التظاهرات الحالية في العراق مقدمة لمسار سياسي جديد -3-


فلاح علوان
الحوار المتمدن - العدد: 4927 - 2015 / 9 / 16 - 22:09
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     


بالرغم من ان موجة احتجاجات عمالية واسعة بوجه سياسة التقشف والخصخصة قد انطلقت منذ الثلث الاخير من عام 2014 وبلا توقف، و رفعت شعارات مواجهة الفساد، ورغم اجبار وزير الصناعة على الاستقالة بفعل ضغط التظاهرات، الا ان العمال لم يطرحوا سياسة عامة للمجتمع، وساد الطابع المطلبي على الحركة. ان حركة العمال كانت مواجهة مع السياسات الحكومية، ولكن القطاعات العمالية الواسعة ظلت تتظاهر على انفراد، ولم تنخرط في عمل موحد، كما ان ارتباطها بالحركة الحالية لم يؤمن حضورا سياسيا مستقلا للعمال كطبقة اجتماعية، بل شاركوا كجمهور ضمن التجمعات العامة.
والحال لا يمكن تقوية وتجذر الحركة الشعبية الاحتجاجية من خلال تبنيها مطالب اقتصادية مباشرة كتلك التي يرفعها العمال في مصانعهم، كما لا يمكن ربط النضال العمالي الاقتصادي بالنضال السياسي عن طريق ترديد الشعارات الشعبية العامة. هذه العقدة يعاني منها اليسار ليس في العراق فحسب، بل في العديد من الاقطار. وهو ما يطغى على سياسة اليسار حين ينهج سياسة تريديونيونية خلال النضال العمالي، ويرفع شعارات شعبوية في النضال الاجتماعي لعموم الجماهير، اي عدم القدرة على الربط بين النضال الاجتماعي والعمل السياسي. وليس لديه برنامج عام يحدد محور الازمة والقوى القادرة على حل معظلة المجتمع، وربط الحاجات المباشرة بالنضال العام السياسي. كما ان وجود المثقفين الليبرالين والديمقراطيين على رأس التظاهرات الحالية ليس عديم النفع بل ضار كذلك، ونستعير هنا من تروتسكي قوله بهذا الخصوص " لم يكن لدى المثقفين الديمقراطيين بصورة عامة قاعدة اجتماعية صلبة، وكان بوسعهم تحقيق تأثير سياسي مؤقت، ولكنه كان يتعذر عليهم ان يلعبوا دورا مستقلا نظراَ لتزايد خضوع المثقفين لليبرالية البرجوازية" تروتسكي - تاريخ الثورة الروسية. ان عدم تبلور سياسة طبقية عامة في صفوف العمال يعود لاسباب تاريخية وسياسية، وان تطور هذا الاتجاه يتحقق خلال الخبرات المكتسبة في الاحتجاجات والانتفاضات، وفي نضج الممثلين السياسيين للطبقات الكادحة ودورهم.
البرجوازية في العراق ليس من مصلحتها تطور صناعات حديثة واسعة وتطور طبقة عاملة صناعية مقتدرة، ان جزء من هذا الواقع يعود لعوامل تاريخية تتعلق بتخلف الراسمال الصناعي الخاص في العراق، الامر الذي قاد الى تولي الدولة للصناعات الواسعة والكبيرة. اما البرجوازية التجارية فقد كانت مثالا للكومبرادورية، والتي ارتبط ازدهارها بارتباطها بالتجارة مع الراسمال العالمي، وهي من دعاة تقوية الارتباط بالامبريالية على طول تاريخها، كون العراق لم يكن مصدّرا للمنتجات الصناعية، وان صادراته الاساسية هي النفط والمواد الاولية، الاولى تدار من الدولة والاحتكارات العالمية، والثانية تتطلب التخلف الصناعي لكي يتم تصديرها كمواد خام. ان من مظاهر ارتباط الرأسمال التجاري ودعمه من قبل الامبريالية، ان ساهم ممثلو الرأسمال المحدثين في السلطة في تحويل الصناعة النفطية في العراق بعد 2003 من صناعة الى تجارة، والاحرى الى منحة الى الاحتكارات العالمية المرتبطة بالامبريالية الامريكية والبريطانية مقابل تأمين استمرارهم في السلطة. وعليه لم تطور البرجوازية في العراق تقاليد تمكنها من تشكيل احزاب ديمقراطية على قاعدة اجتماعية راسخة، ولم تستطع تطوير نموذج سياسي شامل، وبالتالي ليس بمقدورها اقامة نظام سياسي موحد للبلاد.
