( ق2 ف3 ) عبقرية إجتهادات إبن خلدون في علم العمران (الإجتماع )


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4940 - 2015 / 9 / 29 - 18:41
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

( ق2 ف3 ) عبقرية إجتهادات إبن خلدون في علم العمران (الإجتماع )
كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية
القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون
الفصل الثالث : اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا
عبقرية اجتهادات إبن خلدون في علم العمران ( الإجتماع )
مدخل :
1- في البداية فإن المصطلح الخلدوني " العمران " أدق في التعبير من " الإجتماع " الذي جاء ترجمة عن الغرب . ولكن شاع لدينا ( علم الاجتماع ) نقلا عن الغرب ، وذلك من منطلق ما قرره إبن خلدون في المقدمة من أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب . وكان الأولى بنا التمسك بالمصطلح الخلدوني " علم العمران " ليس لأن إبن خلدون العربي المسلم هو منشئ هذا العلم ولكن أيضا لأن اختياره للمصطلح العربي كان غاية في الدقة .
فكلمة الإجتماع ، أو علم الإجتماع لسانيا لا يدل على المفهوم من هذا العلم ، فالإجتماع قد يكون " جماعا " جنسيا بين رجل وامرأة ، وقد يكون " إجتماعا سياسيا " بين رئيسين أو زعيمين أو أكثر ، وقد يكون إجتماعا سياسيا جماهيريا ، وقد يكون " إجماعا " بالإجتماع حول رأي واحد ، وفي هذه الأحوال فهو " إجتماع " بين بشر يبدأ بإثنين ، وقد يدخل فيه وجود مجتمع إجتمع في مكان واحد وزمان واحد ، وقد لا يوجد . ولكن اللفظ يدل على إجتماع" فوقي " بين الناس بدون علاقة وثيقة بالمكان ، وأحيانا يشمل إجتماع الحيوانات حيث تسير في قطيع سويا ينتقل من مكان إلى آخر . والله جل وعلا يقول : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ )(38) الانعام ).
أما مصطلح علم العمران فهو أعمق وأدق . إنه يعني أن مجتمعا قام بتعمير مكان على كل المستويات السياسية والإقتصادية والعقلية والإنسانية ، وما يتبع إقامة ذلك العمران من علاقات مرتبطة بالإنسان والمكان والزمان . وبذلك تتحدد سمات علم العمران في المجتمعات الإنسانية – لا الحيوانية – التي تقيم في مكان وتؤثر فيه ويؤثر فيها ، وتتحدد علاقاتها الداخلية سياسيا وإقتصاديا ودينيا ، كما تتحدد علاقتها بالمجتمعات الأخرى بين حرب وسلام وتأثر وتأثير .
2-- وليس إجتهاد إبن خلدون قاصرا على اختياره الدقيق لإسم العلم الذي إخترعه، وإنما – كما سبق – خرج على تقاليد عصره باجتهاد عقلي ، مع كل تأثره وتسليمه بثوابت عصره ، ولم يأت بعده من العرب من أكمل طريقه ، لأن التقليد في عصر إبن خلدون تحول بعده إلى جمود وتأخر وجهل.
3 ـ ثم إن إبن خلدون في إختراعه لهذا العلم قد بلغ فيه النهاية في إستخلاص قوانين العمران حسب المتاح في العصور الوسطي ، وكانت تلك المجتمعات متشابهة بين الشرق والغرب ، حيث كان الإستبداد الديني الثيوقراطي يحكم بتأييد رجال الدين ، وحيث يملك الخليفة أو السلطان أو الإمبراطور الأرض ومن عليها . ومن هنا فإن إجتهاد إبن خلدون كان نافعا ومعبرا عن العالم في عصره ، وتلك ميزة .
