الاصالة والمعاصرة: عنقاء الزمان (1/2)


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 4941 - 2015 / 9 / 30 - 19:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

قضيتنا اليوم تشبه "العنقاء" هذا الطائر الأسطوري الذي ما أن تحرقه النار وتحوله الى رماد حتى تخرج من هذا الرماد عنقاء جديدة في ريعان الشباب. وهي قضية تعددت اسماءها وشغلت عقول مفكرينا التي أذهلتهم "صدمة الحداثة" عندما عاينوا أحوال بلاد الفرنجة وسكانها من الكفار فوجدوا فيها ما يحلمون ان تكون بلدانهم عليه ووجدوا سكانها يتمتعون بمستوى مرتفع من الرفاه المادي والمعنوي (السيد, 2012). وتأتينا كلمات رفاعة رافع الطهطاوي كمثال لما شعر به أوائل من احتكوا بحضارة هذه البلدان فقد جاء في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" انه "في مدة السفر من مصر الى باريس وما رأيناه من الغرائب في الطريق، أو مدة الإقامة في هذه المدينة العامرة بسائر العلوم الحكمية، والفنون والعدل العجيب، والإنصاف الغريب، الذي يحق أن يكون من باب أولى في ديار الإسلام، وبلاد شريعة النبي". لذا لم يكن مستغربا ان تتساءل عقولهم عن سر تقدم مجتمعات هذه البلاد على الرغم ما تعلموه عن فساد عقائدهم! وهكذا أصبح "سؤال النهضة" هو السؤال المحوري الذي كان عليهم محاولة الإجابة عليه "كيف يمكن تحديث مجتمعاتهم وتحقيق مستوي رفاه، مادي ومعنوي، مقبول لأفرادها؟" وبالطبع تعددت الإجابات والاجتهادات التي جمعها عنوان واحد هو عبارة قضية "الاصالة والمعاصرة".
وعلى الرغم من تنوع الإجابات الا انه يمكن تصنيفها في ثلاثة توجهات رئيسية (الجابري, 1990). أول هذه التوجهات هو التوجه "السلفي" الذي يؤمن بأنه "لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا". وهكذا تصبح إعادة انتاج حقبة من الماضي وتطبيقها هي السبيل الوحيد لتحقيق الرفاه، المادي والمعنوي، المناسب لأفراد المجتمع في "عالم الشهادة". وقد تناسى المنتمون لهذا التوجه ان "التطور (او التغير)" هو القانون الحاكم لكل الكيانات، وان مجتمعات القرن الواحد والعشرين أكثر تعقيدا من مجتمعات القرن السابع الميلادي، وأن ما صَلَحَ بِهِ أَوَّلُ الامة لا يصلح بالضرورة لآخرها.

وثانيها هو التوجه "الحداثي" الذي يعتقد أن التراث، بشقيه الفكري (ما قدمه السابقون من علماء وكتاب ومفكرين وسياسيين) والاجتماعي (قواعد السلوك والعادات المجتمعية والأمثال والتقاليد ومنظومة القيم الاجتماعية)، يشكل أكبر عائق لعملية التحديث (التنمية). لذا يصبح التخلي عنه شرطا ضروري ولازم لإنجاح هذه العملية. ومما يعزز هذا التوجه وجود العديد من الشواهد الإمبريقية التي تؤكد على ان نجاح عملية التحديث تتطلب توفر مجموعة من القيم التي لا تجد لها سندا في التراث. إلا أن علوم التعقد تقول لنا ان المسارات التي تتبعها المنظومات اثناء تغيرها تتوقف على احوالها السابقة. او بعبارة اخري تؤثر احداث الماضي (التراث) علي أوضاع الحاضر التي تؤثر بدورها على أوضاع المستقبل. وهو المبدأ الذي يعرف بمبدأ "التاريخانية" Historicity. وهذا يعني ان عدم اخذ التراث الفكري والاجتماعي في الاعتبار عند التخطيط لعملية التحديث هو أمر غير مطلوب.

