العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثالث


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4937 - 2015 / 9 / 26 - 20:12
المحور: الادب والفن     

كنا نصل إلى مصنع الأحاسيس باكرًا، فرادى أو جماعات، تمامًا كما كنا نغادره، ونحن نتدثر بمعاطفنا، كالسناجب في عاصفة بيضاء. وكان الجليد أخطبوطًا يرفع أصابعه، ثم يتركها تسقط، وتنشل، ولاقتلاعه، كنا كما لو نقتلع باخرة غرقى من أعماق البحر.
على بعد خطوتين من المصنع، في الضباب المتعارك مع المصابيح الغامضة، انطلقت نداءات واضحة:
- الحُلم، الحُلم!
نداءات المنقذين للغرقى، وكلما اقتربنا، كلما اختلطت أنفاسنا، والتحمت بأنفاس بائع الجريدة، لتذوب مع الصدى، وتزيد من مداه. لم يكن الشاب الذي اعتدت على رؤيته منذ شهور، كان لهذا شعر قصير وأسود، وقامة معتدلة ورشيقة، بوشاحٍ من الصوف الأحمر، معقودٍ حول عنقه، وكان يقفز من آن لآن، وهو يمد لنا الجريدة.
- الحُلم، يا رفيق! اشتر الحُلم! اشتر الحُلم!
على مسافة يسيرة من البوابة، ارتفع صوت أنثوي عذب، كموسيقى الثلج، أو كحَفنة من الثلج مرشوقة على وجه الشمس:
- اشتر الحُلم، يا رفيق! اشتر الحُلم!
لم أميز بوضوح ملامح الفتاة، مع روحات العمال وغدواتهم، لكنها بدت لي رقيقة رقة صوتها. توقف بعض العمال ليشتروا الجريدة، ثم مضوا متأنين، وهم يقرأونها تحت المصابيح.
- الحُلم، الحُلم، اشتر الحُلم! اشتر الحُلم...
وستيفان، مجنون المصنع:
- اشتر الحُلم! اشتر الحُلم!
دخلتُ الورشة، كان جورج الأشقر هناك، حياني بترداد ""تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم..."، وبواسطة مِحْجَنين، بدأ بترتيب خيوط النايلون المسحوبة على الآلات الواقفة. توزع عمال الشهوة في الورشات وفي الأقسام الجديدة التي لم ينه المهندسون بعد تركيبها، حيوا بعضهم، وتراشقوا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة ببعض الجمل:
- كيف نمت؟
- كيف تريدني أن أنام؟
- جيدًا، طيبًا.
- لم أنم جيدًا، يا ماخور! وأنت؟
- لم أنم جيدًا، أنا، أيضًا!
اثنان آخران:
- الجليد لا ينتهي!
- نعم، يا مومس الجليد!
- لا ينتهي!
ثالث:
- لم يعد الماء يسيل في المزاريب.
- ماذا يقول؟
- لم يعد الماء يسيل في المزاريب.
- جليد الغائط هذا سيستمر أيضًا طويلاً.
- مع ذلك تؤكد دائرة الأرصاد الجوية أن باريس ستعرف جليدًا أقل في الأيام القادمة.
- أنا لا أثق بدائرة الأرصاد الجوية.
- ولا أنا.
- طُز في دائرة الأرصاد الجوية!
- طُز وثم طُز!
اثنان كذلك:
- امرأتي تؤرقني طوال الليل...
- وماذا تريد امرأتك؟
- تؤرقني طوال الليل.
- هذا لأنك لا تكرس وقتك لها بما فيه الكفاية!
- امرأتي تؤرقني طوال الليل...
واثنان آخران أخيرًا:
- اتصل بالنقابة.
- لستُ من النقابة.
- استشرها على أي حال. هيه، بيير! رونيه في الغائط، نصحته بالتوجه إلى النقابة، بالرغم من أنه ليس نقابيًا.
- حسنًا. لا تنس الاجتماع بعد العمل.
- سنكون كلنا؟
- سنكون كلنا.
- سيهدمون قناة سان-مارتن، هذا أكيد.
- وهدم مصنعك سيكون بعد ذلك.
- مصنع تم تجديده، يا موووووووووووووومس!
- يريدون أن يبنوا ناطحات سحاب محله.
- ونحن، ماذا سيفعلون بنا؟
- سيلقون بنا في عُرْض الطريق كالغائط!
ثم دوى النفير إيذانًا ببدء العمل، ولم نعد نسمع سوى عجيج الآلات الجبارة التي تبتلع مادة الكابرولاكتام المشتقة من النفط، والتي تحولها إلى مادة جامدة، لتشكل كيلومترات من خيوط النايلون، خيوط أرق من أشعة الضوء.

