قوَّة وحيوية الفكر الاقتصادي لماركس!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4938 - 2015 / 9 / 27 - 01:53
المحور: الادارة و الاقتصاد     

جواد البشيتي
لم أَقِفْ حتى الآن على تفنيد (دَحْض، تخطيء) لنظرية "فائض القيمة (القيمة الزائدة)"، أو لغيرها من النَّظريات الأساسية والجوهرية التي شرحها وبسطها ماركس في مؤلَّفه "رأس المال"، يمكن أنْ أسْتَنْتِج منه أنَّ صاحبه قد قرأ، أو استنفد، أو أحسن، قراءة "رأس المال"، أو تمثَّل معاني ما قرأ منه؛ فإنَّ جُلَّ "المُفَنِّدين (الدَّاحضين، المُخطِّئين)" كانوا، في وجهات نظرهم، مزيجاً من "الجهل" بالنَّظرية الاقتصادية الماركسية، والتعصُّب عليها، وعلى مؤسِّسها.
إنَّكَ يكفي أنْ تُفَرِّط في فَهْم "فائض القيمة"، أو تسيئه، حتى يَسْهُل عليكَ، ويتيسَّر، "اكتشاف" مزيدٍ، ومزيدٍ، من ظواهِر الاقتصاد الرأسمالي (الجديدة) التي "تُعْجِز" هذه النَّظرية عن تفسيرها وتعليلها؛ فقد أصبح لـ "المعرفة (والإبداع والذَّكاء والموهبة والجهد الذِّهني الخالص..)" سِلَعَاً من جنسها؛ فماركس "المادي" كانت "سلعته" مادية مثله؛ أمَّا خصومه الجُدُد من "جهابذة" الاقتصاد السياسي في هذا الزَّمن فَلَهُم "سلعتهم" المثالية، وكأنَّ "سؤال الفلسفة الأساسي"، والذي من طريق إجابته نَعْرِف "المادي" من "المثالي"، يَقْرَع الآن باب "الاقتصاد السِّلعي".
إنَّه جهد فلسفي اقتصادي يبذلونه لـ "رَوْحَنة" السِّلعة، أيْ لجعلها "روحانية" الماهية، أو لنَفْخِ مزيدٍ من "الرُّوح" فيها؛ ويكفي أنْ يتوفَّروا على "رَوْحَنة" السِّلعة، وأنْ يُبْدوا مزيداً من الاستخذاء لـ "هُبَل" السِّلع الرُّوحانية (المثالية، المعرفية) وهو "الإنسان الآلي" حتى يتساءلوا في دهشة واستغراب قائلين: كيف للجهد الذِّهني الإبداعي الخلاَّق (والذي لولاه لَمَا دَبَّت الحياة في هذه الآلة الطينية الصلصالية) أنْ يُحْسَب ويُقاس بالزَّمن (أو السَّاعة) وأنْ نَعْرِف، من ثمَّ، نسبة مساهمته في خَلْق القيمة التبادلية لهذه السِّلعة (الرُّوحانية، والتي تزداد روحانية)؟!
إنَّهم كمثل كل فيلسوف مثالي (أكانت مثاليته ذاتية أم موضوعية) لا يُنْكِرون "المادي" من ثروة المجتمع؛ لكنَّهم يَسْعون إلى جَعْلِه ذَيْلاً لـ "الرُّوحي" منها؛ فـ "الثروة المادية" للمجتمع، والتي هي سِلَعية الطابع (في معظمها) في الرأسمالية، إنَّما هي "المخلوق"؛ أمَّا "الخالِق" لها، أو "خالقها"، فهو "الثروة الرُّوحية"، أو أصحابها الكبار، وهُمْ الذين يبذلون الجهد الذِّهني (الإبداعي، الخلاَّق) الخالص، من أمثال بيل غيتس.
هؤلاء "الجهابذة" إنَّما يَنْقصهم "الجدل"، فَهْماً وتَمَثُّلاً؛ فالميتافيزيقيا أفسدت عقولهم وفكرهم وتفكيرهم، فما عادوا يُؤمِنون إلاَّ بـ "الخالص" من الأشياء؛ فالعمل إمَّا أنْ يكون يدوياً (جسمانياً) خالصاً، وإمَّا أنْ يكون ذِهْنياً (فكرياً) خالصاً؛ أمَّا "العمل اليدوي الذي يخالطه جهد ذهني"، أو "العمل الذهني الذي يخالطه جهد يدوي"، فلا يَعرفونه، ولا يعترفون به.
العمل هو وحده الذي يخلق قيمة تبادلية لشيء ما (على أنْ تكون لهذا الشيء قيمة استعمالية في الوقت نفسه). وهذا العمل، عند ماركس، إنَّما هو "العمل المجرَّد"؛ و"العمل المجرَّد" هو وحده الذي لديه القابلية للقياس؛ وإنَّه يُقاس بالزمن (بالساعات).
لكنَّ ماركس الجدلي العظيم لم يرَ "العمل المجرَّد" إلاَّ بوحدته التي لا انفصام فيها مع "العمل الملموس"؛ فـ "الخياطة"، مثلاً، عمل ملموس، يجعل مزاوله (الخيَّاط) مُخْتَلِفاً مِهنياً عن غيره. والخيَّاط في أثناء إنتاجه سلعته (الثوب) ومن أجل إنتاجها يَبْذل ويُنْفِق جهداً يدوياً وذهنياً عامَّاً (مُجرَّداً). وهذا الجهد، ولجهة كميته ومقداره، يُحْسَب ويُقاس بالزَّمن (ليس بالزَّمن الفردي، وإنَّما بالزمن العام، والذي يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والعصور). ويسمَّى هذا الزَّمن "الزَّمن، أو الوقت، الضروري اجتماعياً"، أيْ الضروري من وجهة نظر المجتمع.
لقد صَنَعَ هذا الخيَّاط ثَوْباً؛ فإذا صَنَعَه من أجل أنْ يستعمله هو شخصياً، أيْ من أجل أنْ يلبسه، فإنَّ هذا المصنوع ليس بـ "سلعة". إنَّه يمكن أنْ يغدو "سلعة"، لها قيمتها التبادلية، المقترنة بقيمتها الاستعمالية.
هذا الخيَّاط إنَّما أنتج "قيمة استعمالية" فحسب؛ لأنَّه لم يَصْنَع الثوب من أجل بيعه، وإنَّما من أجل أنْ يستعمله هو.
هل أضاف هذا الخيَّاط، بصنعه هذا الثوب، أو هذه "القيمة الاستعمالية، شيئاً إلى ثروة المجتمع المادية؟
نَعَم، أضاف؛ فالثروة المادية للمجتمع هي أشمل وأعم من "إنتاجه السِّلعي"؛ فإذا كانت كل "ثروة سلعية" ثروة مادية، فهذا لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ كل ثروة مادية يجب أنْ تكون سِلَعية الطابع؛ فلنتذكَّر هذا الفرق جيِّداً.
الخيَّاط نفسه أراد الآن أنْ يصبح تاجراً في الوقت نفسه، أيْ أنْ يُنْتِج أثواباً من أجل أنْ يبيعها؛ فكيف تُحْتَسَب قيمة سلعته؟
إنَّها تُحْتَسَب، وتُقاس، بعدد ساعات العمل (الضروري اجتماعياً) والمُضَمَّن الآن في سلعته؛ وهذه الساعات بعضها يختص بـ "العمل الميِّت (القديم)"، والذي تشتمل عليه المواد والأدوات المُسْتَهْلَكَة، وبعضها يختص بـ "العمل الحي"، أيْ عمله هو.
