الوزير والفساد المؤسسي والنخبوي في مصر


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 4922 - 2015 / 9 / 11 - 20:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ياسين المصري

كتبت "بوابة يناير" الإليكترونية صباح يوم الثلاثاء 8//9/2015 عن أنَّ "أهم ثلاثة معايير لاختيار الوزراء في بلدنا هي : رضا الرئيس !"
وقالت:
"قبل أي تعديل وزاري تسمع جملة جامعة مانعة ” التقارير أثبتت كفاءته ونزاهته ”، بما يعني أن هناك تأكيدات قبل أي اختيار للمسئولين والوزراء أن هناك تقارير قد تمت وأن تلك التقارير أثبتت أن المرشح للمنصب العام كفء وذمته المالية نظيفة ولا يوجد ما يثير الشبهات حوله ..
بعدها بأيام أو شهور أو حتي سنوات نفاجأ جميعا بهذا المسئول النزيه وهو يدخل قاعة المحكمة أو يجلس أمام رئيس النيابة ليرد عن اسئلة تتعلق باتهامات بالرشوي والفساد والاستيلاء علي المال العام، هنا المعني شيء من اثنين :
إما أن التقارير الأولي التي اثبتت نزاهة الرجل كانت كاذبة وملفقة وغير دقيقة ، أو أن السلطة نفسها في مصر تغري بالفساد والاستيلاء علي المال العام ..
و هنا نعود للسؤال الأول : ما هي المعايير ؟؟ فرغم كل التقارير فإن الثابت الأكيد أن المعيار الأهم لاختيار المسئولين في مصر هو رضا الرئيس لذلك فلا معايير أساسا !
فإذا كانت التقارير تكفي فقد ثبت بالدليل أنها ليست كذلك ، فكل يوم يسقط مسئول كبير أكدت التقارير أنه نزيه وشريف ، لاحظ أن هذه التقارير هي تقارير أمنية فقط ، فالوطن يدار عن طريق الأمن بالكامل .. أما إذا كانت المعايير هي الكفاءة فهو أمر طبيعي ومطلوب إلا أن الثابت أن الكفاءة وحدها بدون رضا الرئيس لا تكفي في بلدنا أيضا ..
المعيار الوحيد للاختيار في مصر هو رضا الرئيس و الأجهزة الأمنية !
معايير اختيار الوزراء في أي دولة في العالم هي الكفاءة فهي لا تهتم بالتوجه السياسي أو الفكري أو مدي رضا الرئيس عن المرشح للمنصب العام ، وبعد الاختيار تضع الدولة المسئول تحت رقابة صارمة من أجهزة رقابية ومن الشعب ووسائل الإعلام لذلك لا يفسد المسئول ، أما في مصر فإن المعيار الأهم و الأبرز هو رضا الأجهزة الأمنية وقبل كل هذا وبعده رضا الرئيس ، لذلك لا نتفاجأ جميعنا بسقوط السيد المسئول الذي دخل إلي السلطة فتحول إلي موظف كل ما يهمه هو إرضاء الرئيس ، وبعدها من حقه ان يفعل ما يشاء .. مهما أفسد !"

وفي نفس اليوم كتب الأستاذ الجليل كما غبريال مقالا بعنوان " إطلالة على قصة الفساد في مصر" نُشِر على هذا الموقع:
http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=483872
فـنَّـد فيها فيه باختصار وبموضوعية شديدة جذور الفساد في مصر، منذ إنقلاب "المغامرين الأشرار" عام 1952، وأسباب تفشيه وطرق معالجته، وقال إن: "مشكلة الفساد المصري فيما نرى خلفها ثلاثة عوامل:
العامل الأول هو ضعف مقاومة الشخصية المصرية للفساد، يكاد لا يكون لنا حيلة فيه على المدى القصير، وأقصى ما نطمح إليه أن ينجب لنا المستقبل، في ضوء تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أجيال أكثر مقاومة للفساد.

والعامل الثاني هو هيمنة الجهاز البيروقراطي، نستطيع البدء فوراً في معالجته، إذا ما صدقنا التوجه المنفتح باتجاه الرأسمالية والسوق الحر، بتقليص هيمنة الدولة وجهازها البيروقراطي على الحياة الاقتصادية. هذا بالطبع يتعارض مع ما يتم الآن جهاراً نهاراً، من إضافة سيطرة القوات المسلحة على الاقتصاد المصري، بالإضافة إلى سيطرة الجهاز البيروقراطي العتيد.

