عن الفلسفة والدين والاقتصاد

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 4942 - 2015 / 10 / 1 - 22:08
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أجمل ما في علم الفلسفة هو احتوائه على تاريخ شامل للأفكار وتطورها والصراع الدائم بينها.
الفلسفة بفروعها الثلاثة، الميتافيزيقا "الماورائيات" والإبستمولوجيا "أصول المعرفة" والأخلاق، علم ديناميكي في حالة بحث دائم عن أصلنا ومعنى وجودنا وعن أي عيوب في النظريات الفكرية القائمة بغرض إفشالها وتقديم نظريات جديدة أكثر دقة وهكذا تتطور وتتقدم كل العلوم الطبيعية والإنسانية ومن أهمها علم الاقتصاد السياسي الذي يشهد تغيرات سريعة في نظرياته ومنهجيات بحثه بشكل دائم. فبعد أن كان يعتمد في إثبات نظرياته على الأبحاث النظرية والاستنتاجات المنطقية تطور على يد الفلاسفة الرياضيين إلى علم يثبت نظرياته ونتائجه من خلال أدوات ونماذج رياضيه متقدمة والان وفي عصر المعلومات الكبيرة أو ما يسمى بال Big Data”" أصبح الاقتصاد علم سلوكي يثبت نظرياته اعتمادا على تحليل البيانات والإحصاءات التي ترصد السلوك الإنساني الفعلي عبر فترات زمنية طويلة.

وعكس كل ما سبق فإن العلوم الدينية لم تراوح مكانها ولازالت تتسم بالثبات والجمود مناقضة لأبسط مبادئ الكون والحياة وهو الحركة والتغير المستمر.

وليسامحني القارئ لتحيزي الدائم لعلم الاقتصاد السياسي باعتبار أن الوضع الاقتصادي لأي مجتمع بشري يفرض بالضرورة نمطا حضاريا معينا. وفي هذا يكفيني أن تقول لي أن مجتمعا ما متخلف اقتصاديا، عندها سوف أقول لك بدرجة ثقة تصل إلى 90% أن هذا المجتمع متخلف أيضا حضاريا وعلميا وثقافيا وفنيا ورياضيا وأخلاقيا ....الخ
فكيف لإنسان جائع أو متشرد أو غير مستقر أن يبدع في أي شيء؟
وبالمثل لا يمكن لهذا الانسان في أغلب الأحوال ان يكون أخلاقيا، فالإنسان المحروم أو غير المكتفي اقتصاديا يمكن استغلاله أو شراءه بسهولة فيتحول إلى مجرم أو منافق او محتال. وبالطبع فإن هنالك أغنياء يحملون هذه الصفات ولكن ستجد في الغالب أنهم ذوي أصول بائسة أو غير عريقة.

ومعضلة الأديان هنا أنها لم تهتم بالبعد الاقتصادي في حياة الانسان كما ينبغي وتأثير ذلك على نمط سلوكه وردود أفعاله. وبدلا من ذلك تركز كل الأديان على المظاهر الطقوسية. وأليتها في حل مشاكل ومعاناة الانسان هي تقديم المواعظ والخطب العصماء.

وفي الإسلام يقال إن فريضة الزكاة قصد منها تحقيق العدالة الاجتماعية ومعالجة مشكلة الفقر بين المسلمين وهذا كلام غير علمي وغير واقعي لان نسبة الزكاة وهي 2.5% فقط نسبة ضئيلة لم تفلح في تحقيق حد الكفاف في أي مجتمع إسلامي والدليل على هذا أن الدول الإسلامية من أفقر دول العالم وبالإضافة إلى هذا فإن فجوة الدخل فيها بين الأغنياء والفقراء أكبر بكثير من مثيلتها في باقي دول العالم التي تعاني أيضا من نفس المشكلة وقد سبق أن كتبنا بحثا
في هذا الموضوع على هذا الموقع يوضح كيفية التخفيف من حدتها من خلال أدوات السياسة المالية.