ومن هنا يأتي تبني الاسلام السياسي كأيديولوجية للطبقة البرجوازية الحاكمة، وبلورة مؤسسات ساندة على اساسه، لغرض تأمين السلطة الحالية للبرجوازية والحيلولة دون انتزاعها من قبل الشعب، وكوسيلة لاخضاع المجتمع تحت طائلة التهديد بالالحاد والعقاب للمخالفين. ان الدين السياسي لا يردع المطالبين بالسلطة عن طريق الايمان او العقائد، بل كقوة ترهب الافراد وتخضع المجتمع.
لقد طورت العشائرية البطريركية شبه الاقطاعية، التقاليد الاكثر رسوخا من بين كل الطبقات الاجتماعية المسيطرة او الحاكمة في تاريخ العراق الحديث، مثل البرجوازية الصناعية والتجارية المزدهرة قياسا بالبرجوازية الصناعية والعقارية، عدا البرجوازية الصغيرة والحرفية التي لها تقاليدها التي تحافظ بها على كيانها، وفئة البيروقراطية الحكومية والطغمة العسكرية المنظمة تنظيما جيدا وصارما. ان تقاليد العشائرية لا تقتصر على فئة المالكين او المتسلطين، انها تمتد لتفرض نفسها بقوة على الفلاحين، كخاضعين لهذه المنظومة القيمية، ومن هنا خطورتها، حيث ان تأثيرها يطال القسم الاعظم من البروليتاريا المتحدرة من اصول ريفية.

سنقول مع ماركس، ان مفتاح فهم الشرق وسماء الشرق هي مسألة ملكية الارض.
ان مصدر قوة العشائرية وسبب تماسكها في نفس الوقت، هو ارتباطها بملكية الارض، او الاحرى الاستحواذ والسيطرة على الارض. ان الاراضي الزراعية في العراق هي اراضي ميرية اي ليست ملكية خاصة، وخاصة الاراضي غير المزروعة بالنخيل او الاشجار الدائمة وفق نظام المغارسة، ومع ضعف الدولة العثمانية شهد الفترة الممتدة من اواسط القرن التاسع عشر الى اواسط القرن العشرين، حروبا ضارية للاستيلاء على الاراضي وأجلاء ساكنيها او قتلهم او اخضاعهم. لقد كانت الاراضي تؤجر للشيوخ والمستأجرين من الدولة العثمانية بمزاد سنوي، ولكن الاستعمار البريطاني سهل سيطرة هؤلاء الاقطاعيين واعفاهم من العديد من الالتزامات مقابل تأمين سيطرتهم على المجتمع الفلاحي وقمع الانتفاضات الفلاحية. ان تقاليد الغزو والاستحواذ هذه، لم تقتصر على الارض وهي الاساس الاقتصادي في المجتمع الزراعي الاقطاعي، لقد صارت ثقافة وتقليد، وقد ترسخت كشكل السيطرة والاستملاك، اخذت تطال النظام السياسي، او الاحرى تأمين نصيب في النظام السياسي عبر قوة نفوذ هؤلاء الاسياد القادرين على حشد جيوش من المقاتلين الفلاحين المعدمين في حروبهم ونزاعاتهم وفي تامين نفوذهم.
كانت الملكية او السيطرة عرضة للتبدل بالغزو والاستيلاء، وخاصة الارض وليس هناك مؤسسات حقوقية او دستورية قانونية او حتى عرفية تسجل او تحمي عائدية الارض. وهنا منشأ الضرورة للتظافر بين المستحوذ - الاقطاعي و رجل الدين الذي يمنح الاول التبرير والمباركة ويسبغ عليه الحق بالسيادة مقابل نصيب السيد او رجل الدين من الحاصل او الوارد، انها ثنائية لا فكاك لها، لا الاول يستطيع الاستملاك وصيانة ممتلكاته، ولا الثاني يستطيع تأمين وجوده واستمراره دون عوائد يؤمنها له الاول. انه ليس تظافر انها وحدة يستدعي احد قطبيها القطب الاخر.
لقد تغير موقع شيوخ الاقطاع جوهريا وفورا بعد قيام الجمهورية وتشريع الاصلاح الزراعي، حيث فقد الشيوخ في ساعات مكانتهم القديمة، عندما انضم الفلاحون الى الجمهورية وهاجموا الشيوخ. الا ان الروابط العشائرية لم تتعرض لثورة اجتماعية تعيد تشكيل بناء فوقي اخلاقي، قيمي، سياسي. ومع تراجع الدولة المركزية القومية اوائل التسعينيات، انتعش العشائريون ثانية، مدعومين من النظام الذي احتاجهم لتأمين السيطرة على المجتمع، مستخدمين البنية العشائرية ولكن هذه المرة ليس للسيطرة على الارض بل لوظائف اخرى، اي تأمين المراكز الاجتماعية والسياسية داخل الدولة.