والعامل الثالث الذي يؤدي لاستشراء الفساد، وهو طبيعة النظام السياسي، ليس لنا أن نأمل في معالجته على المدى القصير، ولا نستطيع أن نتركه للمدى الطويل، نظراً لشدة خطورة تأثيره، لذا يتوجب علينا السعي للزحف التدريجي، باتجاه تأسيس حكم ديموقراطي شفاف، يقوم على السيادة التامة الكاملة للقانون.

وخلص سيادته إلى القول: "هي إذن ليست قصة فساد أفراد، كذلك الذي نراه، حتى في أكثر الدول حضارة وحرية وشفافية. هي قصة فساد شعب، وفساد ثقافة، وفساد نظم اجتماعية واقتصادية وسياسية."

إن التساؤل الأهم والأشمل هنا هو لماذا يفسد شعب بأكمله، وتفسد ثقافة بالعموم، وتفسد النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مجملها؟

لا يوجد إنسان فاسد بالفطرة، أو بالوراثة. الفساد قد يُعَبِّر عن انحراف مرضي، أو يكون نتيجة مكتسبة تفرضها الظروف التي يعيش فيها الأنسان، كنوع من السلوك المنحرف في محاولتة التأقلم معها، ويعم الفساد تدريجيا حتى يصبح سمة عامة لمجتمع بكامله، خاصة عندما يخضع هذا الشعب لمؤسسات ونخب فاسدة لمدة طويلة من الزمن، ولا تتوفر لديه الوسيلة لتغييرها.

لا شك أن العامل الأساسي في قصص الفساد في مصر هو فساد مؤسساتي ونخبوي، فعندما خضعت البلاد لحكم عسكر فاشلين في عملهم الأصلي، ويجهلون تمامًا العمل السياسي، ومن ثم دفعوا بالبلاد إلى مغامرات عشوائية على المستوى الداخلي والخارجي، وعمدوا إلى تقليب طبقات المجتمع، وطرد بعضها ومزج بعضها الآخر، مما أدّى إلى تقليص الطبقة الوسطى إلى الحد الأدنى، وهي الطبقة التى يعتمد عليها الحكم الرشيد أولا وأخيرًا. حدث نوع من التسيُّب والفوضى على كافة المستويات، وأصبحت مقومات الدولة سداح مداح كما يقال، فمفهوم "الاشتراكية" التي زعم عبد الناصر أنه يطبقها أكد المثل الشعبي "المال السايب يعلم السرقة" وسمعنا من يقول "ياعم دي اشتراكية" بمعنى تعلم السرقة وشارك فيها. وجاء السادات وقال "من لا يغتني في عصري لن يغتني أبد"، فأصاب المجتمع بالفزع واللهث وراء المادة مهما كان الثمن.

من المعروف سياسيا أن مراحل التغيير الجوهرية في النظم السياسية يصاحبها عادة حالة من التسيُّب أو الفوضى قد تستمر فترة من الزمن تطول أو تقصر قبل أن تعود الأوضاع مرة أخرى إلى استقرارها. ولكن في حالة مصر إستمر التسيُّب، بل وازداد بمرور الزمن وبتغير الأوضاع مرة أخرى في أقل من ربع قرن، باستيلاء السادات على مقاليد الحكم في البلاد وتغيير النهج السياسي 180 درجة من الاشتراكية الوهمية إلى الرأسمالية الأكثر سلاحًا ومداحًا، فيما عُرِف أنذاك بـ "ثورة التصحيح".

إنقلبت الأوضاع في مصر رأسًا على عقب مرتين في أقل من ربع قرن، هذا الانقلاب المزدوج أحدث خللا كبيرًا في المنظومة السياسية للبلاد، وتسبب في انفصال المؤسسات والنخب العاملة عن الشعب، وتقوقعها على نفسها، بعيدا عن شؤون الناس.

بدأت المؤسسات والنخب العاملة في الدولة تعمل بمعزل عن بعضها البعض على عكس ما يجب أن يكون، معتبرة البلد "مزرعة دواجن" خاصة بها من دون الآخرين، وتتخلى تدريجيا عن مهامها وتتجه إلى العمل لمصلحتها وكأنها دولة داخل الدولة. الوزارات بدأت تتاجر على المواطنين، وتقدم لهم مشاريع فاشلة على المدى الطويل، وتحقق أرباحا سريعة لتدخل في جيوب المسؤولين العاملين فيها، بذلك أصبح الفساد لا يمر من بين أيدي الشرفاء دو أن يلوثها. خاصة وأنها امتلأت بعشرات الآلاف من خريجي المعاهد والجامعات الذين أساسًا لا عمل لهم فيها.

ازداد هذا الفساد المؤسسي والنخبوي بشكل كبير في عصر مبارك، فلم تعد المؤسسات والهيئات الحكومية والنخب المختلفة تأبه بما يجري حولها، وسيطرت الأنانية عليها، ولأن الحكام كانوا جميعا من خلفية عسكرية، فقد أعطوا للجيش مجالا واسعا ليظهر كمؤسسة اقتصادية كبرى تسيطر على حوالي نصف اقتصاد البلد.

نحن نفهم أن أي مسؤول في دولة ما يجب أن يحافظ على وظيفته ولكن لا يتعلق بها وكأنه نبات طفيلي. في البلدان المتخلفة يتعلق بالوظيفة ولا يهمه الحفاظ عليها، يتعلق بها لأنه حصل عليها بشق الأنفس في النفاق والرياء والكذب والخداع، وليس عن كفاءة، وهنا يشكل التقرير الأمني ورضا الرئيس غطاء جيدًّا لانحرافاته، ويدعم تعلقه الطفيلي بالوظيفة.

ومن ناحية أخرى إذا افترضنا أنه كفء بالفعل وأنه ممن لا يتعلقون بوظائفهم كالطفيليات، وبصرف النظر عن أية معايير مهما كانت موضوعية أو مغرضة، فإنه يعرف مسبقا أنه مقدم على قيادة مؤسسة عريقة في الفساد، وأن المواطن ينتظر منه أن يعمل بكفاءته على إصلاحها، ولكنه يجد نفسه بين ليلة وضحاها أمام خيارين: إما أن يعلن فشله في الوقت المناسب وينسحب من مكان المسؤولية ويحفظ ماء وجهه، وإما أن ينخرط في هذه المنظومة العريقة في الفساد، أو على الأقل يسكت عنها، والسكوت كما هو معروف علامة الرضا. الخيار الأول لن يجزيه نفعًا، لأنه لا يوجد أي مسؤول يريد أن يفشل أمام القوى القهرية. عليه أن يستسلم ببساطة، ويدع نفسه تنحرف مع المنحرفين المتخصصين في الانحراف منذ زمن بعيد. لقد وضعته التقارير الأمنية التي يتم إعدادها بأي صورة ورضا الرئيس عنه بين الشياطين، وعليه أن يتعامل معهم بما يريدونه هم منه.

إن ما يحدث في مصر الآن ليس فسادًا بقدر ما هو انهيار وتفكك مؤسساتي ونخبوي.

إن ضعف مقاومة الشخصية المصرية للفساد، أمر طبيعي في ظل السطوة القوية للمؤسسات والنخب المختلفة التي تعمل لحسابها الخاص، وتركت صميم عملها، وهو الاهتمام بشؤون المواطن، ليقوم هو بها.

أما هيمنة الجهاز البيروقراطي في الدولة، فهي جزء أساسي من الهيمنة التي تفرضها المؤسسات والنخب المختلفه على المواطن كي ينشغل بتدبير شؤونه الخاصة عن الاهتمام بمقاومة الفساد المستشري من حولة. إنها دائرة شيطانية.

ولكن من المأكد أن هذه أمور يمكن معالجتها بسهولة داخل المؤسسات بإعادة هيكلتها والنخب بإعادة تجديدها. فهل يتضامن رئيس البلاد مع الشرفاء فيها وهم كثر بهدف القيام بهذا العمل؟؟؟ هل يبادر الرئيس وهو أيضا من خلفية عسكرة بمحاولة التكفير عمَّا فعله أسلافه من تدمير للدولة وتحطيم للشعب؟؟

لأول مرة منذ استيلاء "المغامرين الأشرار" على مقاليد الحكم في البلاد نسمع عن وزير أو مسؤول يقدم استقالته ويقدم للمحاكمة بتهمة الفساد، وحتى وإن لم يسفر التحقيق معه عن شيء، فيكفي فضحه أما الملأ. لا شك في أن هذا النهج المتبع في الدول المتحضرة هو أثر من الآثار التي تركتها ثورة الشباب في مصر سنة 2011، ويجب على الدولة ومع كل الشرفاء فيها أن يدعموا هذا النهج حتى يأخذ طريقه بثبات في المنظومة السياسية للبلد، لابد من إعادة تشكيلها إن عاجلًا أو آجلًا، على أسس من الشفافية والمحاسبة والمعاقبة..