ويظل السؤال الحائر وهو أنه إذا كانت الالهة في كل الأديان تنشد سعادة البشرية حقيقة فلماذا لم تهتم بوضع تشريعات دينية اقتصادية ملزمة للأغنياء بمساعدة الفقراء بطرق فعالة وبشكل كريم بدلا من نظام الشحاتة والتسول بل والاقرار بنظام العبودية للفقراء والاكتفاء بضريبة مخففة للزكاة وبعض الحسنات التي يكافئ عليها الغني بعشرة أمثالها؟

والحقيقة أن القضية أعقد من هذا بكثير حيث يقوم علم الاقتصاد على عدة افتراضات أساسية مستنبطة من السلوك الفطري للإنسان وأولها أنه مخلوق جشع ولا توجد حدود لرغباته وكلما أعطيته طلب المزيد ولذلك فإن معضلة علم الاقتصاد الأساسية هي كيفية إشباع هذه الرغبات الجامحة في ظل وجود موارد محدودة وشبه ثابتة. والمفارقة هنا أنه بالرغم من ان الله خلق الانسان بغريزة الطمع والشهوة هذه كما ذكر في كل الاديان فإنه يطلب منه أن يسلك على نحو مغاير وأن يكون قنوعا ويرضى بالقليل! وهو تناقض اقتصادي واضح في الأديان أدى إلى فشل كل الأنظمة السياسية التي قامت على أساس ديني بسبب أن غريزة الطمع كانت أقوى دائما من كل المواعظ الدينية.

وعندما نتابع تطور مسيرة الفكر الإنساني نجد أنه بالإضافة إلى ما سبق فإن الأديان زادت الامر سؤا عندما حولت الانسان من فاعل إلى مفعول به محرم عليه إعمال عقله والتفكير بحرية حيث يقوم رجل الدين بالقيام بهذه المهمة نيابة عنه باعتبار أنه الوحيد المطلع على نوايا الإله ويفهم مقاصده ويستطيع أن يحل الغاز ولوغاريتمات الدين. وكلما زاد خضوع هذا الشيء " الانسان" لرجل الدين وأمعن في نفيه لعقله، كلما ارتفعت درجته في الجنة.

وأصبح رجل الدين يتعقبنا بنصائحه في كل مكان حتى في غرفة النوم والحمام. كما أن لديه حلول لكل المشاكل بما فيها معضلة المعاناة الاقتصادية للفقير، فما علي هذا المنكوب سوى الصبر وقوة الاحتمال في هذه الحياة الدنيا مقابل عطاء سخي في الاخرة "مبدأ التضحية بالاستهلاك الحالي من أجل منفعة أكبر ولكنها آجلة، وهو المبدأ الاقتصادي الوحيد الذي يقر به الدين ولكنه يستخدم لخداع الفقراء واستغلالهم اقتصاديا بشعارات دينية لا تطبق إلا على الفقراء.

وهكذا يتضح أن إفلاس الأديان اقتصاديا وعجزها عن تهذيب غريزة الطمع لدى الانسان بشكل عام والاغنياء بشكل خاص كانت نتيجته زيادة فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء بشكل مضطرد خاصة في ظل غياب برامج تنمية اقتصادية وبشرية فاعلة في الدول المتخلفة التي يستفحل فيها الفساد متجاوزا كل حدود الحياء والحذر وهو ما يسهم بشكل كبير في حالة عدم الاستقرار والإحباط والتطرف السائدة اليوم في معظم هذه الدول التي تؤمن شعوبها بأن الدين يمكن أن يغير حياتها إلى الأفضل إذا ما طبق بشكل صحيح خاصة دول الشرق الأوسط المسلمة الهوية.

