.
- لا، لم تذهب إلى بوردو.
- أنا أبحث فقط عن تفسير، فقلت لنفسي ربما ذهبت إلى ب...
- لا، لم تذهب إلى بوردو.
- ...وردو، عند صديقة طفول...
- أنا أمها، وأنا أعرف أنها لم تذهب إلى بوردو.
- ...لتها، بريجيت.
- لا، أقول لك.
- كما تريدين.
- لم تذهب إلى بوردو.
- طيب، طيب، لا تثيري أعصابك، لم تذهب إلى بوردو، لكن قلت لنفسي...
- لممممم تذذذذذهب إلىىىىى بوووووردووووو.
- طيب، طيب، لم تذهب إلى بوردو.
بعد بضع لحظات تفكير، عدت إلى القول:
- إذن، لم تذهب إلى بوردو.
- لا، لم تذهب إلى بوردو.
- لم تذهب إلى بوردو.
- لا.
رجعنا، أنا وأنطونيو، إلى مركز الشرطة، دون أن نجد مسئولي الليل. لم تذكر سجلاتهم دائمًا أي حادث ذهبت ضحيته واحدة اسمها ماري. قالوا لنا على الأم أن تجيء عند مفوض الشرطة لتحرر محضرًا رسميًا، ولتنقل القصة بحذافيرها. لم يكن أحد هناك في قفص الاعتقال، وكانت بقع دم سوداء تلطخ الجدران.
خاطب أنطونيو الأم، بفرنسية برتغالية النبرة:
- يجب قول كل شيء في المحضر.
- انتظر، قلت له، سنتلفن أولاً لإيزابيل.
- نتلفن لمن؟
التقطت قطعة الورق:
- إيزابيل.
- فكرة جيدة!
- هل تظن أن الشرطة ستهتم بحالنا؟ سنقوم بالبحث على طريقتنا.
- سنخطر الشرطة في الوقت نفسه، ماذا تقول؟
- ماذا أقول؟ لنتصل أولاً بإيزابيل.
- وهب أن الاسم ما هو سوى حيلة أو الرقم أو كليهما؟
- لا شك أن أحدهما حقيقي، وإلا لِمَ هذه الورقة في الحقيبة؟ لنتلفن.
تلفنت من مقهى مطلع الفجر، والرائحة العطنة للمراحيض تخنقني. كان الرقم موجودًا، كإيزابيل، التي، مع الأسف، كانت غائبة. أجاب صوت امرأة طاعنة في السن أنها تعمل، وأن باستطاعتي الحديث معها على الهاتف، على هذا الرقم. سألتها إن كانت تعرف صديقة لإيزابيل باسم ماري، فأجابت إن لإيزابيل صديقات عديدات، ربما توجد بينهن هذه الماري.
هاتفت إيزابيل في العمل، لم تر ماري منذ اختفائها. كانتا تعملان معًا في مصنع الشوكولاطة، ومن العادة أن تلتقيا كل يوم. سألتني إذا ما أصابها مكروه، وطبعًا نفيت، رافضًا إعطاء تفاصيل أخرى، وحددت معها موعدًا ساعة الغداء، لأبلغها أشياء مهمة بخصوص ماري.
أدارت رأسي الرائحة العطنة للبول، لكني بقيت، واتصلت برئيس قسمي، للاعتذار عن غيابي. أجابني أنه سيخصم يومًا من راتبي إن لم أُحضر ورقة تبريرية و، في حالة ما تغيبت أكثر، عَرَّضت نفسي للطرد. تركتُ صوته الشيطاني يرعد، وأنطونيو يسمع قرب الهاتف، وهو يهز رأسه، ويتظاهر بالهزء. صارت رائحة البول غير محتملة، فأقفلت، وصعدنا.
- ما العمل؟ سأل أنطونيو.
- ستذهب لتخبر الأم، قلت، وسآخذ المترو لأرى إيزابيل.
- لماذا لا نذهب معًا؟ لدي دراجة نارية.
- لديك دراجة نارية، أعرف.
- ربما كنتُ ودراجتي النارية لك عونًا نفيسًا.
- أنت لا تعمل اليوم؟
- بلى، لكن طز في العمل! أنا مرصص، كما تعلم، ومعلمي ليس صارمًا. إذا ما لم أعمل مرة في الشهر، لا بأس في ذلك، بشرط أن أقدم له قدح "كالفا" مزدوج. ثم، كل شيء يتوقف على عدد المرات التي يرن فيها الهاتف: آلو! عند مرحاضي إسهال. آلو! الأنابيب تضرط طوال الليل. آلو! المجاري تسعل وأجهل لماذا. ثلاجتي ترقص الرومبا. غسالتي تغني أغاني ثورية. سخاني يبكي من شدة البرد. إلى آخره، إلى آخره. لكن قليلاً ما يرن الهاتف هذه الأيام، لماذا؟ لأن الناس يفضلون البقاء في الغائط، والأحوال، كما ترى، لم تكن أسوأ مما هي عليه. إذن اتفقنا؟ سنأخذ دراجتي النارية؟
- سنأخذ دراجتك النارية، لكن علينا أولاً إعلام أم ماري.
- سأذهب لإعلامها وإحضار الدراجة.
- هل آتي معك؟
- لا، انتظرني هنا.
- سآخذ قهوة وأنتظرك.


يتبع القسم الأول الفصل العاشر