* * *

في الكانتين، قلت لجورج الأشقر إنني أحتاج إلى بعض النقود حتى آخر الشهر، فأخرج لي في الحال ثمانمائة فرنك:
- نحن إخوان، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم!
لم أكن آمل بمبلغ بهذا القدر، قال بابتسامة يسيرة إنه يخبئها للأيام الصعبة، فلا أحد في منجى! قلت لنفسي لم تكن الأمور على مثل هذا السواد، كل شيء كان غاليًا بصورة مدوِّخة، كل شيء كان غاليًا بفظاعة، لرواتبنا، مقابل واجباتنا واحتياجاتنا اليومية، كنا نعيش أيامًا مستحيلة. لم يكن جورج يفكر بالطريقة نفسها، أو بالأحرى، كان يرمي إلى شيء آخر. كان يريد أن يقول لي إنه يدخر نقودًا لأجل مآسٍ محتملة: مرض مفاجئ، موت مباغت، أو حتى رغبة، مغامرة عابرة.
أعارني المارتينيكي المائتي فرنك الباقيتين، وألح على إرجاعهما عند نهاية الشهر:
- هكذا أو لا شيء، يا مومس الغائط!
وعدته بذلك، وأنا أقول لنفسي إن إلحاحه يعني حاجته الماسة، إنه يعيش بالفعل، من وجهة نظر مالية، عيشة مومس. كنت على وشك أن أعيدهما إليه لأطلبهما من شارل، شيخ عمال الشهوة، الذي يكسب ضعفنا، نحن الشبان، بسبب أقدميته. كان بإمكانه أن يعيرني إياهما، المائتي فرنك هاتين، رغم أعبائه العديدة. لكن، في الحانة الصغيرة، المجاورة لمصنع الأحاسيس، حيث نذهب لنأخذ قهوتنا، أدهشني المارتينيكي. راهن على الأحصنة الثلاثة الأولى بمائة فرنك دفعة واحدة! كان واثقًا من الربح ثقتي بأن بلاده المارتينيك!
- سأربح الأحصنة الثلاثة الأولى حسب تسلسلها، هذه المرة، يا رجال، وإلا فلن يكون اسمي المارتينيكي، يا مومس الغائط! قال لنا.
ثم جرع قهوته بالروم دفعة واحدة، وذهب ليلعب الفليبر مع بعض الأصحاب.
وأنا أعود إلى الرَّدْب، في المساء، لاحظت أن البرتغالي يسحب ستارة نافذته ليرى من القادم، ويبقى هكذا دون حراك. كان يرجع من العمل قبل الجميع! طرقت الباب على حسين، فوجدت عادل. طننت، للحظة، أنني أخطأت الحجرة. غدت أكثر اتساعًا، بعد إلقاء الثياب المتدلية من السقف في زاوية. أدخلني عادل موضحًا لي أنه هنا منذ مدة طويلة، وأن حسين قد ذهب لشراء بعض قناني البيرة، لكنه تأخر، من المحتمل لأنها ساعة الإغلاق، ولا بد أنه ذهب بعيدًا بحثًا عنها عند الشمال الإفريقيين، الوحيدين الذين يبقون فاتحين حتى ساعة متأخرة من الليل. أضاف، كمن يعتذر، أنه وحسين أرادا أن يحكيا.
- لا يستطيع حسين أن يحكي دون بيرة، علق عادل.
- عندي قنينة بيرة وقليل من النبيذ، قلت له.
- قنينة لا تكفي الكحولي الذي هو الغبي حسين، وأنا لا أحب النبيذ.
- لأنك تريد أن تشرب، أنت أيضًا؟
- لأحتمل كل هذه المخرأة، هذا طبيعي، ولأكابد منطق غاسل أوان غائطي. أي نوع من النبيذ عندك؟
- نبيذ عادي.
- آه! إذا شربت نبيذًا، فلن يكون عاديًا، أنا أشرب البوجوليه، بشرط أن يكون جديدًا. عندما يكون جديدًا، يكون خفيفًا. أو الروزيه، لأنه خفيف كذلك.
مد لي كرسيًا من القش مثقوبًا:
- اجلس.
- ربما سيتأخر، سأعود.
- لا، لن يتأخر.
جلست، وجلس بدوره، على السرير الذي لا يعرف الترتيب، وبقدمه راح يدحدل قنينة فارغة كانت ترتد قرب قدمه. سألته متى سيقدم أطروحته.
- قريبًا، أجاب.