واخير نصل الى ثالث التوجهات وهو التوجه "الانتقائي" الذي يعتقد أن القديم ليس كله سيئا وان الجديد ليس كله ملائما لذا يتطلب تحقيق الرفاه لأفراد مجتمع ما هو انتقاء أفضل القديم وأفضل الجديد ودمجهم في إطار واحد يحكم عملية التحديث والتنمية. انه توجه القص واللزق الذي لا يلقي بالا لمبدأ "الاتساق" Coherence الذي يقرر ان صلاحية أي مجموعة من الأفكار تتوقف على اتساقها، اي خلوها من التناقض الداخلي، بمعنى انه لا توجد فكرة تناقض فكرة اخري. هذا بالإضافة الى توافقها مع مجموعات الأفكار الأخرى التي ثبتت صحتها. وبالطبع لا أحد يتوقع امكان تشكيل مجموعة من الأفكار المتسقة من مصدرين هم شبه متناقضين "القديم" و"الجديد".

وإذا كانت "صدمة الحداثة" استنفرت عقول السابقين ودفعتهم لمحاولة الإجابة على سؤال النهضة، فإنها مازالت تشغل بال اللاحقين الذين فاقمت من أزمتهم صدمة أخرى هي "صدمة الواقع" متعددة الابعاد. واول أبعاد "صدمة الواقع" هو ما نشهده من تحول اعدادا متزايدة من المنتمين للتوجه الأول من التحاور بالكلمات الى التحاور بالرصاصات. وما تنظيم الدولة (داعش) وجبهة النصرة وبوكو حرام وأنصار بيت المقدس الا بعض الأمثلة على هذا التحول. والامر الأخطر هو ان من لم يمارس منهم العمل المسلح يعمل في هدوء وبدأب شديد على نشر أفكارهم بين البسطاء من سكان عشوائيات المدن والارياف. اما ثاني أبعاد "صدمة الواقع" فهو معدلات التغير فائقة السرعة في مختلف المجالات والذي يلقي المتمهلون خارج حركة التاريخ. وأخيرا نصل ثالث الأبعاد وهو "العولمة" بكل ما تعنيه من تمدد للأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عبر الحدود السياسية والإقليمية وعبر القارات.

وهكذا واجه اللاحقون صدمة مزدوجة تلك التي ورثوها عن السابقون ("صدمة الحداثة") وتلك التي يعيشوها، "صدمة الواقع" ويظل "سؤال النهضة" في انتظار الجواب. لذا لم يكن مستغربا من أحمد شوقي، وهو صاحب واحدا من اهم وأنجح المشروعات التنويرية المعاصرة، أن يتساءل: "اجتهد السابقون بما يناسب عصرهم (الزمان والمكان/الزمكان). لماذا لا نجتهد مثلهم؟ لقد تغير العالم تماما بما يستلزم الجدة لا التجديد". ويستطرد قائلا: "طرحت من قبل المفاضلة بين التجديد والجدة في الخطاب الثقافي. واليوم اضيف: الخطاب الجديد يجب ان يتميز بالرحابة والاتساع، مراجعة تطويرية للقديم، استحداث ابتكاري ابداعي لما تتطلبه متغيرات العصر وتوجهات المستقبل، وتجديد لما يناسبه ذلك". وهنا تبرز مشكلة ذات شقين. الشق الأول هو التفرقة بين القديم الذي ينبغي ازالته والقديم المطلوب تطويره. اما الشق الثاني فهو عن طبيعة تطوير القديم بحيث يصبح عنصرا في منظومة ثقافية "متماسكة" Coherent (خالية من التناقضات الداخلية). وعن هذا سيكون الحديث.

المراجع
الجابري, م. ع. 1990. الأصالة/ المعاصرة: ازدواجية مفروضة أم اختيار؟, إشكاليات الفكر العربي المعاصر, الثانية ed.: 20-15: مركز دراسات الوحدة العربية.
السيد, ا. ن. ا. 2012. الرفاه المُنتظَر والمرجعية المنشودة. الحوار المتمدن, 3952(25 ديسمبر): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=338134.