4- ولكن يضاف لها ميزة أخرى ، أن العقل الخلدوني جاء بقوانين في العمران تنفع عصرنا برغم كثرة المتغيرات التي طرأت على العالم بعد إبن خلدون ، من إنهيار النظام الإقطاعي وتحالف الإكليروس والإستبداد الكهنوتي ، فقد بدأت الطبقة الوسطى البرجوازية الأوربية في الظهور ، وتتابعت المتغيرات من تقليص سلطان الكنيسة والإستبداد السياسي ، وتأسيس العقد الإجتماعي الذي يعطي السلطة للشعب ، وظهور الدولة القومية ، وما واكب ذلك من تطورات إقتصادية وسياسية أخرى إرتبطت بالكشوف الجغرافية والإستعمار ، وتحول البرجوازية إلى إستعمار ، ثم جاء عصرنا بنوع من الإستعمار الكوني من شركات متعددة الجنسيات تستخدم العولمة وثورة المعلومات والإتصالات في السيطرة على العالم الذي تحول إلى قرية مفتوحة مكشوفة .
وبالرغم من كل هذه المتغيرات فإن بعض القوانين الخلدونية لا تزال صالحة للإستعمال أو ( الاستهلاك الآدمى ).
4 ــ ويرجع ذلك إلى عدة عوامل:
4 / 1 : ، فالعبقرية الخلدونية مع تأثرها الواضح بالثوابت الأساسية لعصرها دينيا وسياسيا وثقافيا ، إلا أنها كانت تنفذ إلى داخل النفس البشرية برغاباتها وطموحاتها ، وكات تستلهم حقائق " إنسانية " من التاريخ السابق والمعاصر لها . ومن هذا وذاك إقتربت من الخصوصية الإنسانية على مستوى الفرد ومستوى البشر ، فأتى بقوانين سارية المفعول مهما اختلفت الظروف. ولعل ثقافة إبن خلدون الدينية أثرت عليه في تركيزه على صفات الإنسان والنفس مع ثقافة الوعظ والنقاء الخلقي ، بالإضافة إلى الموضوعات الفقهية في التعامل الإقتصادي وتراث المسلمين السياسي ، ومن المنتظر من العقلية الخلدونية التي تشربت ذلك وهي تمارس السياسة وتعمل بالتاريخ أن تجيد إستنباط العلاقات الإنسانية من ذلك التاريخ ، وتصوغ منه قوانين للعمران صالحة لكل زمان ومكان .
4 / 2 : ثم إن منطق العصور الوسطى لم ينته بانتهاء العصور الوسطى ، فبالرغم من آليات العصر الحديث في سائر المخترعات ، فإن تلك الآليات نفسها لا تزال تستخدم في الدعوة وفي إرساء وفي توطيد نظم ثيوقراطية أو علمانية مستبدة ، خصوصا في العالم الثالث حيث تتربع في أرجائه نُظُم حُكم مستبدة علمانية وعسكرية ودينية ثيوقراطية ، وتعمل وتطمح بعض القوى لإقامة أنظمة دينية سياسية تنتمي إلى ثقافة العصور الوسطى ، وتستخدم سائر المخترعات الحديثة للعولمة من الفاكس إلى الإنترنيت للرجوع بأوطانها إلى عصور السيف والرمح والقلم البوص والكاغد . ثم إلى جانب ذلك هناك مجتمعات بحكم موقعها لا تزال مشدودة إلى الماضي ، لأنها تعيش الحاضر فقط مهما اختلفت ظروف العالم حولها ، مثل القبائل المنقطعة في أوطانها في أطراف العالم وفي صحاريه وعلى امتداد خط الإستواء . وعليه فإن تقعيد إبن خلدون المتأثر بالعصور الوسطى لا يزال صالحا للإستهلاك الآدمي في عصرنا ، حيث لم تعد العصور مجرد فترة زمنية إنتهت ، ولكن أصبحت مصطلحا يدل على نوعية من الثقافة تقبل التطبيق في عصرنا إذا أعطى الناس عقولهم وحياتهم ومستقبلهم لزعيم ملهم أو مهدي منتظر أو غير منتظر !!
4 / 3 : كما أن تقعيد إبن خلدون للمجتمعات البدوية والمنقطعة التي تعيش حاضرها فقط – هذا التقعيد لا يزال ساريا حتى الآن ، لأن تلك المجتمعات لاتزال على حالها قبل عصر إبن خلدون ، وبعد عصر إبن خلدون.