لقد طورت العشائر خلال سيادتها، تقاليد شبه عسكرية ذكورية صارمة بين الفلاحين، مع اخضاع تام للمرأة التي كانت تعمل اكثر من الرجل بكثير في البيت والحقل وتربية المواشي والدواجن والانجاب واعداد نسل جديد، والمساهمة في المعارك في اعداد البنادق والاعتدة، عدا الاشتراك في القرار.
وحيث ان انتاج وتصدير الحبوب كان يمثل مركز التجارة العراقي، خلال العهد الملكي، فلقد اكتسب الشيوخ قدرات هائلة وسيطرة شبه مطلقة على حياة الفلاحين، وخاصة المناطق التي تنتج الحبوب مثل العمارة والديوانية، وبنوا تنظيما شرسا قاسيا من الولاءات العشائرية حول مراكزهم، وكان القسر غير الاقتصادي وسيلة بيدهم، اي القسر القائم على البطريركية وصلة الدم والتأثير المعنوي، وكانت النزاعات مع باقي العشائر حول الارض سببا مباشرا في عسكرة العشائر وتعصبها الشديد حول بنيانها. لم يك العاملون في الزراعة في العراق اقنانا، ولم يكونوا فلاحين، لقد كانوا بالاحرى عمالا بالسخرة، وكان الفلاح يقترض طعامه للسنة القادمة ويستهلكه مقدما، بحيث يعمل طول العام كرهينة، وكان التقصير في سداد الحاصل يتسبب بعقوبات تتجاوز ما يتعرض له السياسيون المعارضون في احيان كثيرة. وليس الغرض هنا هو البحث التاريخي في اوضاع الفلاحين وخاصة في جنوب العراق، ولكن المسألة تتعلق بالتقاليد التي شكلت اساسا لنمو واتساع تأثير التيارات السياسية في اوساط الطبقة العاملة.
من تلك البروليتاريا المنزوعة الملكية والمعدمة، نشأ القسم الاكبر من الطبقة العاملة في العراق منذ اواخر الاربعينيات، وتعد اهم واكبر المدن المسماة الطاردة للسكان هي الديوانية والعمارة، وهي المدن التي اشتهرت بزراعة الحبوب. ان نظرة بسيطة الى جمهور العمال في اكبر مدينتين، اي بغداد والبصرة، تبين ان العمال المنحدرين من الريف وخاصة ريف العمارة يشكلون النسبة الاكبر بين عمال المدينتين.
امتازت البروليتاريا المتحدرة من اصول ريفية بحملها عبئا ثقيلا من الماضي وتطلعها للتحرر من استعباد طبقي اجتماعي ثقافي باهظ، وامتازت كذلك بالتحول السريع في تبني التيارات السياسية، من يسارية الى قومية بدرجة او بأخرى ثم التيارات الاسلامية، بصورة عامة وليس باطلاق. لقد عملت الاتجاهات السياسية على الاعتماد على جموع هذه البروليتاريا كرافعة بيدها لتقوية مواقعها السياسية، والتحدث عن مظلومية هذه الجموع وفقرها وعوزها، ولكنها لم تلعب دور ممثل مصالحها الطبقية الفعلية، ومقابل هذا قدم العمال قوافل من التضحيات خلال عشرات السنين.
واذا اردنا ان نردد قول هيكًل مع بعض التحفظات " ان الفلاحين يسيرون وراء الزعيم لا وراء الافكار" فان الامر صحيح من زاوية بعينها. ان البروليتاريا المنحدرة من اصول ريفية كفت عن ان تكون عشائرية وريفية من حيث اسلوب الانتاج والمعيشة، ولكنها لم تطور تقاليد طبقة عمالية تفصلها ايديولوجيا عن الماضي القبلي.
ان ريف العمارة الذي ينحدر منه قسم كبير جدا من العمال في البصرة وبغداد بخاصة، والروابط العشائرية التي تغذت وتقوت بتراجع الدولة، يشكل مستودعا للروح المحافظة ولتقاليد التمرد في الوقت نفسه، ويترك تأثيرا على الطبقة العاملة في المدن الرئيسية المذكورة، وعلى مجمل المجتمع في المدن المشار اليها، وان حسم هذا الامر هو في تشكّل هذه البروليتاريا المعدمة المتمردة، في طبقة اجتماعية وقطع الروابط مع ارث مستعبديها في الماضي القريب. هذا البحث سنعود اليه في مكان اخر، باعتباره يشكل زبدة وخلاصة فهم الجذر الطبقي والنفسي لهذه الجموع، والتي تشكل ميدانا لعمل العديد من التيارات الاسلامية الحالية والتي تستند بالدرجة الاساس اليهم كجموع هائلة، و كسند سياسي واجتماعي لسلطتها.
مجموع القيم والتقاليد والاعراف والاخلاق العشائرية منظورا اليها كمنظومة، تشكل ما سأسميه "جبلة" لعدم وجود تعبير متداول معبر، تسم الفرد الخاضع لهذه المنظومة، وتتجلى في سلوكه وافكاره وقيمه وتعامله ومنطقه ونظرته للحياة وضميره، وهي لا تقتصر على شعب او مجموعة ثقافية دون سواها. ان هذه الجبلة هي انسان الماضي بهيئة جسد معاصر يتحرك ويتفاعل ويمارس قيمه وطباعه. ان النعرة التي تختزن كل هذا النظام الغابر يمكن احياؤها من قبل القوى المحافظة او الرجعية التي تريد تحويل هذه القيم الى رافعة بيدها من اجل النفوذ والسيطرة والتحكم.
لم يطور الفلاح المستبعد قيمه وتقاليده، لان طبقة الفلاحين ولدت وانتهت خاضعة، ما عدا بعض الهبّات والانتفاضات، ولم تبن ثقافتها وتقاليدها كطبقة اجتماعية بمعزل عن او باستقلال عن قيم الشيوخ، اي الطبقة المسيطرة. ان الفلاح ينتحل شخصية "الشيخ" ولباسه وطريقة حديثه وطريقة تحيته ما امكنه ذلك. هذه "الجبلة" هي انعكاس لمجموعة العلاقات المتناقضة والمعقدة في المجتمع الريفي، من مشاعية الارض وسيطرة الشيوخ عليها، و تحول القرابة الى وسيلة استعباد على ايدي الشيخ العام، من البساطة الظاهرية شبه المشاعية في السلوك الى اللجوء للعنف والقسوة بفضاضة في مجرى الحياة اليومية، ان فهم هذه الجبلة هو مفتاح حل الغموض الذي ترك العديد من الاسئلة التاريخية مفتوحة.
لا يقتصر دور العشائرية على الابقاء على البنى الفوقية القيمية والاخلاقية، بل يجري اعتماد نهج استبعادي او اقصائي في مواجهة من يتبنى فكرا او نمطاَ غير العشائري، وخاصة الفكر الاشتراكي او اليساري، حيث يجري تغريب الانسان الذي يخرج عن دائرة المنظومة العشائرية وعزله نفسيا وشخصيا، عدا الانخراط في الاحزاب الحاكمة او ذات النفوذ. وفي هذا تلعب العشائرية دورا قامعا يتخطى دور الرقيب السياسي او المؤسسات القمعية من الناحية الاجتماعية والتاريخية. ان الاقتدار الذي حققه شيوخ الاقطاع خلال عقود او قرون، جاء عبر السيطرة بالقوة وانتزاع اراضي الغير، والاقتتال على الزعامة التي تصل حد قتل الاخ والعم لتولي رئاسة القبيلة. ان تحليل اساس السيطرة ووسائلها والمسار التاريخي الذي اتخذته، ونزع الصفة الصنمية والهالة المهيبة التي يحاط بها امراء الاقطاع واسلافهم وأخلافهم، سينزع اهم اسلحة القمع الروحي والفكري، التي كبلت الفلاح، ومن بعده البروليتاريا المتحدرة عنه. ان الاستيلاء التاريخي على الاراضي المشاعية قد جرى عبر القوة المنظمة من قبل شيوخ وامراء، وتحول هذه العملية الى سيطرة ومكانة متوارثة، ووسيلة للهيمنة على المواقع الرئيسية في السلطة والاستحواذ على الثروة، وان وقود كل تلك العمليات التاريخية كان الفلاحون المعدمون. ان استعادة الثروة المنهوبة والسلطة المستحوذ عليها والمكانة السياسية المحتكرة، وانهاء تقسيم المجتمع الى طبقات معدمة وطبقة متخمة، هو بالقوة المنظمة ايظا، ولكن من قبل المقهورين المستغلين منذ عقود وقرون، باستعادة ما نهب منهم خلال عقود، بتحويل جهاز الدولة من وسيلة بيد الطبقات المتخمة الفاسدة الى ايدي البروليتاريا المعدمة، التي استمرت تقدم عشرات الالاف من المضحين بانفسهم طول صراعها الطبقي الطويل. هذا الكلام بحاجة الى صياغة برنامج سياسي كامل.
ان التطور السياسي للبروليتاريا المنحدرة من اصول ريفية هو ما سيفقد القوى الحاكمة الحالية والتيارات السياسية النافذة في السلطة والمجتمع قاعدتها ومرتكزها وسندها الاجتماعي.
يتبع
15-09-2015