كل ما يستعمله ويستهلكه الخيَّاط، في أثناء عمله، من آلات وأدوات ومواد وكهرباء.. إنَّما هي منتجات مادية تتجسَّد فيها جهود ذهنية وعلمية إبداعية هائلة لعلماء وذوي اختصاص، وكثيرٌ من براءات الاختراع.
تخيَّلوا أنَّ ربَّ عمل صناعي صَنَع وأنتج سِلَعاً هي آلاف النُّسَخ من كِتابٍ أوراقه جميعاً بيضاء، أيْ لم يُطْبَع فيها أي نَصٍّ. وافْتَرِضوا أنَّ سلعةً كهذه يمكن بيعها؛ لأنَّ المشتري يستعملها تلبيةً لحاجة ما لديه. وافْتَرِضوا، أيضاً، أنَّ سعر السلعة، أيْ سعر كل نسخة من هذا الكتاب "الأبيض"، 100 قرش.
هذا السعر يشتمل على 50 قرشاً هي سعر الرأسمال الثابت المستهلَك، و25 قرشاً هي سعر قوَّة العمل المستهلَكة، و25 قرشاً هي ربح رب العمل (أيْ فائض القيمة).
الآن جِئْنا بشكسبير، وطَلَبْنا منه "تسويد" صفحات الكتاب بنَصٍّ يكتبه هو؛ فهل يُباع الكتاب، عندئذٍ، بالسعر نفسه (100 قرش)؟
كلاَّ؛ فهو سيُباع الآن بسعرٍ أعلى (110 قروش مثلاً).
شكسبير ليس عاملاً، ولا بروليتارياً، عند ربِّ العمل هذا؛ ولم تكن له أقلَّ مساهمة في إنتاج القيمة التبادلية لهذه السلعة، التي بفضله (أيْ بفضل "تسويده" صفحات الكتاب) تُباع الآن بسعرٍ يَفوق قيمتها التبادلية؛ فـ "السعر" يزيد، أو يقل، عن القيمة التبادلية للسلعة، وقد يُطابقها؛ لأنَّه محكوم بقانون العرض والطلب.
شكسبير أدَّى عملاً نافعاً وضرورياً للمجتمع؛ وينبغي للمجتمع، وبواسطة رب العمل هذا، أنْ يكافئه عليه مالياً؛ ولقد كافأه رب العمل إذْ أعطاه مبلغاً كبيراً من المال (10 قروش عن كل نسخة).
إيَّاكم أنْ تُدْرِجوا شكسبير (وأشباهه) في فئة اجتماعية جديدة تسمُّونها "البروليتاريا الذِّهنية (أي التي تؤدِّي عملاً فكرياً خالصاً، أو تبيع "قوَّة عملها الفكرية والذِّهنية").
شكسبير أدَّى عملاً نافعاً وضرورياً للمجتمع؛ والعامِل عند رب العمل هذا أدَّى هو أيضاً عملاً نافعاً وضرورياً للمجتمع؛ لكن إذا كان عمل كل بروليتاري هو عمل نافع وضروري للمجتمع، فإنَّ هذا لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، إلاَّ عند ضيِّقي الآفاق، أنَّ كل عمل نافع وضروري للمجتمع يجب أنْ يكون عملاً بروليتارياً (يطيب لأولئكً تسميته "قوَّة العمل الذِّهنية (المُنْفَقَة)").
رَبُّ عملٍ آخر صَنَعَ، بواسطة عمَّاله، سلعة أخرى هي جهاز كمبيوتر؛ لكنَّ هذا الجهاز كان كالورقة البيضاء، أيْ يخلو تماماً من البرامج، ومن نظام "ويندوز"؛ فَجِئْنا بالعبقري بيل غيتس، وطلبنا منه "برمجته"؛ فَبِيع الجهاز بسعرٍ أعلى من قيمته التبادلية.
إنَّ غيتس في عمله هذا لا يختلف مبدئياً عن شكسبير؛ فربُّ العمل كافأه على جهده الذِّهني الإبداعي هذا بمبلغ كبير من المال.
لتتذكَّروا جيِّداً أنَّ سعر السلعة هو التعبير النقدي (المالي، أكان من ذهب أم من ورق) عن قيمتها التبادلية، وأنَّ هذا السعر محكوم بقانون العرض والطلب، فيزيد، أو يقل، عن قيمتها التبادلية، أو يطابقها (فإذا طابقها سُمِّي "السعر الطبيعي"). لكن ثمَّة أشياء كثيرة في الاقتصاد الرأسمالي لها سعر من غير أنْ يكون لها قيمة تبادلية، كالأرض التي يشيِّد عليها الرأسمالي منشأته الصناعية.
وماركس بحديثه عن "العمل البسيط" و"العمل المُركَّب (المعقَّد)"، ولجهة صلتهما بإنتاج القيمة التبادلية للسلعة، إنَّما يتحدَّث فحسب عن عمل البروليتاري؛ فإنَّ ساعة واحدة من عمل البروليتاري رفيع الاختصاص تَعْدِل، مثلاً، ثلاث ساعات من عمل البروليتاري العادي.
إنَّ الثروة المادية السلعية للمجتمع تنمو فحسب بـ "القيمة الجديدة" التي يخلقها عمل طبقة البروليتاريا؛ وهذه "القيمة الجديدة" هي مَصْدَر الأجور والرواتب والأرباح (وضرائب الدولة) في المجتمع كله.
من هذا "الصَّحْن (أيْ القيمة الجديدة التي يخلقها عمل طبقة البرولتياريا مهما كان حجمها الديمغرافي)" يَغْرِف كل أبناء المجتمع؛ فمنه غَرَف نيوتن وشكسبير وآينشتاين وغيتس وهتلر ورومل وهيفاء وهبي وبابا الفاتيكان وشيخ الأزهر وخامنئي وأوباما وإيلي صعب ودافيد هيرست وبيكاسو..
لا تُدْهشكم كثيراً "براءة الاختراع"؛ فصاحبها كمثل شكسبير في مثالنا؛ فأنا ربُّ العمل اشتريتها منه بمبلغ مالي كبير؛ ثمَّ استعملتها في مصنعي، فأفادتني في تحسين نوعية المُنْتَج، وفي خفض عدد العمال في مصنعي، وفي زيادة إنتاجية العامِل الواحد، وفي (نهاية المطاف) خَفْض القيمة التبادلية للسلعة التي يُنْتِجها عمَّالي.
من قَبْل، كانت القيمة التبادلية لسلعتي تَعْدِل (بسعرها) 100 قرش؛ أمَّا الآن فتَعْدِل 80 قرشاً؛ فهل أبيعها بهذا السعر الجديد الأقل من السعر القديم؟
الجواب "نَعَم، ولا"؛ فأنا، ومن أجل أنْ أبيع أكثر، سأبيعها بسعرٍ أقل من سعرها السوقي بخمسة قروش مثلاً، أيْ أنني سأبيعها بسعر جديد هو 95 قرشاً؛ وفي هذا السعر الجديد أحصل على ربحٍ إضافي؛ فربحي الأصلي في السلعة الجديدة الواحدة قلَّ؛ لأنَّ قيمتها التبادلية قلَّت؛ بسبب زيادة إنتاجية العامل الواحد في مصنعي.
هذا الربح الإضافي إنَّما هو جزء من فائض قيمة مُنْتَج في المصانع التي تُنْتِج السلعة نفسها؛ لكنها لم تشترِ "براءة الاختراع" تلك. وبحصولي على هذا الربح الإضافي أشعر أنَّ المجتمع قد كافأني على تحسيني المُنْتَج، وزيادة الإنتاجية، بفضل "براءة الاختراع" التي اشتريت، وعاقَب، في الوقت نفسه، المصانع الأخرى، لعلَّها تحذو حذوي.
وهذا الذي عَبَّرتُ عنه بكلمتيِّ "مكافأة" و"عقاب" إنَّما هو قانون اقتصادي موضوعي في الرأسمالية، هو قانون "رؤوس الأموال المتساوية تعطي أرباحاً متساوية (بصرف النَّظر عن تركيبها العضوي)".
وعمل هذا القانون هو ما يَجْعَل المُسْتَثْمِر في "سوق الدعارة"، مثلاً، يحصل على ربحٍ مساوٍ للربح الذي يحصل عليه رب عمل صناعي، إذا ما تساويا في حجم رأس المال المُسْتَثْمَر.
وإذا ما ظلَّت الرأسمالية على قَيْد الحياة فقد يأتي يوم يرتفع فيه التركيب العضوي لرأس المال (في المجتمع) بما يجعل العامل الواحد يُنْتِج ما يَعْدِل قيمة قوَّة عمله في بضع دقائق من يوم عمله (الذي قد يظل 8 ساعات) تاركاً عمل معظم يوم عمله ينهبه رب العمل!
وقد يأتي يوم (لا وجود فيه للرأسمالية؛ لا وجود فيه للرأسماليين والبروليتاريا) تَعْرف فيه البشرية "عودة حلزونية" إلى عصر العبودية في روما القديمة، فنرى الناس الأحرار أسياداً، والبشر الآليين عبيداً؛ فتنقرض "السلعة"، و"القيمة التبادلية"، ولا يبقى إلاَّ "القيمة الاستعمالية"؛ وتنمو "الثروة المادية" نموَّاً لا مثيل له؛ لكن من غير أنْ تتسم بأيِّ طابع سلعي.
"الماركسية ماتت!"؛ "الماركسية شبعت موتاً!"؛ "الماركسية وُلِدَت ميتة!"؛ "الماركسية نظرية (أو فكر) منافية للواقع!".
وهذا كله بعضٌ، أو نَزْرٌ، ممَّا قالوه، ويقولونه، في حروبهم الفكرية (التي لم تنتهِ، ولن تنتهي) ضدَّ "الماركسية"، أيْ ضدَّ "الجوهري" و"الأساسي" و"الصَّلْب" من أفكار كارل ماركس (في المقام الأوَّل). ومع ذلك، ما زال هؤلاء الخصوم والأعداء لفكر ماركس في "حوارٍ" معه؛ وكأنَّهم ما زالوا مؤمنين سِرَّاً بتهافُت منطقهم وحُجَجِهِم، وبعجزهم عن النَّيْل من قوَّة فكر هذا المفكِّر العظيم.
ومن حُجَجِهِم التي يتسلَّحون بها الآن أنَّ "طبقة ماركس"، أيْ "الطبقة العاملة"، أو "البروليتاريا"، تتلاشى وتضمحل؛ فالعُمَّال في الصِّناعة هُمْ الآن أقل من خُمْس الأيدي العاملة؛ أمَّا العاملون في الخدمات فيَزيدون عن نِصْف الأيدي العاملة؛ واستنتاجهم، من ثمَّ، أنَّ الطبقة العاملة (البروليتاريا) الصناعية ما عادت (أو ليست) أكثرية أبناء المجتمع.
ومساهمة الصناعة، مع عمَّالها، في "الناتِج القومي" تتضاءل؛ وهي الآن لا تزيد عن خُمْس هذا الناتِج، الذي يأتي معظمه من الخدمات، أيْ من قطاع لا يُنْتِج سِلعاً وبضائع، ولا يُنْتِج، من ثمَّ، ثروة مادية؛ أمَّا نظرية "فائض القيمة ("فَضْل القيمة"، "القيمة الزائدة")" فتستحوذ على حُصَّة الأسد من الجهد (الفكري) الذي يَيْذُلون توصُّلاً إلى تفنيد، ودحض، وتخطيء، أساس نظرية ماركس الاقتصادية؛ فنظرية "فائض القيمة" إمَّا أنَّها غير صحيحة (مُذْ وُلِدَت) وإمَّا أنَّها كانت صحيحة في مرحلة "الثورة الصناعية"؛ ثمَّ غدت خاطئة.
ودليلهم "المُفْحِم" على "عِلْمية" تفنيدهم لنظرية "فائض القيمة" هو أنَّ جزءاً عظيماً متعاظِماً من "الناتِج القومي" يأتي من طريق "أرباح" لا تمتُّ بصلةٍ إلى مفهوم، أو نظرية، "فائض القيمة".
كل حُججهم متهافتة، تَضافَر على صُنْعِها شيئان: "العداء الأعمى" لفكر ماركس، و"الجهل به (أو العجز عن فهمه، وتمثُّله)".
"عُمَّال الصناعة (الصناعة بمعناها الواسع، أيْ الصناعة التي تشمل الزراعة الرأسمالية الآلية)" ليسوا الآن بأكثرية أبناء المجتمع؛ وهُمْ طبقة يتضاءل "وزنها الديمغرافي"؛ لكن أليس ماركس نفسه هو الذي "اكتشف القانون الاقتصادي الموضوعي" لهذه الظاهرة، أيْ لظاهرة "تضاؤل الوزن الديمغرافي" لـ "البروليتاريا الصناعية (بمعناها الواسع)"؟!
أليس هو الذي فَهِم تطوُّر النظام الرأسمالي على أنَّه، في إحدى سماته الجوهرية، "ارتفاع (أو نموٌّ) مستمر، متعاظِم، للتركيب العضوي للرأسمال"؛ أيْ التضاؤل المستمر لنِسْبَة "الرأسمال المتغيَّر (الأجور)" إلى "الرأسمال الثابت (الرأسمال في هيئة آلات ومعدَّات وأجهزة..)"؟!
أليس هو الذي شَرَح وأوضح العاقبة الحتمية لـ "ارتفاع التركيب العضوي للرأسمال (والذي من طريقه تَحِلُّ الآلة محل الأيدي العاملة)" والتي هي تَعاظُم مَيْل "معدَّل الربح" إلى الهبوط؛ لأنَّ "الرأسمال المتغيِّر"، والذي هو وحده "مَصْدَر الربح (التعبير النقدي عن "فائض القيمة")"، يتضاءل في استمرار؟!
إنَّ "العمل"، والعمل وحده، هو مَصْدَر "الثروة (المادية للمجتمع)"، وهو ما يعطي "المُنْتَج (الذي له قيمة استعمالية)" قيمته (أيْ "قيمته التبادلية").
و"الثروة المادية (للمجتمع)" إنَّما تُنْتَج (وتنمو وتتراكم) من طريق "الاقتصاد الحقيقي (الصناعة والزراعة..)"، أيْ الاقتصاد المُنْتِج للسلع والبضائع؛ وهذه "الثروة" لا تكون إلاَّ على هيئة "قِيَم استعمال (مادية)"، هي، في النظام الرأسمالي، يجب أنْ تكون، في الوقت نفسه، على هيئة "قِيَم تبادلية"، أيْ على هيئة سِلَع وبضائع.
وإنَّ عمل "البروليتاريا" في الصناعة والزراعة، وعلى الرُّغم من تضاؤل "الوزن الديمغرافي" لهذه الطبقة، هو المُنْتِج للقسم الأعظم من الثروة المادية للمجتمع؛ فهذه "الطبقة" هي المُعيل للمجتمع، أيْ لمعظم المجتمع؛ فهذا القسم الأعظم من الثروة المادية للمجتمع إنَّما يأتي من "القيمة الجديدة" التي تُنْتِجها "البروليتاريا"، والتي (أيْ "القيمة الجديدة") تُتَرْجم، نقدياً، بـ "أجور" يتقاضاها العُمَّال، وبـ "أرباح" تعود إلى أصحاب رؤوس الأموال؛ ونِسْبَة "الأجور" إلى "الأرباح" هي في تضاؤل مستمر (ولا يمنع تضاؤلها هذا ارتفاع القيمة الحقيقية للأجور).
ومن هذا "المَصْدَر (أيْ من "القيمة الجديدة")" تأتي الأجور والأرباح في القطاعات الاقتصادية غير المُنْتِجَة (بذاتها) للثروة المادية للمجتمع؛ وهنا يكمن مَصْدَر الالتباس في فَهْم وتفسير "النماء النقدي" لقطاع الخدمات، أجوراً وأرباحاً، ولسائر قطاعات الاقتصاد المشابهة له في كونها غير مُنْتِجَة للثروة المادية.
ولجلاء وتوضيح الأمر، ودَفْع الالتباس، دَعُونا ننظر إلى أسلوب الاستثمار في التجارة مثلاً (وهي قطاع لا يُنْتِج بذاته، ومن حيث المبدأ، ثروة مادية).
إذا كنتَ ثَريَّاً، تملك، مثلاً، مليون دولار، وأردتَ استثمار هذا المبلغ النقدي في التجارة، فإنَّ أوَّل شيء ينبغي لكَ معرفته هو "معدَّل الربح" في مجتمعك الآن.
لقد عَرفتَ أنَّ "معدَّل الربح" هو، مثلاً، 20 في المئة؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ المليون دولار الذي تملك، والذي تريد استثماره في التجارة، يجب أنْ يزيد، ليصبح، في نهاية نشاطكَ الاستثماري هذا، مليون وخُمْس المليون دولار.
إنَّكَ تذهب إلى ربِّ العمل الصناعي فتشتري منه، مثلاً، بثُلْثيِّ هذا المبلغ بضائع أنْتجها مصنعه، وبالثُّلث المتبقي تستأجر عمال وموظفين في متجرك.
ربُّ العمل الصناعي ارتضى (من أجل تصريف إنتاج مصنعه) أنْ يتنازل لكَ عن جزءٍ من ربحه (أيْ من فائض القيمة المُضَمَّن في البضائع التي باعَكَ إيَّاها). لقد أخذ منكَ ثُلْثيِّ مليون دولار ليُعْطِيكَ بضائع قيمتها التبادلية تَعْدِل مليون وخُمْس المليون دولار.
أنتَ الآن، وبعد إنفاقكَ مبلغ المليون دولار في تلك الطريقة، بِعْتَ كل البضائع، فأصبحت تملك مليون وخُمْس المليون دولار.
"خُمْس المليون دولار" لم يأتِ إليكَ إلاَّ من هناك، أيْ من "فائض القيمة" المُنْتَج في المصنع الذي منه اشتريتَ البضائع؛ وفي الطريقة نفسها (تقريباً) تَسْتَثْمِر أموالك، وتربح، في المصارف، وفي سائر قطاعات الخدمات.
ويجب ألاَّ ننسى أنَّ هناك قطاعات مُنْتِجة للثروة المادية للمجتمع؛ لكنها ليست رأسمالية؛ فثمَّة أشخاص يُنْتِجون سِلَعاً (أيْ ثروة مادية) من طريق عملهم الشخصي (والعائلي) فحسب، وبواسطة آلات وأدوات وأجهزة يملكونها هُمْ.
ويجب ألاَّ ننسى، أيضاً، أنَّ هناك أشياء ليست، في حدِّ ذاتها، سِلَعاً، أي ليست لها قيمة تبادلية؛ ومع ذلك تُباع، وبأسعار مرتفعة، كالأراضي؛ فليس كل ما يُباع، أو له سعر، يجب أنْ يكون سلعة، أو أنْ تكون له قيمة تبادلية.
أُنْظروا، مثلاً، إلى حجم الأموال (أو رؤوس الأموال) المُسْتَثْمَرة في رياضة كرة القدم، وإلى ما يتقاضاه اللاعبون من أجور خيالية، وإلى ما يحصل عليه المُسْتَثْمرون من أرباح خيالية أيضاً.
هذا القطاع (رياضة كرة القدم) ليس بمُنْتِج للثروة المادية؛ لكنَّه يغرف من الصَّحن نفسه، أيْ من "القيمة الجديدة" المُنْتَجة في الصناعة، أو في الاقتصاد الحقيقي.
إنَّنا نحسب مساهمة هذا القطاع في "الناتج القومي"، ضاربين صفحاً عن حقيقة اقتصادية موضوعية هي أنَّ هذه المساهمة هي في الأصل جزء من "القيمة الجديدة" المُنْتَجة في الاقتصاد الحقيقي.
لقد اكتشفوا، إذ اتَّخذوا من "السطحية" أسلوباً في الفهم والتفسير، أنَّ مساهمة الصناعة، مع عمَّالها، في "الناتِج القومي" تتضاءل؛ وهي الآن لا تزيد عن خُمْس هذا الناتِج (الذي يأتي معظمه من الخدمات، أيْ من قطاع لا يُنْتِج سِلعاً وبضائع، ولا يُنْتِج، من ثمَّ، ثروة مادية).
كلاَّ؛ فإنَّ المساهمة الواسعة لقطاع الخدمات في "الناتِج القومي" ليست، في حقيقتها الموضوعية، سوى "جزء كبير، متحوِّل، من القيمة الجديدة (المُنْتَجة في الصناعة بمعناه الواسع)".
وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يدل على أنَّ الاقتصاد الحقيقي هو المعيل للمجتمع بأسره، وعلى أنَّ "البروليتاريا (الصناعية)" التي تضاءل، ويتضاءل، "وزنها الديمغرافي"، هي المُنْتِجة لـ "القيمة الجديدة"، التي من "صَحْنِها" يغرف الآخرون، فنرى، من ثمَّ، هذا "المشهد الخادِع"، مشهد "تضاؤل مساهمة الصناعة، وتعاظُم مساهمة قطاع الخدمات، في الناتِج القومي"؛ فماركس ما زال على حقٍّ، وعلى صواب!
وماركس ما زال يتحدَّى خصومه كافَّة على أنْ يأتوه بتفسير لظاهرة "الربح" في النظام الرأسمالي غير التفسير الذي أتى به، والكامن في نظرية، أو مفهوم، "فائض القيمة"؛ فَمْنْ أين يأتي "الربح" إذا لم يأتِ من "فائض القيمة"؟
إنَّنا نسأل، متَحدِّين، في الوقت نفسه، كل خصوم نظرية "فائض القيمة" أنْ يجيبوا عنه؛ فهلْ مِنْ مجيب؟!
لا أملك إلاَّ أنْ أُحَيِّي كل معادٍ لماركس على الجرأة التي أبداها في سعيه إلى "تَسْخيف" فكر هذا الرجل الذي قرأ كل شيء تحت المجرَّة حتى يكتب "رأس المال"؛ وأنا أعلم أنَّ كل ما يأتون به من "حُجَجٍ" للنِّيل من مكانة وأهمية وحيوية فكر ماركس لم يَنْبُت في رؤوسهم، وإنْ ارتضوا أنْ يكونوا له لساناً ليس إلاَّ.
أحد هؤلاء لم يَنَلْ من عِلْم الماركسية إلاَّ قليلاً؛ لكن هذا "القليل" كان أوسع من أنْ يتَّسِع له عقله؛ فشرع يتَّخِذ من ظواهر (اقتصادية رأسمالية) عَجِز هو عن فهمها وتفسيرها "دليلاً" على "عجز" الماركسية (وقانون "فائض القيمة").
ومِنْ عجزه هذا وُلِدَ إيمانه بالمعجِزات؛ فثمَّة ظواهر في الاقتصاد الرأسمالي، يكفي أنْ يتفكَّر فيها الإنسان حتى يُؤمِن بـ "مُعْجِزات" أتت بها الرأسمالية؛ وهي "مُعْجِزات"؛ لاستغلاقها على عقله، ولكونها "أعجزت" الماركسية نفسها عن تفسيرها، على ما يَزْعُم!
لقد اكتشف أنَّ ثمَّة "سِلَعاً" تُنْتَج في النظام الرأسمالي يَقِف قانون "فائض القيمة" عاجزاً عن تفسيرها؛ وهذه "السَّلِع (المحيِّرة للألباب)" إنَّما هي ثمرة "الثورة العلمية والتكنولوجية"؛ وماركس مات قبل ولادة هذه "المعجزة السلعية" بزمن طويل!
إنَّه يُمْعِن النَّظر في بعض الصناعات، التي أنجبتها هذه الثورة، فيَجِد فيها ما يكفي من الأدلة العملية الملموسة على موت قانونيِّ "القيمة" و"فائض القيمة"؛ فـ "السِّلع" تُنْتَج مع أنَّ المصنع المُنْتِج لها يخلو، أو يكاد يخلو، من "البروليتاريا"، أو "العمَّال"؛ فكيف (يتساءل في دهشة واستغراب) لقانون "فائض القيمة" أنْ يعمل حيث لا وجود للعمَّال؟!
"السِّلَع الإعجازية" تلك إنَّما هي "سِلَع معرفية"؛ فهي (وفي المقام الأوَّل على الأقل) ثمرة المعرفة والعِلَم، والجهود الذهنية، والأبحاث العلمية؛ وإنَّ لكم في صناعة الدواء لدليلٌ مُفْحِم!
لقد أذهلته وأدهشته صناعة الدواء (وأشباهها) فتحدَّى كل مُهْتَمٍّ بأمور وقضايا "لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر"، وتُعْنى بها "السلفية الماركسية"، أنْ يجيب عن سؤال "السِّلع الإعجازية"، أيْ التي أعجزت عقله، فقال، من ثمَّ، بحتمية أنْ تُعْجِز أيضاً الماركسية!
هذا (مع أمثاله، وهُمْ كُثْر) لم يأتِ إلاَّ بدليل جديد على أنَّ جُلَّ أعداء الماركسية هُم من الجهلة بها، أيْ مِمَّن قرأوا ما تيسَّر لهم قراءته من فكرها؛ لكن من غير أنْ يُوفَّقوا في فهمه، وتَمثُّل معانيه.
"العمل"، و"العمل وحده"، هو المُنْتِج لـ "السلعة"، أي لـ "شيءٍ (نافعٍ) له قيمة (تبادلية)".
وهذا "العمل" إمَّا أنْ يكون "بسيطاً" وإمَّا أنْ يكون "معقَّداً"؛ على أنْ تَفْهَم "البسيط" و"المُعقَّد" من "العمل" فَهْماً "نسبياً، تاريخياً"؛ فـ "العمل المُعقَّد"، في المصنع الرأسمالي الغربي، قبل قرنين من الزمان، هو الآن "عمل بسيط".
و"العمل"، أكان "بسيطاً" أم "مُعقَّدا"، إنَّما يُقاس بـ "الزمن (بالساعات)"؛ فلو كُنْتَ مُنْتِجاً لسلعة من تلك "السِّلَع الإعجازية"، لَقُلنا إنَّ كل ساعة من ساعات عملك تَعْدِل 10 ساعات من عمل زميلك العامِل زيد.
إنَّكَ تُكْسِب "موضوع العمل" في الساعة الواحدة "قيمة (تبادلية)" تفوق عشر مرَّات القيمة التي يُكْسِبها زيد لـ "موضوع عمله" في الساعة الواحدة.
"الحاسبة الإلكترونية" هي "سلعة"؛ هي مُنْتَج له "قيمة استعمالية"، ويمكن مبادلته بسلعة (مختلفة نوعاً) لها القيمة نفسها (تقريباً). يمكن مبادلتها بـ "قَلَم حِبْر" مثلاً.
هذا التبادُل إنَّما يعني أنَّ كلتيهما تساوي الأخرى في "كمية العمل (الضروري)" المُضَمَّنَة فيها؛ وهذا التساوي إنَّما يعني أنَّ كلتيهما تساوي الأخرى في "زمن العمل (الضروري)" الذي بُذِل في إنتاجها.
"الحاسبة الإلكترونية" أنتجتها أنتَ في ساعة عمل واحدة لا غير؛ و"قَلَم الحِبْر" أنتجه زيد في 10 ساعات عمل. والتساوي في زمن العمل (الضروري) إنَّما يعني، في هذا المثال، أنَّ الساعة الواحدة من عملكَ المعقَّد تَعْدِل 10 ساعات من عمل زيد (البسيط).
"الإنسان الآلي" هو، أيضاً، سلعة؛ لكن كل ساعة عمل بُذِلَت في إنتاجها تَعْدِل 10 ساعات أو 20 ساعة من العمل البسيط.
والانتقال من "العمل البسيط" إلى "العمل المُعَقَّد (فالأكثر تعقيداً)" إنَّما هو معنى من معاني "ارتفاع التركيب العضوي للرأسمال"، والذي عاقبته الحتمية هي اشتداد وتعاظم مَيْل معدَّل الربح للهبوط؛ لأنَّ "الرأسمال المتغيِّر (المتضائل نسبياً)" هو وحده مَصْدَر "فائض القيمة".
لنتخيَّل مصنعاً رأسمالياً، يخلو تماماً من العمَّال، ويُنْتِجُ سلعة ما؛ إنَّ هذا المصنع الذي يخلو تماماً من "العمل الحي" لن يُضيف "قيمة" إلى منتجاته؛ فهو يَنْقُل، فحسب، القيمة من الآلات والمواد.. إلى مُنْتَجِه الجديد.
في هذا المصنع لا وجود أبداً لـ "فائض القيمة"؛ لأنْ لا وجود أبداً لـ "القيمة الجديدة".
في هذا المصنع لا وجود أبداً لـ "الربح"؛ لأنْ لا وجود أبداً لـ "البروليتاريا".
هذا المصنع لن يظل رأسمالياً؛ لأنْ لا وجود لـ "البروليتاريا".
لكنَّ عدم وجود "القيمة الجديدة" و"فائض القيمة" لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، عدم وجود، أو عدم نماء، "الثروة المادية".
في الرأسمالية، نَجِد مصنعاً نسبة "الرأسمال المتغيِّر" إلى الرأسمال الثابت" فيه هي من الضآلة بمكان؛ وفي هذا المصنع ينبغي (نظرياً) لمعدَّل الربح أنْ يقلَّ كثيراً عن معدَّل الربح العام؛ لكنَّ هذا لا يَحْدُث؛ لأنَّ صاحب هذا المصنع يستولي (من طريق عمل القوانين الاقتصادية الموضوعية للنظام الرأسمالي) على جزء من "فائض القيمة" الذي يُنْتِجه عمَّال مصانع نسبة "الرأسمال المتغيِّر" إلى "الرأسمال الثابت" فيها أعظم؛ وهذا ما يجعل رؤوس الأموال المتساوية تعطي أرباحاً متساوية بصرف النَّظر عن "التركيب العضوي للرأسمال".
الآن، لتتخيَّل نفسكَ رأسمالياً، مساهماً بمبلغ مليون دولار في رأسمال مصنع يُنْتِج سلعة عظيمة من حيث مكوِّنها المعرفي والعلمي.
في هذا المصنع (الذي يرتفع فيه كثيراً "التركيب العضوي لرأسماله") لا يعمل إلاَّ عدد ضئيل جداً من العمَّال الذين يضيفون إلى "موضوع العمل" قيمة جديدة، متأتية من بَذْلِهم جهوداً ذهنية ومعرفية وعلمية (إنَّهم عمال أو بروليتاريا الثورة العلمية والتكنولوجية).
لِنَفْتَرِضْ أنَّ المعدَّل العام للربح هو 20 في المئة؛ إنَّكَ، وبصفة كونكَ رأسمالياً، يجب (نظرياً) أن تحصل على ربح مقداره، مثلاً، 100 ألف دولار؛ لكنك تحصل على ربح مساوٍ للمعدَّل العام للربح، أيْ تحصل على ربح مقداره 200 ألف دولار.
إنَّ نصف هذا الربح يمثِّل "فائض القيمة" في مصنعه؛ وقد حصل عليه من عمَّاله؛ أمَّا نصفه الآخر فحصل عليه من "فائض القيمة" الذي أنتجه عمَّال مصانع لم تَبْلُغ بَعْد، في ارتفاع "التركيب العضوي للرأسمال" فيها، الدرجة نفسها.
إنَّ "القيمة الجديدة"، في المجتمع، لا تُنْتَج إلاَّ حيث تُنْتَج السِّلع (القِيَم المادية في الرأسمالية). وإنَّ المُنْتِجين (الأقحاح) لها وهُم العمَّال (الذين يتضاءل "وزنهم الديمغرافي") لا يحصلون (مع أرباب عملهم) إلاَّ على جزءٍ متضائل منها (أيْ من هذه "القيمة الجديدة"). وهذا إنَّما يعني أنَّ جزءاً متعاظماً من "القيمة الجديدة" يذهب إلى سائر أبناء المجتمع في طرائق وأساليب مختلفة.
كل أرباح التُّجار وأصحاب المصارف (مثلاً) إنَّما هي جزء من تلك "القيمة الجديدة".
في الرأسمالية، يَعْظُم، في استمرار، حجم "فائض القيمة"؛ لكنَّ "معدَّل الربح" يهبط، ويزداد، ويتسارع، هبوطاً.
إنَّه يَعْظُم (حجم "فائض القيمة") مع أنَّ نسبة "الرأسمال المتغيِّر" إلى "الرأسمال الثابت" تتضاءل في استمرار.
والمعادي في سطحية لماركس يقول "مكتشِفاً": إنَّ "الربح" يمكن أنْ يأتي من طريق غير طريق "فائض القيمة"، ومن خارج "الإنتاج السلعي"؛ فالمرأة، مثلاً، يمكن أنْ تبيع شعرها عبر وسيط (تجاري) فـ "يَرْبَح" البائع والوسيط معاً.
إنَّ كلَّ "فائض قيمة" يجب أنْ يكون "رِبْحاً"؛ لكنْ ليس كل ربح يجب أنْ يكون "فائض قيمة"؛ والدليل على ذلك قُلْتُهُ (لقومٍ يَعْقِلون). ألَم أقُلْ إنَّ ثمَّة أشياء في الرأسمالية، كالأرض، لها "سعر"؛ لكنَّها، في حدِّ ذاتها، عديمة القيمة (التبادلية)؟!
وأنتَ ألا "تربح" عندما تبيع "أرضاً (عديمة القيمة)"؟!
و"الوسيط" الذي يتَّجِر بأجساد النساء، في سوق الدعارة، ألا "يربح"؟!
هل كان ماركس يجهل هذه الظاهرة، وهذا النوع من "الربح" أمْ فَهِمَ الربح في سوق الدعارة على أنَّه "فائض قيمة" تُنْتِجه المومس (بائعة جسدها، أو مؤجِّرته) فيستولي عليه رَبُّ العمل هذا؟!
ألَمْ يكن في عصر ماركس مؤلِّفو كُتُب؟!
إذا كان المؤلِّف مُنْتِجاً لـ "فائض قيمة"، وإذا كان الناشِر هو الذي يستولي عليها؛ فَهَلْ ناشِر كتاب "الإنجيل" استولى على "فائض قيمة" أنْتَجه "رَبُّ العالمين" بصفة كونه "مؤلِّف الإنجيل"؟!
تبَّاً للجهل، لم يرحم صاحبه يوماً قَطْ!
إذا كان ماركس قد نَبَذَ فكرة أنَّ العامل يبيع لربِّ العمل "عمله"؛ لأنَّه لو فَعَلها لأصبح "عَبْداً"، وكفَّ عن كونه "عاملاً مأجوراً"؛ وإذا كان ماركس قد أوضح، لكلَّ من له عين تُبْصِر، وأُذْن تسمع، وعقل يعقل، أنَّ العامل لا يبيع للرأسمالي "عمله"؛ وإنَّما "قوَّة عمله"، بصفة كونها "سلعة خاصة"، فهل من الحصافة في شيء أنْ "يكتشف" ماركس ما "اكتشفه" أعداؤه، فيقول، من ثمَّ، إنَّ "فِكْر" المؤلِّف هو "سلعة" كـ "قوَّة العمل"، يبيعها للرأسمالي الناشِر، مُضَمِّناً إيَّاها "القيمة الجديدة" التي تشتمل على "فائض القيمة"؟!
أجَلْ، كل القِطَط في الليل رمادية!
الظاهرة أبسط ممَّا يظنُّون؛ فأنتَ ألَّفْت كتاباً، بعته للناشِر الرأسمالي، فكافأكَ هذا بمبلغٍ من المال؛ وهذا المبلغ لا يمتُّ بصلة إلى مفهوميِّ "السلعة" أو "القيمة (التبادلية)".
أنتَ الآن أنْجَزْتَ ما عليكَ، وقبضت الثَّمن.
هذا الناشِر، وبصفة كونه رأسمالياً، لديه ما لدى كل رأسمالي؛ لديه آلات وأجهزة ومواد..، ولديه أيضاً ما يفي بالغرض من العمَّال.
"كتابكَ (العظيم)" هذا أصبح الآن على هيئة "سلعة" كمثل كل سلعة.
من "فائض القيمة" الذي أنتجه هؤلاء العمَّال أتى "الربح" للناشِر.
افْتَرِضْ أنَّ "القيمة الحقيقية" لكتابكَ (السلعة) تَعْدِل غراماً واحداً من الذهب (الخالص).
لكنَّ كتابكَ (السلعة) ولِعَظَمة مؤلِّفه بيع بـ "سعر يفوق قيمته (التبادلية)"؛ بيع، مثلاً بغرامين من الذهب؛ فهل أنْسِبُ هذا الفرق إلى "الروح" التي أدخلتها أنتَ في الكتاب أم إلى قانون "العرض والطلب" الذي يتأثَّر، أيضاً، بـ "الأهمية الفكرية" للكتاب (السلعة)؟!
ولتتذكَّر أنَّ ماركس لم يَغِبْ عن ذهنه أنَّ "السعر (المتأثِّر بقانون "العرض والطلب")" يمكن أنْ يزيد أو أنْ يقل عن "القيمة التبادلية" للسلعة؛ لكن هذا الفرق بين "السعر" و"القيمة (أو "السعر الطبيعي")" هو فرق نسبي، مؤقَّت.
حدَّثنا أحد أعداء ماركس عن "العصر الاقتصادي الجديد"، الذي فيه أصبح فكر ماركس كظِلٍّ فَقَدَ جسمه؛ فقال إنَّ المهندس أو العامل يستطيع وهو يقضي حاجته في المرحاض أنْ يدير مصنعاً يصنع سيارات المرسيدس ولو كان يبعد عنه 100 كيلومتر؛ ثمَّ يقول في لهجة قائل "وَجَدتها" إنَّ "الماركسية ماتت"؛ فـ "نظرية المرحاض" حلَّت محلَّها؛ فهل تعرَّفْتُم الآن إلى القائلين بموت الماركسية؟!
"اللغز"، لُغْز "مَصْدَر الرِّبح (في الرأسمالية)"، الذي حَلَّهُ ماركس، لم يُحَلَّ بَعْد في عقل هذا العدو الجاهل.
ثمَّة أشياء أخرى، على ما يقول، إيماناً واقتناعاً، تَصْنَع وتُنْتِج "القيمة"، و"فائض القيمة"؛ فـ "العمل"، لجهة خَلْقه "القيمة"، ليس بـ "خالِق لا شريك له".
أوَّلاً، لا بدَّ من توضيح وجلاء أمْر في منتهى الأهمية، هو الفَرْق بين "السِّعر" و"القيمة (التبادلية للسلعة)".
إنَّ "سِعْر" السلعة هو "التعبير النقدي عن قيمتها التبادلية"؛ وهذا "السِّعر" لا يكون دائماً مطابِقَاً لـ "قيمتها التبادلية"؛ فهو يَفُوقها تارةً، ويَقِلُّ عنها طوراً. ولقد سمَّى سميث السِّعر المطابِق للقيمة "السِّعر الطبيعي".
إنَّ "السِّلعة" تنطوي دائماً، وحتماً، على نوعين من "القيمة": "القيمة الاستعمالية (النَّفْعية)"، و"القيمة التبادلية".
و"السِّلعة"، بصفة كونها تنطوي على "قيمة تبادلية (متأتية من العمل المُخْتَزَن فيها)"، يجب أنْ يكون لها "سعر"؛ وهذا "السِّعر" يُقرِّره ويُحدِّده قانون "العرض والطلب"؛ فإذا تَوَازن "العرض" و"الطلب" بيعت السِّلْعة بـ "سعرها الطبيعي"؛ وإذا لم يتوازنا بيعت بسعر يزيد، أو يقل، عن قيمتها.
لكن ليس كل شيء له سِعْر يجب أنْ تكون له قيمة تبادلية؛ فـ "الأرض" لها سعر مع أنَّها ليست بشيء له قيمة تبادلية. وكثيرةٌ هي الأشياء (في الرأسمالية) التي لها أسعار؛ لكن ليس لها قِيَمٌ تبادلية.
ومع ارتفاع التركيب العضوي للرأسمال، "تزداد الإنتاجية"؛ فالعامل يُنْتِج في الساعة الواحدة من السلع نفسها أكثر؛ وتهبط قيمة كل سلعة؛ وتهبط قيمة "قوَّة العمل" بصفة كونها سلعة؛ وهذا لا يتناقض مع ارتفاع مستوى عيش العامل؛ وتزداد نسبة "العمل المجاني" إلى "العمل الضروري" في "يوم العمل"، وإنْ قَصُر؛ وتزداد نسبة "فائض القيمة" إلى "الرأسمال المتغيِّر"؛ وتتضاءل نسبة "فائض القيمة" إلى "الرأسمال الكلِّي"، أيْ يتراجع معدَّل الربح العام؛ وتتضاءل نسبة البروليتاريا (الخالقة للقيمة الجديدة) إلى مجموع السكَّان؛ ويزيد الحجم المطلق، والحجم النسبي، للسكان الذين يزاولون أعمالاً لا تخلق "قيمة جديدة"، لكنَّهم ينالون المكافآت المالية التي هي جزء مقتطع من "القيمة الجديدة".
لقد تمادوا في "غِيِّهم" فاعتبروا أنَّ ماركس، وفي مؤلَّفِه "رأس المال"، كان على ضلالٍ مبين؛ ولم يكن "عِلْميَّاً"، وإنَّما "مُغْرِضٌ"، في أفكاره، وفي طريقة تفكيره؛ فـ "الغَرَض" الكامِن في هذا "المؤلَّف" إنَّما كان إعداد العُدَّة النَّظرية والفكرية لإطاحة النِّظام الرأسمالي، ولو افتقرت هذه "الإطاحة"، والمساعي إليها، إلى "الحيثيات التاريخية الموضوعية"؛ فالنِّظام الرأسمالي، في فرضيتهم، يَضْرِب جذوره عميقاً في "واقِعٍ موضوعي متصالح معه"!
الرأسمالية هي التي ولدت ماركس، فاستولد من واقعها الاقتصادي ــ الاجتماعي فكراً، بسطه في مؤلَّفه الشهير "رأس المال"، فوعت وأدركت ذاتها على خير وجه.
إنَّها مصادفة صرف أنْ يظهر هذا الرجل في المكان الذي ظهر فيه (ألمانيا) وفي الزمان الذي ظهر فيه، وأن يكون يهودياً، وأن يكون اسمه كارل ماركس، وأن..، وأن..؛ لكنها ضرورة تاريخية أنْ يظهر مثيلاً له في الفكر، فلو لم يظهر ماركس نفسه لأنتجت الضرورة التاريخية مثيلاً له، يقوم مقامه، فالمهمَّات التاريخية العظيمة هي التي تصنع الرجال العظام، وكأنَّها تحبل بهم.
في البدء، تجاهلوه، ثمَّ سخروا منه، ثمَّ حاربوه، ثمَّ ينتصر (أقول "ينتصر" ولا أقول "انتصر"). لقد نعوه عشرات، بل مئات، بل آلاف المرات، وطبعوا، في العداء له، ما يفوق ما طبعه "مجلس الاحتياط الفدرالي" من "الورقة الخضراء" أضعافاً مضاعفة؛ ومع ذلك ظلوا في حوارٍ أبدي معه، وكأنَّ عصره وفكره لم ينتهيا بعد!
ماركس كتب مجلَّدات في النظام الرأسمالي؛ لكنه لم يكتب سوى بضعة سطور في النظام الاشتراكي؛ لأنَّه كان عدوُّاً لدوداً لكل فكر طوباوي؛ ولأنَّه لم يفهم المجتمع الجديد الاشتراكي إلاَّ بوصفه أحد خيارين تاريخيين، فالرأسمالية، على ما قال وتوقَّع، إمَّا أن تتقدَّم نحو الاشتراكية، وإمَّا أن تتقهقر، ومعها البشرية كافة، إلى عهود الوحشية، التي إنْ أردتم معرفة ماهيتها، وإدراك كنهها، فانظروا بالعين المجرَّدة من الأوهام إلى ما يسمُّونه "الرأسمالية الجديدة"، أو "الليبرالية الجديدة"، مع شريعتها، التي تسمى "نهاية التاريخ".
سقوط الاتحاد السوفياتي ظنُّوه سقوطاً لماركس، فقرَّروا إذلال هذا الرجل مع فكره بما يشبه الصفح عنه، فشرعوا يتساهلون في معاملة كل من يَذْكُر اسمه، أو يقرأ له، أو يكتب عنه، أو ينادي بأفكاره، وينحاز إليها، وكأنَّ الرعب الذي ألقاه في قلوبهم قد ولَّى وانتهى.
أمَّا قبل ذلك، أي عندما كان هذا الرعب يستبدُّ بهم، فكانت عبارة "اكرهوا ماركس!" هي جوهر وقوام خطابهم السياسي والإعلامي والفكري، فهو، في الصورة التي أظهروه فيها، الملحد الكافر، وهو اليهودي، والعدو اللدود للقومية، وهو الشرير الذي تبذر أفكاره بذور الاقتتال والحروب الأهلية، وتقوِّض السلم الأهلي، وتُفْسِد الفطرة التي خُلِق عليها الناس، وتناصب كل ملكية خاصة العداء ولو كانت ملكية صحن وملعقة؛ ولكن، ما أن تأكَّد لهم صلبه، فموته، فدفنه، حتى شغفوا حُبَّاً بـ "اليهودي الآخر"، أيْ اليهودي الصهيوني المهيمن في "وول ستريت" والكونغرس..
هذا الرجل ( كارل ماركس) وبشهادة حتى خصومه هو الحائز على ألقاب من قبيل "مفكِّر الألفية الثالثة"، و"أهم شخصية ألمانية على مرِّ العصور"، و"الشبح الذي عاد"، و"أعظم الفلاسفة في التاريخ".
حتى رجل الأعمال والسياسي الليبرالي الشهير جورج سوروس تحدَّث عن ماركس قائلاً: "لقد قرأتُ ماركس، فاكتشفتُ كثيراً من الصواب في فكره".
ونحن لو صرفنا النظر عن عداء ماركس للرأسمالية، لاكتشفنا أنَّه "الوعي الحقيقي" للنظام الاقتصادي الرأسمالي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وكأنَّ الرأسمالية لم تَعِ ذاتها على خير وجه إلاَّ من خلاله.
إنَّ "العمل"، وعلى ما أثبت وأكَّد تاريخ التطوُّر الرأسمالي، لا يعطي أبداً الشرعية للتملُّك الرأسمالي؛ فالعمل (والعمل المأجور في المقام الأوَّل) لا يُنْتِج رأسماليين، أي لا يحوِّل أبداً، وعلى وجه العموم، العامِل إلى رأسمالي. إنَّ العامل يجب أنْ يكون غير مالِك إلاَّ لقوَّة عمله، ويجب أنْ يظل ويبقى غير مالِك إلاَّ لها، مهما عمل وجَدَّ واجتهد وأبدع.
"العمل المأجور" لن يجعل صاحبه مالِكاً من النوع الرأسمالي؛ ويكاد أنْ يتحوَّل إلى ما يشبه "الصِّفَة الوراثية"؛ فابن العامل يصبح كأبيه، عاملاً مأجوراً.
في كتاب "رأس المال"، وفيه فحسب، يمكنك أن ترى الرأسمالية، والرأسمالية اليوم أيضاً، في حقيقتها العلمية، العارية من زخرف الثياب والقول، وأن تُدْرِك، من ثمَّ، أنَّ خير من حلَّل النظام الرأسمالي، وسبر غوره، واكتشف قوانينه الموضوعية، وفهمه فهما عميقاً واسعاً شاملاً، هو كارل ماركس، الذي تظل الرأسمالية في عصره ما ظلَّت على قيد الحياة.
لقد تحدَّى هذا الرجل، إذ جعل لفكره جذوراً عميقة في تربة العلم، كل زعماء الفكر الاقتصادي الرأسمالي أن يأتوا بتفسير علمي لـ "الربح الرأسمالي" غير التفسير الذي أتى به، والذي بفضله ظهرت "عدالة الأجر" على أنَّها الظُلم الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي وقد لبس لبوس "العدالة الرأسمالية".
قانون "العرض والطلب" نقَّاه ماركس من الخرافة، موضحاً أنَّ هذا القانون، وعلى أهميته، يفسِّر فحسب درجة انحراف السعر عن قيمة البضاعة؛ لكنه لا يستطيع أبداً أن يفسِّر تلك القيمة ذاتها؛ والدليل على صدق ذلك أنَّ توازن العرض والطلب هو لحظة بيع البضاعة بقيمتها؛ وبيع البضاعة بقيمتها إنَّما هو ذاته بيعها بربحٍ، فإذا كانت قيمة بضاعة ما هي حاصل جَمْع قيم كل البضائع المستهلَكة من أجل إنتاج تلك البضاعة فكيف يمكن، عندئذٍ، بيعها بربح عندما يتوازن العرض والطلب؟!
وحتى كتابة هذه السطور لم نسمع إجابة رأسمالية علمية ومُقْنِعة عن هذا السؤال ــ التحدي، الذي انطلق منه ماركس ليؤكِّد أنَّ جوهر الرأسمالية سيظل هو نفسه، وهو السعي لأمرين في آن: "الربح الأقصى" و"التراكم"، أي زيادة تركيز رأس المال.
لقد حلَّ ماركس، وفكَّ، لُغْز "مَصْدَر الربح"؛ فهل في مقدورهم "نفي" هذا "الحل" من غير أنْ يعيدوا إلباس "مَصْدَر الربح" لبوس "اللغز" مرَّة ثانيةً؟!