4 / 4 : وهناك تقسيمات حديثة لعلم الإجتماع سياسيا ونفسيا ودينيا وإقتصاديا ، ومن الطبيعي أن يتطور علم الإجتماع المعاصر ليواكب المتغيرات المتلاحقة في عصرنا ، وذلك يذكرنا بميزة أخرى لإبن خلدون ، وهي أنه أحصى معالم العمران ( أنواع علم الإجتماع) في عصره ، لتشمل السياسة والإقتصاد والتعليم والدين والعلوم والدول والمدن والبدو والحضر.
تفوق المنهج التاريخى العمرانى ( الاجتماعى ) الخلدونى على علم الاجتماع السياسى المعاصر
1 ـ المنهج الخلدوني في علم العمران يقوم على إستخلاص قوانين المجتمع من جذوره التاريخية ويفسرها تاريخيا ، وهذا المنهج الخلدونى يغيب لدى علماء الإجتماع في عصرنا في تركيزهم على البحث الميداني والإستقراء الظاهري في دراسة الظواهر الإجتماعية ، وذلك دون غوص عميق يتعرض للجذور التاريخية والثقافية والدينية التي لا يمكن إنكار تأثيرها ، خصوصا في مجتمعاتنا التي لا تزال مشدودة للماضي ويشكل جزءا هاما من ثقافتها في محاولة منها لتعويض عجزها عن ملاحقة الحاضر . وهذه ميزة كبرى للمنهج الخلدوني .
6 ــ ومثلا : فإن بحث علماء الاجتماع السياسى المعاصرين للظاهرة المسماة ( بالاسلام السياسى ) يتركز على القشور. هى شجرة خبيثة لها جذورها التاريخية والأصولية ، ونعانى من ثمارها ، ولكن البحث الاجتماعى السيسيولوجى لهذه الحركة ( الأصولية) يقتصر على السطح الظاهرى بما يساعد ليس فقط عن العجز عن تفسيرها ومن ثم عن علاجها ،بل يتعدى الأمر الى تعضيد مباشر لهذه الظاهرة الارهابية بوصفها بالاسلامية تصديقا لمزاعمها وربطا لها بالاسلام ، وهى تناقضه فى عقيدته وشريعته وأخلاقياته وقيمه بما تقيم من المذابح والخراب فى الشرق الأوسط وخارجه .
وفى مواجهة هذا الطرح القاصر قدمنا التفسير التاريخى والدينى لهذه الظاهرة ، بإعتبار ان التوصيف الصحيح للمرض هو بداية العلاج الصحيح. وهو أن من الخطأ ـ الذى يقترب من الخطيئة ــ وصف تلك الظاهرة بالاسلامية .
البداية هى الفصل الحاسم والحازم بين: الاسلام دينا الاهيا له مصدر الاهى وحيد هو القرآن الكريم وبين المسلمين ، وهم بشر لهم تاريخهم البشرى وحضارتهم البشرية وتراثهم البشرى وأديانهم الأرضية وما تتضمنه من مفتريات مصنوعة فى شكل أحاديث ومنامات وفتاوى وتشريعات . وأن المسلمين ليسوا سواء ، هم مختلفون تراثيا بين أديان ارضية مختلفة ، أكبرها حجما هو التصوف السنى الذى يجمع بين السنة المعتدلة ( فى الشريعة السنية ) مع تقديس الأولياء والقبور ، والى هذا الدين الارضى ينتمى أغلب ( المسلمين ) ثم هناك أقليات ابرزها الشيعة والصوفية فقط والسنيون فقط ، ثم هناك طوائف ومذاهب داخل التشيع والسنة والتصوف . ثم هناك تقسيمات أخرى حديثة : مسلمون متدينون ، ومسلمون علمانيون وملحدون . من الخطأ إعتبار كل المسلمين كتلة واحدة صمّاء ، ومن الخطأ وصم كل المسلمين بالتطرف والارهاب لأن الأغلبية الساحقة منهم ( حوالى بليون وربع بليون ) تعيش فى اندونيسيا وبنجلاديش وماليزيا وسنغافورة ووسط آسيا ( دول الكومنولث السوفيتى ) بالاضافة الى مسلمى البلقان ووسط وشرق أوربا .. التطرف يتركز فى الدين السنى ، بينما يتطرف الشيعة لو وصلوا فقط للحكم ، أما الصوفية فهم الأقرب الى المسالمة واحترام التعددية وحرية الدين . والسنيون المتطرفون ليسوا سواء ، أشدهم فى التطرف كانوا الحنابلة ، وأشد الحنابلة تطرفا كانوا أتباع ابن تيمية ، ثم ظهرت الوهابية فى عصرنا ــ عصر الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ـ لتكون أشد شراسة من خط ابن تيمية المتشدد . وبالوهابية قامت الدولة السعودية الأولى ، ثم الثانية ، ثم الثالثة الراهنة ، وهى التى أسّست الاخوان المسلمين فى مصر ، وقام الاخوان المسلمون المصريون بنشر الوهابية فى مصر والعالم على أنها صحيح الاسلام ، وظهر البترول مصاحبا لظروف اقليمية ودولية ، فحمل قطار النفط هذه الوهابية الى ربوع العالم ، على انه الاسلام . هذا هو موجز الأرضية التاريخية الدينية للظاهرة الارهابية التى تنتشر تحمل معها الدمار والدماء . والعلاج هو بتأكيد علمى تاريخى قرآنى على التناقض بين الاسلام والوهابية ، وبتأسيس إصلاح دينى تشريعى سياسى تعليمى نهضوى تنويرى لا يعطى فرصة لديدان الوهابية ان تزحف فى شقوق الظلام .
أما الاصرار على البحث الفوقى لهذه الظاهرة ( التراثية الماضوية ) والاصرار على وصفها بالاسلامية فهو الذى يعطى للارهابيين مجانا ما يريدون ، وهو وصفهم بالاسلاميين ، وعلى قدر ما فى هذا من تشويه للاسلام فهو أيضا تشويه للمصلحين المسلمين الحقيقيين وإتهام لهم بأنهم غير إسلاميين .
التطبيق العملى لهذا الفشل حدث فى جدل فكرى بين كاتب هذه السطور و د سعد الدين ابراهيم أستاذ علم الاجتماع السياسى ، حول إشراك الاخوان المسلمين فى العملية الديمقراطية . دافع د سعد الدين ابراهيم عن ( دمقرطة ) الاخوان المسلمين ، وكانت حٌجته أن ( الحركة الاسلامية ) تأقلمت مع الديمقراطية فى سنغافورة ومايزيا وتركيا وستتأقلم فى مصر والشرق الأوسط . وقلت أن الحركة الدينية السياسية فى ماليزيا وسنغافورة نبتت من دين أرضى متسامح هو التصوف السنى ، لذلك فهى تعترف وتؤمن بالتعددية ، بل إن الحركة السياسية الدينية فى تركيا نشأن ليس فقط فى بيئة التصوف السنى بل فى ظل علمانية أتاتورك المتطرفة ، أما حركات ما يسمى بالاسلام السياسى فى الشرق الأوسط فقد نبتت فى أرضية دينية وهابية تستحل دم المخالف لها فى السياسة ، ولو وصلت بالخداع الى الحكم ( عبر الانتخاب ) فلن تتركه لأن مذهبها السياسى هو ( إما أن نحكمكم وإما أن نقتلكم ) .
المنهج السطحى لعلم الاجتماع السياسى فى تناول هذه الظاهرة لا يفرق بين ( الاسلاميين ) فى تركيا أو سنغافورة أو البلقان وبين ( الاسلاميين ) فى مصر والسودان وأفغانستان وباكستان ، كما أنه لايفرّق بين مدرسة الامام محمد عبده التنويرية وحركة الاخوان المسلمين الوهابية الظلامية القرون أوسطية ، بل بعضهم يعتبر دعوة محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلاحية.! .
ولأن علماء الاجتماع السياسى هم الأعلى صوتا والأكثر شهرة ، ولأن منهجهم القشرى السطحى يخدم الحركة الوهابية ويصمم على وصفها بالاسلامية ، ولأنه يحقق أمل الكارهين للاسلام فى تشويه الاسلام ــ لهذا كله فإن تفسيرهم وتحليلهم هو السائد . والنتيجة أن المذابح مستمرة ، ونحن نصرخ ولا يلتفت الينا أحد .!!
هذا مجرد مثل ، يرفع من شأن ابن خلدون حين ربط بين الظاهر العمرانية ( الاجتماعية ) وجذورها التاريخية ، وهو ما فشل فيه علماء الاجتماع السياسى فى عصرنا .