كان جوابه الأبدي على هذا السؤال. أخبرني كذلك أنه يعد عدته لكتابة كتاب عن الطبقة العاملة، الوحيدة القادرة على حل كل المشاكل.
- هل عليّ أن أفهم من كلامك أنك قطعت كتابة أطروحتك؟
نفى بشدة:
- من اللازم أن تفهم أن الطبقة العاملة صلب موضوعي. طبعًا، أقوم بأبحاث في الفلسفة، لكن في فلسفة العمل، المخصصة للدفاع عن عمال الشهوة خاصة. ولماذا تراني بينكم؟ أنا أعيش في هذه المخرأة لأستمد القوة على الخلق، وإلا لِمَ بقائي هنا كل هذه السنوات؟ هل تعتقد أنني غير قادر على إيجاد غرفة مريحة، في الحي الجامعي؟ أو استئجار أستوديو مناسب، في أحسن أحياء باريس؟
- وماذا ستكتب عن العمال؟
- كل شيء.
- كل شيء؟
- نعم، كل شيء.
- وماذا ستقول؟
- برجوازية الاحتقار لن تكون سعيدة من المضمون. على أي حال، سيعمل هذا الكتاب ضجة كبيرة.
- هاءَنذا، قال حسين.
دفع الباب بقدمه، وهو يضم إلى صدره كيسين من قناني البيرة.
- رأس المال، الفاقد الحس أمام الأحاسيس، تابع عادل، عدوكم الأخير! للتحرر من ربقته، يجب امتلاك أدوات الشهوة، بمعنى القضاء على الملكية الخاصة، وإعلان الملكية العامة. للوصول إلى هذا الهدف، عليكم أن تقوموا بثورة الأخلاق.
لم أفهم ما يعني:
- علينا أن نقوم...
قال حسين:
- عليك أن تشقى للحصول على قنينة بيرة عند أولئك الشمال الإفريقيين الشراميط!
تجاهله عادل تمام التجاهل:
- وإلا، فسيكون الوقت متأخرًا. لماذا؟ انظر إلى الأحوال كم تدهورت، الجمود الاقتصادي، الجمود الاقتصادي، الجمود الاقتصادي! بورجوازية الاحتقار مرتبكة، تائهة، تلهث تعبًا، لم تعد تتحكم في مقاليد السلطة. ستقول لي: وماذا إذن؟
- وماذا إذن؟
- كما قال حسين، الأكثر ذكاءً، الأكثر اعتدالاً بين سكان مخرأة الرَّدْب هذا، الثورة هي الحل الوحيد!
خلال ذلك، صب حسين البيرة في ثلاث كؤوس، لكني رفضت عرضه، متعللاً بعدم تناولي طعام العشاء، فقال لي بابتسامة ملحة:
- لا تكن مغفلاً! لا أحد تناول طعام العشاء بعد.
رغم ذلك، لم أشرب. قلت له إن معي ما طلبه مني، وخوفًا من إحراجه أمام عادل، طلبت منه اصطحابي إلى الخارج. سخر بي، وأخذ مني النقود بوقاحة. رأيته، وهو يمد مائة فرنك إلى عادل، دون أن يقيم لي وزنًا. قلت له من اللازم أن يرد النقود عند آخر الشهر، فطمأنني، وأخذ يحلف الأيمان المُغَلَّظة لأشرب. أخذت جرعة وجدتها ساخنة وكريهة الرائحة، وسألته إن كان سيذهب إلى العمل هذا المساء.
- يا شرموطة العمل! قال. لنننننننننننننننن أذهب!
قال عادل إنه سينتهي به المطاف إلى الطرد، فقال حسين إنه سيعود طبيبًا للحصول على شهادة طبية، وأشار بإصبعه إلى ناحية الطبيب البيطري في الرَّدْب، فانفجرنا ضاحكين.
نهضتُ، إلا أنه واصل حلف الأيمان المُغَلَّظة لأنهي كأسي، فجرعتها دفعة واحدة كي أخلص. وأنا في الرَّدْب، أحسست بالدوار، ورغم الضباب الخفيف، لم ألاحظ حضور ماري إلا وهي قريبة مني، ولم أفطن إلى تحيتها إلا وهي صارت بعيدة أمامي. يا للخيبة! كل هذا بسبب بيرة حسين وثرثرته المدوِّخة.
وأنا أضع قدمي على الدرجة الأولى، رفعت رأسي، ورأيت ساقيها البيضاوين. تابعت برغبة ثنيةَ خصرِهَا الرخص، وشعرت بشهوتي، وهي تتصاعد. بحثت عن مفتاحي، لكنها كانت قد فتحت بابها.
- ليلة سعيدة، قلت لها، قبل أن تدخل.


يتبع القسم الأول الفصل الرابع