ولكن نتيجة الاختلاف الحاد بين المسلمين حول ماهية الإسلام الصحيح وتعدد مذاهبه والتفسيرات والفتاوى المتضاربة فإن دولا عريقة مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا يتم تدميرها الآن وامتهان وتشريد شعوبها بشكل ممنهج تحت رايات مختلفة للإسلام السياسي.

والحاصل الآن على مستوى العالم هو ان غريزة الطمع بلغت قدرا يفوق التصور وفي سبيلها لتدمير كل مقومات الحياة على وجه الأرض حيث تقوم سياسات التنمية الاقتصادية السائدة حاليا سواء في الشرق أو الغرب على تحقيق معدلات نمو مرتفعة بغض النظر عن الاثار المدمرة لهذه السياسات على البيئة وعلى مستوى معيشة الفقراء حيث تركز هذه السياسات على تخفيض أسعار الفائدة وعمليات التيسير النقدي Quantitative Easing” “ وطباعة المزيد من النقود لزيادة السيولة في الأسواق لتحفيز الاقتصاد على النمو بسرعة على المدى القصير عن طريق زيادة الاستهلاك. وهي سياسات تؤدي إلى اتساع فجوة الدخل أكثر وأكثر كما أثبتنا من قبل وذلك لأن من يستفيد من تخفيض سعر الفائدة إلى ما يقارب الصفر هم البنوك والمؤسسات المالية و أصحاب الاعمال. وذلك كله بدلا من التركيز على تقديم إصلاحات مالية ونقدية هيكلية وطويلة الأمد تؤدي إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام ومتوازن يراعى البعد الاجتماعي ويقلص فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء.

وبالإضافة إلى ما سبق فإن فلاسفة علم الاقتصاد يحذرون مما نسميه باقتصاد المضاربات الذي أصبح السمة الغالبة على الاقتصاد الرأسمالي المعاصر الذي تحول فيه دور الأسواق السلعية والمالية من أسواق منتجين ومستهلكين حقيقيين كما نشأت الرأسمالية الأولى إلى أسواق مضاربين ومغامرين يستخدمون عقود الخيارات والمشتقات المالية المركبة للمضاربة على كل أنواع السلع والأصول المالية بغرض تحقيق أرباح سريعة مما أدى إلى تهميش الاقتصاد الإنتاجي وغلبة الاقتصاد الورقي الذي يؤدي من فترة لأخري لتكوين ما يسمى بالفقاعات المالية التي لا تلبث أن تنفجر وتجر العالم إلى نوبات كساد وبطالة.

وأعتقد أن البابا ورجال الكنيسة على علم بمخاطر عمليات المضاربات والمشتقات المالية التي قال عنها ألان جرينسبان رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسبق أنها وصلت إلى درجة من التعقيد يصعب معها إصدار تشريعات منظمة لها، وبالرغم من هذا لم تحاول الكنيسة تحريم هذه الممارسات حماية للناس البسطاء الذين يتحملون وحدهم تبعات كل نوبة من نوبات الكساد والبطالة.

وفي النهاية فإنه بعد فشل الدين في لعب أي دور اقتصادي ذي معنى في حياة الشعوب والأمم فإن الامل معقود على الفكر الفلسفي الذي يسعى حاليا من خلال مجموعة كبيرة من الأكاديميين الاقتصاديين والفلاسفة والمفكرين ذوي التوجه الإنساني إلى خلق نوع من الوعي لدى العامة وتنبيه السياسيين والمشرعين وصناع القرار إلى خطورة ما يحدث في ساحة الاقتصاد العالمي والاستغلال الذي يتعرض له الفقراء.

أنها محاولات جادة ومضنية من أجل إحياء الضمير الإنساني وهذا هو أملنا الأخير في النجاة بعد أن ضيعنا رجال الدين ذوي القدرات الخارقة على التعايش في انسجام وسلام مع كل ما حولهم من ظلم وفساد وخراب دون أدنى تبرم.


محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري