نقاش حول الانتخابات من وجهة نظر ماركسية


المناضل-ة
2015 / 8 / 28 - 15:24     







الانتخابات واليات الاستبداد وسبل بناء القطب الديمقراطي
الخميس 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007
المناضل-ة عدد: 17
نعمان مصطفى
يبدو المغرب نقطة نور في دياجير الدكتاتوريات المتسلطة على شعوب المنطقة العربية، فالانتخابات والاستفتاءات متوالية بانتظام منذ ربع قرن في ظل تعددية حزبية، والتيار الرجعي الديني نفسه ممثل بالبرلمان، و حرية الصحافة أوسع مما في غالبية بلدان المنطقة، والمعارضة تشارك في الحكومة، والحركة النقابية شريك للدولة في تدبير النزاعات الاجتماعية، وقسم من حركة الدفاع عن حقوق الإنسان مندمج بالمؤسسات الرسمية، والمثقفون «التقدميون» مؤيدون للملكية، وما يبرز بين الفينة والأخرى من زيغ قد لا يكون سوى ما يلازم كل ديمقراطية ناشئة من هفوات
لا شك ان هذا الوضع، وبالأخص منه ما يتعلق بحرية التعبير والتنظيم، موروث عن مكاسب الفترة التي تلت الاستقلال الشكلي مباشرة، لما أجبرت موازين القوى النظام الملكي على التنازل للحركة الوطنية مقابل الانفراد بالحكم. لكن تطورات الوضع السياسي في العقد الأخير تدل على تضييق متزايد للحريات وقمع أذكى من حملات العقدين السادس والسابع الشعواء، مع انزلاق المعارضة التاريخية إلى أحضان الملكية وسط تكاثر أشكال تمويه الطابع الفردي للحكم، وهي السمات التي أكدتها الانتخابات الأخيرة. فما حقيقة ديمقراطية الملكية المغربية؟ وما دور المعارضة البرجوازية حاليا؟ وما موقف الثوريين على ضوء ذلك كله؟
(...)
1- سياق الانتخابات
جاء تنظيم الانتخابات [...] في سياق عام مطبوع بتفاقم اختلال موازين القوى لصالح الطبقة البورجوازية السائدة بقيادة الملكية. هذه التي احتد ارتهانها بالإمبريالية مما يجر البلد إلى أهوال السياسات النيوليبرالية المطبقة بحرفية قل نظيرها بالمنطقة، بفعل الاستسلام التام للمعارضة التاريخية واستمرار غياب اداة سياسية عمالية تلف الكادحين من ضحايا تلك السياسات في اتجاه الظفر بالديمقراطية واقامة سلطة الشغيلة.
على غرار باقي بلدان العالم الثالث، وقع اقتصاد المغرب في كماشة الديون الخارجية في مطلع العقد الثامن من القرن الماضي وجرى إخضاعه لوصفات المؤسسات المالية الإمبريالية القاضية بمواصلة ضخ خدمة الدين، وبخفض النفقات الاجتماعية وتكييف الاقتصاد تكييفا ليبراليا شاملا.
على هذا النحو تعمقت الأزمة الاقتصادية واحتد التقاطب الاجتماعي بين أقلية برجوازية مرتبطة بالرأسمال الإمبريالي والطبقة العاملة إلى جانب فئات عريضة من البرجوازيتين الصغيرة والمتوسطة. وقد عبرت الجماهير الشعبية عن سخطها وطالبت بتحسين وضعها من خلال تنامي نضالات العمال النقابية واحتجاجات طلاب الجامعة وانتفاضات شعبية تصدَّرها شباب أحزمة الفقر(يونيو/حزيران 81، يناير/كانون الثاني 84، ديسمبر/كانون الأول 90).
وعلى المستوى السياسي كانت المعارضة البرجوازية بقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية صمام أمان بفعل هيمنتها على قسم من الحركة النقابية وقبولها المشاركة في آلية النظام السياسية، كما بدأت المنظمات الرجعية السلفية طورا نوعيا من نموها ساعد عليه، الى جانب المناخ العام بالمنطقة وبالعالم، تفاقم أزمة يسار السبعينات الماوي-الستاليني واجتثاثه بالقمع.
كان ضعف الرد الشعبي وتحطيمه بالقمع قد يسرا على الإمبريالية، منذ بداية عقد التسعينات، تصعيد الهجوم بفرض برامج تصحيح هيكلي جديدة تسير في نفس اتجاه خدمة الشركات متعددة الجنسية والمجموعات البورجوازية المحلية الكبرى المرتبطة بها مع ما ينصح به البنك العالمي وصندوق النقد الدولي من وصفات «محاربة الفقر» لفائدة ضحايا أسوأ أوضاع البؤس.
وقد اضطرت الملكية إلى منح تنازلات تمثلت ببعض الترميمات السياسية للتأقلم مع مستلزمات الإصلاحات الهيكيلة في سياق العولمة الرأسمالية، و لدرء انفجار شعبي محتمل بفعل احتداد التفاوت الاجتماعي، وتحت ضغط السياق العالمي المطبوع بانهيار أنظمة استبدادية عديدة وتنامي المطالبة بالديمقراطية الذي شجع المعارضة البرجوازية على التماس تعديلات مجهرية للدستور لا تنال قيد أنملة من استحواذ الملك على السلطات كافة، وأخيرا من اجل ضمان انتقال هادئ للسلطة من الملك، الذي ساءت صحته، إلى ابنه. هكذا أحدث الحسن الثاني "المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان" في مايو/أيار 1990، ووزارة حقوق الإنسان، واطلق سراح نسبة كبيرة من المعتقلين السياسيين (1994) بسجونه الرسمية وآخرين بمعتقلاته السرية، منهم اسرة اوفقير 2 وعسكريين انقلابيين اختطفوا بعد إنهاء مدة سجنهم القانونية وصحراويين من مؤيدي جبهة بوليساريو واسرهم، وادخل تعديلات على الدستور في 1992 ثم في 1996، وسمح باستعمال الأمازيغية في التلفزيون، وأشرك أحزاب المعارضة البرجوازية في الحكومة في مارس/آذار 1998. وبعد وفاة الحسن الثاني، وبهدف كسب شرعية جديدة للمؤسسة الملكية بعد أربعة عقود من الاستبداد السافر، قام محمد السادس بتنحية إدريس البصري وزير الداخلية الموروث مع العرش – والذي لازم منصبه مند 1979 – وسمح بعودة ابراهام سرفاتي القائد التاريخي لمنظمة إلى الأمام الماركسية – اللينينية من منفاه بفرنسا حيث أبعده الحسن الثاني بعد سجن دام 17 سنة، ورفع الإقامة الإجبارية عن عبد السلام ياسين شيخ التنظيم السلفي " العدل والإحسان "،كما أحدث معهدا ملكيا للأمازيغية ضم نخبة المدافعين عن هذه اللغة، وجدد المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وسعى لطي صفحة جرائم الاضطهاد السياسي(الاختطاف والاغتيال والمحاكمات الصورية) بمنح الضحايا أو أسرهم تعويضات مالية، وأحدث «ديوان المظالم» لتلقي تظلمات شطط استعمال السلطة، و عدة مؤسسات اجتماعية وخيرية.
هذا كله ما تدعوه أبواق الملكية و الإمبريالية قدوم عهد جديد في المغرب. يعود زيف هذه التنازلات الىالاسباب التالية:
1- تخلي أحزاب المعارضة البرجوازية، بقيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عن مطالبها السابقة بخصوص الدستور، وهي مطالب لم تمس جوهر السلطة وتستبعد كليا مطلب الجمعية التأسيسية، علما ان ممارسة تلك المعارضة أثبتت ان شعار" ملكية دستورية ديمقراطية" نفسه خداع للشعب ومحاولة لافزاع النظام ليس إلا. وقد بلغ سعي المعارضة البرجوازية لنيل انصياع النظام اوجه لما نادى نوبير الأموي القائد النقابي بنظام «ملك يسود ولا يحكم» كما في ملكيات الديمقراطية البرجوازية.
وقد اصطدمت كل استجداءات المعارضة البرجوازية المتعلقة بالسلطات في الدستور برفض ملكي قاطع، بما فيه سجن النقابي المذكور، وبهجوم مضاد لابواق الملكية على الواجهة الإعلامية متهمة المعارضة بالسعي إلى تجريد الملك من سلطاته.
وادراكا من تلك المعارضة لمأزقها المتمثل في استحالة انتزاع حتى فتات سلطة من الملكية من دون ضغط شعبي، وخوفها هي نفسها من تدخل جماهيري لم يبق غير الخضوع التام بانضمام الاتحاد الاشتراكي للقابلين بدستور الحكم المطلق بعد ان قاطعه طيلة عقود. هذا مع العلم بأن دستور 1996 أسوأ من سابقيه حيث ينص على برلمان من غرفتين متساويتي السلطات على نحو يسمح للملكية بالتحكم به أكثر.
2- بقاء النضال العمالي في حدود الدفاع عن الخبز، وهو نفسه دفاع ضعيف بفعل دور البيروقراطيات النقابية الكابح واستنكافها عن تعبئة قوى الطبقة بكاملها والتزامها بسياسة تعاون طبقي ممنهجة (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب) وحتى بفعل تواطؤ مباشر مع العدو الطبقي (الاتحاد المغربي للشغل)
3- تفكك اليسار الجذري والانحطاط الإصلاحي لقسمه الاعظم وفقدان المحافظين على نوايا جذرية للبوصلة والخرائط على السواء، مما جعل الأقسام المتقدمة من الشغيلة تسير في ذيل الأحزاب البرجوازية المحتكرة للمعارضة طيلة عقود والقوية بوسائل بسط الهيمنة (احتكار المعارضة الشرعية وإمكانات مادية وإعلامية كبيرة).
4- استمرار التخلف السياسي لجماهير القرى، رغم بروز مقدمات نهوض في المطالبة بالخدمات الأساسية: تعليم وصحة وماء وكهرباء وربط بشبكة الطرق، وهي المطالبة التي سعى النظام، ونجح الى حد بعيد، في احتوائها بعمل جمعيات التنمية.
سمحت موازين القوى الطبقية هذه بتعزيز مكانة الملكية التي حرصت على البروز كضامن فعلي للاستقرار السياسي بالمغرب وللمصالح الإمبريالية في منطقة جنوب البحر المتوسط، ولاسيما مع تنامي المد الرجعي السلفي والخوف من خطر السيناريو الجزائري.
وبينما تتكاثر أشكال تمويه الحكم المطلق والمبادرات «الديمقراطية» التي لا تكلف سلطة الملك شيئا، تقتضي مواصلةُ سياسة المؤسسات المالية الإمبريالية في تدبير مشكلة الديون، و منطقة التبادل الحر مع الاتحاد الاوروبي وما سينتج عنها من آثار مدمرة للبنية الاقتصادية وللحالة الاجتماعية لشرائح شعبية واسعة، تعزيزَ قدرات الدولة القمعية. هكذا قامت الملكية بإزاحة ما يسمى بحكومة التناوب بعد استعمالها في منعطف وفاة الحسن الثاني و في تحييد القسم المنظم من الطبقة العاملة وتقسيمه، وفي تسهيل تطبيق مخططات الإمبريالية. وأقدمت على مراجعة قوانين الحريات العامة في اتجاه تضييقها اكثر، واطلقت العنان لشركات القمع الخاصة لتحطيم الاحتجاجات بعد أن شهدت الساحة الاجتماعية،في العامين الاولين من "حكومة التناوب"، اندفاعا مطلبيا، لاسيما من جانب العمال والعاطلين الشباب وفقراء القرى.
حظي هذا الهجوم الرجعي بإجماع أحزاب المعارضة البرجوازية بقيادة الاتحاد الاشتراكي، التي باتت تعتبر الخضوع التام للملكية سبيل بناء تدريجي للديمقراطية، ملوحة بفزاعة الاستبداد الديني، وداعية إلى تعزيز مكانة البلد في العولمة الرأسمالية متخلية عن احلام التنمية المستقلة.
وهذا ما فتح المجال للملكية لمواصلة تطبيق الإصلاحات الهيكلية التي تحث عليها الإمبريالية والتي تهدف إلى إزالة التقنين عن كل الأنشطة الاقتصادية وملاءمتها مع مستلزمات الرأسمال الإمبريالي، وفتح الباب على مصراعيه للرساميل والسلع الأجنبية، ونقل ملكية القطاع العام الى الشركات متعددة الجنسية والمجموعات المحلية الكبرى المرتبطة بها، وتحسين شروط الاستثمار الأجنبي بخلق مناطق صناعية وسياحية مجهزة وخاضعة لنظام تحفيزي فيما يخص تكاليف الإنتاج المباشرة، وخفض تكاليف اليد العاملة وتعميم مرونة الشغل، ومواصلة خفض الميزانيات الاجتماعية وإلغاء مجانية التعليم والصحة وباقي الخدمات العمومية وخصخصتها وإخضاعها لمنطق الربح الرأسمالي، إلخ.
هذا الهجوم النيوليبرالي الذي يقوم على تحميل الطبقة العاملة والشرائح الشعبية أعباء تكييف النظام الرأسمالي التبعي بالبلد مع متطلبات الرأسمالية العالمية وفتح المجال للشركات متعددة الجنسية لنهب ثرواته، نال موافقة البيروقراطيات النقابية للمركزيات الثلاث (إ.م.ش و ك.د.ش و إ.ع.ش.م) حين قبلت الخصخصة، وقانون الشغل الجديد الذي يعصف باستقرار الشغل ويسهل تسريح الشغيلة ويلغي مبدأ الحد الأدنى للأجور ويفتح الباب على مصراعيه لشركات السمسرة في اليد العاملة، و قبلت تقييد حق الإضراب الخ، وكلها أدوات بيد البرجوازية لاضعاف الطبقة العاملة.
وتعزز هذا الإجماع الجديد الذي حظي به نظام محمد السادس ومنحه شرعية تتيح مؤقتا تفادي أزمة سياسية مفتوحة، مع أحداث 16 مايو/أيار 2003 الإرهابية التي استغلت على الطريقة الأمريكية (بعد 11 سبتمبر/أيلول) لتشديد الخناق على الحريات العامة وتبرير بطش الدولة وإحكام الطوق على الرجعية السلفية، حيث صدر ما يعرف بقانون الإرهاب.
يبرز هذا السياق العام أن تنظيم الانتخابات وسيلة لتعزيز الإجماع على الملكية أي تحالفها مع الأحزاب البرجوازية المعارضة سابقا وتقوية استبدادها عبر إقامة مؤسسات تمثيلية لا تعكس الإرادة الشعبية بقدر ما هي أداة لإضفاء مشروعية على القرارات المفروضة من الإمبريالية والتي تخدم مصالح الشركات متعددة الجنسية والمجموعات البرجوازية المحلية المرتبطة بها.
2 - أواليات الاستبداد
يتأسس النظام السياسي المغربي على مبدأ سمو المؤسسة الملكية وانفرادها بالسلطات كافة. فقرارات الملك وتعليماته بمثابة قانون ناسخ لغيره ومبطل لعمل البرلمان وباقي المؤسسات. فالسلطة الفعلية بيد الملك بمساعدة محيطه من المستشارين وكبار رجال الاعمال، وغالبا ما يلجأ لمعالجة القضايا الكبرى (التعليم، الصحراء، قانون الاسرة، الاستثمار، الخصخصة، إلخ) باحداث لجان ومجالس عليا تعمل تحت اشرافه المباشر. وعلاوة على قيادة الجيش، جعلت الملكية من بعض الوزارات مجال تدخلها الخاص، هذه الوزارات التي درجت تسميتها بـ«وزارات السيادة» كالداخلية والخارجية والدين والأمانة العامة للحكومة والعدل.
أما الدستور، فقد وضعه الملك بمساعدة خبراء فرنسيين مانحا نفسه السلطات كافة: فهو أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة، يعين الوزير الأول وباقي أعضاء الحكومة، يرأس مجلس الوزراء ويأمر بتنفيذ القانون، له حق حل البرلمان و حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية، يوقع المعاهدات ويصادق عليها، يرأس المجلس الأعلى للقضاء ويعين القضاة... لا فصل للسلطات فهي كلها بين يدي الملك. وخصص لمؤسسات مثل الحكومة والبرلمان والمجالس الجماعية أدوار اشراك حلفائه من الاحزاب البرجوازية المعارضة والتمويه وإضفاء المشروعية على الاستبداد وتزييف الإرادة الشعبية.
أما الأحزاب فتقبل ما يرسمه القصر من ادوار ولا يخضع تشكيل الحكومة لأغلبية برلمانية ما، بل لاهواء الملك في تنصيب فريق حكومي يقوم بوظائف معينة خلال مدة ما بحسب ما تقتضيه مصالحه. تسير الجماعات المحلية (البلديات) وفق نفس اواليات الاستبداد حيث أن مقررات المجلس الجماعي في الاختصاصات الأساسية (المالية والجبايات والأملاك الجماعية، المرافق والتجهيزات العمومية المحلية، التعاون...) غير قابلة للتنفيذ إلا بعد مصادقة وزارة الداخلية. وقد أحدثت ضجة كبرى حول إيجابيات الصيغة الجديدة من قانون البلديات لتمويه هذا الجوهر الاستبدادي، ولإخفاء حقيقة خضوعه لمنطق المنظمة العالمية للتجارة (الاتفاق العام حول تجارة الخدمات) في جعل القوانين المحلية تخدم مصالح الشركات متعددة الجنسية. فتماشيا مع التوجهات الوطنية، أعطيت للمجالس صلاحية تفويض تدبير المرافق العمومية (الماء، الكهرباء، النفايات، النقل العمومي،...)، أي منحها للرأسمال الأجنبي على حساب السكان، الذين سيتضررون من الأسعار ورداءة الخدمات على السواء مثلما شهد سكان الدار البيضاء مع شركة ليونيز دي زو وسكان العاصمة مع شركة ريضال وسكان تطوان مع شركة أماندس. ومن جهة أخرى، يمكن للدولة أن تلقي على عاتق المجالس الجماعية أعباء بعض الخدمات العمومية كإحداث وصيانة المدارس ومؤسسات التعليم الأساسي، والمستوصفات والمراكز الصحية ومراكز العلاج، وبرامج التشجير، والتجهيزات المائية الصغيرة والمتوسطة، وترميم المآثر التاريخية... وبالطبع من جيوب السكان.
إن خضوع قرارات المجالس لسلطة الوالي أو العامل (ممثل الملك في الجهة أو الإقليم) وكونها أداة محلية لخدمة المصالح الامبريالية، وارتباط قسم من مداخيلها بالأنشطة الاقتصادية المحلية، كلها أمور تجعل من هذه المجالس الجماعية أداة استبداد محلي.
علاوة على هذه الوظيفة تواصل البلديات أداء مهمة تكوين نخب محلية من الأحزاب كافة تغتني من النهب وكل الوان الفساد‘ ما يبقيها تحت رحمة الملكية ويقوي خضوعها لها و لمرامي الإمبريالية.
3- التقنية الانتخابية وتحديد الخريطة السياسية
رغم تفاهة ما يبقى للأحزاب المشاركة في المؤسسات من سلطة، تتدخل الملكية للتحكم بنتائج الانتخابات، موزعة المقاعد على أحزابها بحسب أغراضها : توزيع المقاعد هو توزيع لفرص الاغتناء بالنهب كما انه طريقة للتحكم بأوضاع متوترة حيث ان منح مجلس بلدي او مقعد بالبرلمان لحزب له امتداد جماهيري قد يكون بهدف اضطلاعه بلجم نضالات عمالية أو شعبية.
يجري التحكم بنتائج الانتخابات بواسطة قانون الانتخابات، وتحديد دوائر الانتخابات، والتسجيل في اللوائح الانتخابية، وحتى بفرض عدم تقديم مرشحين في مناطق معينة كما جرى مع حزب العدالة والتنمية الرجعي. تتلاعب وزارة الداخلية في رسم الدوائر الانتخابية كي تضمن النتيجة، سواء بالتصرف في الحدود المرسومة لكل دائرة انتخابية أو في حجم الهيئة الناخبة. ويتم اعتماد الاقتراح باللائحة أو الاقتراع الأحادي الاسمي حسب الغايات ويتدخل القصر مباشرة لتعيين رؤساء اللوائح.
ناوشت أحزاب المعارضة البرجوازية مرارا لاجل تخفيف هذا التحكم بنتائج الانتخابات، مركزة هجومها على ما تسميه الجهاز الاداري كانه مستقل عن القصر، لكن هذا الأخير لم يتنازل بل طور أساليبه، فكانت مشاركة الأحزاب في"لجان مراقبة نزاهة الانتخابات" مجرد مشاركة في تمويه التزوير. وبقدر انبطاح أحزاب المعارضة وتماثلها مع أحزاب القصر يقل التدخل السافر لأجهزة الداخلية في تحديد نتائج الانتخابات فتبدو هذه اكثر نزاهة.
[...]
5- أين القطب الديمقراطي؟
إن أوضاع أوسع الجماهير الشعبية، وفي مقدمتها الشباب، تسوء اكثر فاكثر حيث بلغ عدد المغاربة الذين يعيشون تحت حد الفقر أكثر من 10 ملايين نسمة وتكتسي البطالة طابعا جماهيريا. والهجوم البرجوازي متصاعد على الجبهات الاجتماعية والسياسية. فليست الانتخابات والبرلمان والمجالس البلدية وغيرها من مؤسسات الملكية مجرد ديكور وتلميع للواجهة بل تجسيد لتحالف يسيطر على البلد بقيادة الملكية.
كان اليسار الليبرالي، لاسيما الاتحاد الاشتراكي حاملا لمشروع تنمية رأسمالية وطنية في ظل ملكية برلمانية لما كانت موازين القوى العالمية تسمح بحلم من ذلك القبيل، وكان، لأسباب تاريخية، يجر قسما من الطبقة العاملة ويهيمن على المعارضة.
تبدد الحلم مع انهيار المنظومة الشرقية واصبح الاتحاد الاشتراكي ساعيا لـ«افضل» اندماج في العولمة الرأسمالية، منفذا لسياسات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومدافعا عن الاستبداد بعد أن أكدت الجلبة السياسية لعقد التسعينات عقم المعارضة الليبرالية الناتج عن طبيعتها الطبقية.
يستلزم إسقاط سياسات الامبريالية المخربة للبلد وتحقيق الديمقراطية تدخل الجماهير الشعبية الواعي وهو بالذات ما تخشاه المعارضة الليبرالية. إن تدخل الجماهير الشعبية الواعي ذاك غير ممكن في غياب حزب للشغيلة، لذا فان مهمة بنائه ،بما هو قيادة للعمال ولباقي الكادحين، مطروحة بالحاح. ويتمثل احد شروط هذا البناء في النضال من اجل المطالب الديمقراطية، ومنها ما يعنينا هنا أي الحريات السياسية والنظام الديمقراطي.
فاستيقاظ العمال وفقراء القرى قد يتخذ شكل توق الى مؤسسات ديمقراطية من نمط برجوازي ( برلمان حقيقي) ولا يمكن الارتقاء إلى سلطة عمالية إلا بناء على تجربتهم السياسية، ويشكل مطلب الجمعية التأسيسية خطوة على هذا الطريق.
وجلي ان على حزب الشغيلة المطلوب ان يقود نضال الكادحين كافة، كل ضحايا الاستبداد والسياسات البورجوازية والإمبريالية. لكن هل يمثل ما يسمى «القوى الديمقراطية» حليفا في النضال من اجل الديمقراطية؟
القوى الديمقراطية في قاموس اليسار،ومنه تيار النهج الديمقراطي، هي الاتحاد الاشتراكي وظلاله وحتى حزب الاستقلال، ويجري اعتبارها حليفا مناضلا من اجل الديمقراطية استنادا إلى كونها تمثل البرجوازية الصغيرة ذات المصلحة في دمقرطة الدولة.
فهل يمثل الاتحاد الاشتراكي البرجوازية الصغيرة أو حتى المتوسطة؟ هذا اعتقاد أورثه اليسار الجذري وما يزال راسخا لدى تيار النهج الديمقراطي، ومن متتبعاته اعتبار الاتحاد الاشتراكي قوة ديمقراطية لا ينقصها سوى بعض الحزم، قوة مؤهلة للمشاركة في قطب مناضل من اجل الديمقراطية.
الاتحاد الاشتراكي حزب برجوازي لا يستمد قوته من البرجوازية الصغيرة (الفلاحين و صغارالمالكين)، وقاعدته في المدرسين واشباههم من باعة قوة العمل الذهنية ليست برجوازية صغيرة بل اجراء يخدعهم. قوته ليست من قوة البرجوازية، حتى وان كان يضم بعض رجال الاعمال، بل هي قوة المثقفين (المحامين والجامعيين وكادر اجهزة الدولة) الذين لا يشكلون طبقة مستقلة اقتصاديا وبالتالي لا استقلال سياسي لهم. انها قوة تتوقف على تأثير المثقفين البرجوازيين في طبقات أخرى ما دامت هذه من دون أيديولوجيا خاصة بها. لم يناضل الاتحاد الاشتراكي يوما ضد النظام بل حاول اصلاحه وتجديده بالسعي الصريح الى اتفاق معه، ولما وقع في مأزق سار قدما بقبول الدستور وقد تعزز طابعه الاستبدادي.
ان اساس وجود معارضة برجوازية هو احتكار الملكية للسلطة وللامتيازات وفرص الاغتناء ورفضها اي اقتسام لها. وطالما بقي هذا ستظل ثمة معارضة برجوازية، وان اختار حاليا قسمها الأعظم الاصطفاف اللامشروط إلى جانب الملكية فان قسما اخر يواصل نقد سياستها( اليسار الاشتراكي الموحد وجماعة جريدة «الصحيفة» وحتى الامير هشام ابن عم الملك). وقد تعود المعارضة البرجوازية إلى السعي الى قيادة المطالبة بالديمقراطية ان حصل تبدل نوعي في الوضع السياسي (نهوض جماهيري – سقوط الملكية بانقلاب…) فليست المشاركة الحالية في الحكومة مشاركة لا رجعة فيها. الم يشارك حزب الاستقلال في الحكومة من 1977 الى 1985 ثم شارك في الدعوة الى الاضراب العام في ديسمبر 1990 وما تلاه من جلبة سياسية؟ لذا فان موقفا واضحا من المعارضة البرجوازية ومناوشاتها يظل من شروط بناء القطب الديمقراطي. وليس هذا الموقف غير الموقف اللينيني القديم : نقد لا يرحم ويومي للديمقراطيين المزيفين (الليبراليين) واستعمال مناوشاتهم لخدمة أهداف تربية وتنظيم الديمقراطيين.
ان مادة بناء القوة الديمقراطية هي الجماهير التي تتصدى بما أوتيت للهجمات البرجوازية المتصاعدة والتي تعوزها أداة سياسية قائدة، انها الجماهير التي استنكفت عن المشاركة في الانتخابات سواء برفض التسجيل في اللوائح الانتخابية او بمقاطعة الاقتراع. وهي جماهير تفوق نصف الهيئة الناخبة باعتراف الدولة نفسها رغم إقدام الملك على خفض سن التصويت من 21 الى 18 سنة.
هذه الجماهير بحاجة الى الخميرة الماركسية الثورية الجنينية حاليا والتي عليها ان تنمي قواها لتكون في الموعد مع التاريخ.
نعمان مصطفى الرباط، 11 نوفمبر 2003
===================
اليسار الجذري والانتخابات نقاش على ضوء مواقف حزب الطليعة والنهج الديمقراطي الاخيرة
تشرين الأول (أكتوبر) 2006
المناضل-ة عدد: 13
رفيق الرامي
سُتطبع الحياة السياسية الرسمية السنة المقبلة بايقاع طور من الترتيبات الدورية التي دأبت عليها الملكية منذ ثلاثين سنة مع انطلاق ما سمي"المسلسل الديمقراطي". فمن المرتقب تعديل الدستور، بعد مضي 10 سنوات على الصيغة الاستبدادية التي خلفها الحسن الثاني، وتجديد « انتخاب» مجلس النواب، بعد فرض قانون الاحزاب الذي يشدد الخناق على أي معارضة فعلية، ويسعى لجعل الاحزاب المقبولة مجرد دولاب في الآلة السياسية للملكية ازاء شعب عرضة لافقار واضطهاد متعاظمين.
هذا طبعا اذا سارت رياح الوضع الاجتماعي التفجري بما تشتهيه سفن المستفيدين منه الساهرين على دوامه. وتشير مميزات الساحة الاجتماعية والسياسية، لحد الآن، الى نجاح هؤلاء في تدبير تعقيدات الوضع اعتمادا على قسم من المعارضة التاريخية تولى، في انبطاح غير مسبوق، مهمة التنفيذ في حكومة الواجهة، وعلى مسايرة من قيادات المنظمات النقابية العمالية، متظاهرة بالرفض ومستنكفة عن أي نضال حقيقي. كما تستفيد الملكية من دعم قسم من الحركة السلفية المندمج بالمؤسسات، ومن بقاء قسم اخر-ذي الامتداد الجماهيري- في حدود غير مخلة بتوازنات النظام، وذلك نتيجة ضربات متواترة منه من جهة (آخرها الرد على حملة "العدل والاحسان" الدعاوية بالاعتقالات والمداهمات) وبفعل انعدام خط سياسي تعبوي محدد الاهداف الانية لدى اكبر مكونات هذا القسم المنفلت من ضبط النظام.
وان كان الحاكمون قد رفعوا درجة اضافية الضغط على الطبقات الشعبية بموجة الغلاء الزاحفة منذ العام الماضي، في ظل استشراء البطالة والهشاشة وتجميد الاجور، فان الفئات الكادحة العريضة قد تفش سخطها، في غياب التنظيم، فيما سبق ان اعطت عنه نموذجا صارخا في يونيو 1981 ويناير 1984 وديسمبر 1990، أي العصيان عديم الافق السياسي. كما ان قواعد النقابات العمالية لن تتحمل الى ما لانهاية تصاعد التعديات على ما تبقى من مكاسب، منها العمل بحد ذاته. ومن جهته سيؤتي ما سمي " اصلاح التعليم" اكله بتفجير احتجاج الشباب رغم ما يهدد طاقة النضال هذه من تلاشي بفعل الفراغ التنظيمي باكثرية الجامعات ودور التخريب الذي باتت بقايا بعض مكونات اليسار الطلابي تضطلع به( نموذج جامعتي مراكش واكادير). كما لا يمكن التنبؤ بما سيؤول اليه احتجاج كادحي القرى بعد دورة نضالات غير مسبوقة برزت بجلاء منذ 1999 ( ايت بلال، ايتزر، ايميلشيل، تماسينت، طاطا، ايت باعمران...). فما قد يكون من اوهام لدى الجماهير بفعل التبدل الحاصل في قمة السلطة ارتطم بالقمع و وعود الحاكمين الزائفة واصرارهم على مواصلة سياسة "محاربة الفقر"
وجلي ان حالة اليسار الجذري لا تغير من هذه الصورة بفعل قدراته المتواضعة على الفعل، وما ستشهده تلك القدرات من تدن في حال مواصلة قسمه الاقدم ما اعتاد من اشكال تدخل بالمنظمات النقابية بوجه خاص والشعبية عموما، وازاء تطورات الحياة السياسية داخل مؤسسات "الديمقراطية" الملكية وخارجها.
ان قوى اليسار الجذري التاريخية مطالبة باعادة نظر تؤهلها للتفاعل البناء مع الطاقات النضالية الكامنة، اعادة نظر في تكتيكاتها على الصعد النقابية والسياسية على حد سواء، تمكنها من بناء ادوات النضال النقابي والشعبي، وطليعتها السياسية التي لا غنى عنها.
ويمثل الموقف من الانتخابات بنظرنا احدى تلك القضايا التي تستدعي مراجعة تخرج اليسار الجذري من حال التقوقع المديد المقتصر على اعلان فساد "ديمقراطية" النظام، مع الامتناع عن أي استعمال لها بما يرقى بوعي الكادحين السياسي. ولا شك ان اولى متطلبات تصحيح موقف اليسار الجذري متمثل في اخراج نقاش مسألة الانتحابات والمؤسسات "الديمقراطية" من التشويش والبلبلة الفكرية الذي غرقت فيه عقودا، وارسائه على اسس ماركسية ثورية. هذا ما سنعرض له فيما يلي، دون ادعاء الجواب المفصل الشافي، فالنقاش الجماعي دون غيره سبيل استجلاء الموقف الثوري.
اليسار الجذري والانتخابات
بعد مقاطعة الانتخابات طيلة عقود، قرر حزب الطليعة، المتفرع اصلا عن الاتحاد الاشتراكي بسبب خلاف حول المشاركة بالمؤسسات المنتخبة، ان يشارك في الانتخابات المقبلة. ومن جانب اخر قرر حزب النهج الديمقراطي، الذي يشكل استمرارا لقسم من الحركة الماركسية اللينينية المغربية، و الذي تعاون لسنوات مع حزب الطليعة، مقاطعة الانتخابات معتمدا معظم الدواعي التي طالما استعملها هذا الاخير.
كما ان بقايا اخرى من اليسار الجذري، ذات المنشا الطلابي، تظل في وضع بالغ التشظي، وحتى تفسخ بعضها، يجردها من أي قدرة على بلورة موقف، ناهيك عن ممارسته.
هذا ويتسم السياق السياسي لتباين المواقف هذا بتقدم الملكية في تدبير عمليتها السياسية القائمة على تمويه الاستبداد من جهة واشراك اليسار الليبرالي في المؤسسات "المنتخبة"[ بمعنى نخب يختارها الحكم]، وحكومة الواجهة ضمن النطاق الضيق الذي يتيحه استئثار الملك بالسلطة الفعلية من جهة اخرى. هذا بينما تواصل الملكية، في تعاون وثيق مع الامبريالية، التطبيق الحرفي للسياسات النيوليبرالية المقوضة لشروط عمل وحياة السواد الاعظم من المغاربة. ومن الناحية الذاتية يتسم وضع اليسار الجذري باستحكام حالة الانحباس المتجلية في مواقعه الضعيفة بالساحة العمالية وكذا الجماهيرية بوجه عام، وفي حال من مراوحة المكان، بالنسبة لبعض مكوناته، اشبه بالسير الى انقراض. وجلي ان تضارب المواقف الحاصل بصدد الانتخابات سيزيد هذا اليسار ضعفا، وقد يدق المسمار الاخير في نعش تحالفه مع قوى ليبرالية، أي ما سمي ب"تجمع اليسار الديمقراطي".
ان تضارب موقفي حزبي الطليعة والنهج حيال مسألة الانتخابات دون نقاش علني بينهما يثير سؤالا كبيرا حول جدوى التنسيق السابق، ونوعية العلاقات الواجبة بين قوتين سياسيتين منتسبتين الى القضية العمالية من موقع يعتبره كلاهما ثوريا.
ان وضع حصيلة تنسيق المكونين الجذريين واجب عليهما ازاء باقي مناضلي اليسار، وازاء الشباب التواق الى النضال، فالشعور بالمسؤولية يتناقض مع اعلان التنسيق، وما يستثيره من امال في مناخ عام مطبوع بتراجع اليسار وتقدم القوى الرجعية السلفية بوجه خاص، ثم انحلاله بصدد قضية من قضايا التكتيك. فاقل الاضرار الناتجة عن هكذا سلوك هو افقاد المصداقية لدعوات توحيد اليسار او تعاون مكوناته. هذا لا سيما ان تنسيق النهج والطليعة لم يبرهن عن فائدة ما في بناء منظمات النضال، خاصة النقابات العمالية وجمعية حقوق الانسان، بل كثيرا ما انقلب الى تنافس على المناصب.
هذه اولى المسائل التي يطرحها افتراق النهج والطليعة بشأن الانتخابات التي ستطبع السنة السياسية القادمة الى حد بعيد، طالما بقي تدخل الجماهير الكادحة المباشر على حاله من الضعف. اما ثاني تلك المسائل فتتمثل في تقييم المواقف المتخذة من زاوية مصلحة نضال الكادحين وبناء ادوات هذا النضال.
حزب الطليعة: تخبط مديد قد ينتهي باسوأ منه
ليس تغير موقف حزب الطليعة بتخليه عن رفضه السابق لأي مشاركة في المؤسسات "المنتخبة" مباغثا، فقد سيق ان شارك في العام 1996 بالانتخابات المهنية ثم دعا الى التسجيل في اللوائخ الانتخابية في اخر انتخابات. لكن هذا التدرج في مراجعة موقف المقاطعة لم يرافقه نقاش حول جوهر المسالة [ في حدود ما يمكن العلم به طالما ليس للحزب اعلام]. فلم تتم مراجعة الموقف الممارس طيلة عقود بقدر ما تم القفز على نحو عشوائي الى الموقف الجديد. فخلافا لالف باء التكيتيك الماركسي ( الذي ينتسب اليه حزب الطليعة) ظل هذا الاخير طيلة عقود، مطبوعة بضعف كفاحية العمال وعموم الكادحين، يرفض الانتخابات لدرجة ان تقرير قيادته الى مؤتمر الحزب الخامس يجزم على نحو مطلق ان حزب الطليعة " لن يشارك في أي مسلسل انتخابي ما لم تتحقق الشروط السياسية والقانونية لانطلاق ديمقراطية حقيقية باصلاحات دستورية ديمقراطية وانتخابات حرة... " [ الطريق 20 ابريل 2002].
وقد جعل حزب الطليعة مشاركته بالانتخابات المقبلة مشروطة بتغيير قانون الانتخابات. اذ يشير بيان المجلس الوطني في 9 يوليوز 2006 الى ان "الحزب لن يقبل بانتخابات بقوانين تقصي اغلبية من الناخبين وتعد سلفا لديمقراطية مغشوشة"، هل يعني ان حزب الطليعة تخلى عن شروطه التاريخية ليكتفي بشرط تغيير قانون الانتخابات؟ ان استمرار منطق اشتراط مؤسسات سليمة شكليا، تجعل مشاركته غير مرجحة، ما دام فرض هذا التغيير مستبعدا بالنظر لحالة الحركة الجماهيرية. اذن قرر الحزب مبدئيا ان يشارك، لكنه عمليا لن يشارك.
تتلخص الشروط التي الف حزب الطليعة اعتبار عدم تحققها مانعا لمشاركته بالانتخابات في مراجعة الدستور وسن قوانين ضامنة لسلامة العمليات الانتخابية، وقيام حكومة ائتلافية او هيئة وطنية مستقلة للاشراف عليها.[ المجلس الوطني 1 سبتمبر 2002].
إن شروط حزب الطليعة معقولة بنظر من يتوخى فعلا قيام مؤسسات سليمة من التزوير، وتتيح فعلا اغلبية في المؤسسات المنتخة تنبثق عنها حكومة وفق الية الديمقراطية البرلمانية، متصورا في ذلك طريق تحسين اوضاع الجماهير الكادحة، وحتى تغييرها فعليا كما يعتقد دعاة الطريق البرلماني الى التغيير. ما دام حزب الطليعة غير متيقن من ان الطريق الى تحقيق تطلعات الشعب عبر المؤسسات سالكة، بفعل التزوير والقوانين اللاديمقراطية، فانه يعتبر أي مشاركة في مؤسسات "الديمقراطية" الملكية مجرد تزكية لها، واسهاما في تمويه الحكم المطلق ، الخ.
لكن هذا الشروط لا تدخل في منطق من يعتبر الديمقراطية البرلمانية ذاتها الة لسيطرة البرجوازية حتى في اعرق الديمقراطيات حيث لا تزوير فج كالذي تمارسه وزارة داخلية المملكة المغربية. في القرن التاسع عشر شارك الاشتراكيون الثوريون في المانيا في مؤسسات مغرقة في الرجعية، وكذلك فعل البلاشفة في روسيا حيث التزوير مرسم بقوانين تحدد مسبقا نسبة التمثيل حسب الانتماء الطبقي. وشارك الثوريون في القرن العشرين بارجاء المعمور في انتخابات يشوبها التزوير الى مؤسسات فاسدة، ويشاركون اليوم في كل مكان في الانتخابات المؤسسات البرجوازية، هذا كله ما دامت قدرة الطبقات الكادحة على النضال دون مستوى استبدال تلك المؤسسات بديمقراطية حقيقية، ديمقراطية المجالس العمالية والشعبية غاية الثوريين من المشاركة في مؤسسات الديمقراطية البرجوازية، المزورة وغير المزورة، هي بالذات غاية استعمالها لانماء وعي الكادحين وقدرتهم على النضال، عبر كشف حقيقة سياسة الطبقة السائدة وحقيقة مختلف الاحزاب السياسية.، أي ممارسة البرلمانية الثورية.
ان ما يتجه اليه حزب الطليعة بمراجعته العرجاء لموقف المقاطعة، و بما له من زاد فكري-سياسي، لن يكون غير احدى امرين: اما مشاركة تنتهي، في حال حصوله على مقاعد بمؤسسات "الديمقراطية"، الى ما انتهى اليه الاتحاد الاشتراكي، او مواصلة المقاطعة السلبية التي شكلت بلا شك احدى اسباب انكماشه المتواصل.
النهج على خطى الطليعة
يظل موقف حزب النهج الديمقراطي مطابقا لموقف حزب الطليعة، ومستندا على المبررات ذاتها. فمنذ ظهوره في اواسط التسعينات واجه سؤال المشاركة في الانتخابات مرارا، وظل موقفه الرفض والدعوة الى المقاطعة، مع بعض التذبذب بين استدلالات خاطئة واخرى صائبة، لكن مع حسم الامر دوما بتبنى المقاطعة. تبقى الحجة الرئيسة لرفض المشاركة في الانتخابات متمثلة في الطبيعة اللاديمقراطية للنظام الذي ينظمها. استنتج كراس النهج الديمقراطي "الانتخابات البرلمانية لشتنبر 2002-موقفنا" انتفاء شروط المشاركة بناء على حجج من قبيل اللوائح مزيفة، وانفراد الداخلية بالاشراف على الانتخابات، وقوانين انتخابات تجرم حرية التعبير والمعارضة، والتزوير، واستمرار نفس الدستور... إنها شروط نابعة من منطق استعمال مؤسسات الديمقراطية لتحقيق برنامج ما، وليس لابراز ان تحقيق البرنامج العمالي الشعبي يستلزم استبدال تلك المؤسسات باخرى. وهذا جلي في النقطة 11 من كراس 2002 التي تستنتج انه حتى وان شكلت حكومة منبتقة عن الاغلبية فليس لها امكانية تطبيق برنامجها.
هذا المنطق لازم النهج الديمقراطي منذ اول ما واجه سؤال الانتخابات. فاحد قادته يجيب في مقال بعنوان لماذا اقاطع الاستحقاقات الحالية ؟ [علي فقير النهج العدد 22 بتاريخ 5 يونيو 1997] كما يلي :
اهم" عناصر التشبت بالمقاطعة وعدم تزكية الحلقة الجديدة من المسلسل الديمقراطي":
- انتخابات تجري في اطار قوانين حددها دستور مرفوض شكلا ومضمونا.
- جوهر طبيعة الدولة لم يتغير بعد، وسيتكرر سلوك اجهزتها في الانتخابات المقبلة.
- اللوائح الانتخابية غير سليمة.
- التجاوزات جارية بمختلف المناطق والاعلام يحابي احزابا مصطنعة.
- عدم اتاحة الاعلام السمعي البصري للرأي الاخر.
- اغلبية المجالس الجماعية التي كانت بها احزاب الكتلة لم تختلف عن مجالس الاحزاب الادارية
وهذا نفس ما اكده بيان الكتابة الوطنية 9 يوليوز 2006 الذي اسس موقف عدم المشاركة على الاعتبارات التالية:
- العهد الجديد لم يشكل قطيعة ولو جزئية مع سابقه.
- رفض الغاء اللوائح الانتخابية الفاسدة واعتماد تقطيع انتخابي لا ديمقراطي.
- تعمق الفوارق الطبقية والافقار والقمع.
- تعمق التبعية للامبريالية والتواطؤ مع الصهيونية.
كما نجد في ادبيات النهج، ومقالات عديدة، حجة اضافية، ظاهرها جذري لكنها جوفاء، عادة ما يستند عليها لرفض أي مشاركة في الانتخابات: حجة ان المشاركة تزكية لمسلسل مخزني برعاية دوائر اجنبية. فهل كان ماركسيو البلدان الامبريالية( نموذج ليبكنخت بالمانيا) المشاركون بالانتخابات يزكون جرائم البرجوازية، أم انهم استعملوا مؤسساتها لفضح تلك السياسة بالذات، و الانتخابات حلبة للتربية السياسية للشغيلة ؟
الى جانب هذه الحجج الداعمة لموقف المقاطعة، تتخلل وثائق النهج ومقالاته استدلالات صائبة لكن سرعان ما ُيستغنى عنها لصالح ما يدعم موقف المقاطعة. فكراس 2002 يقول:
" الموقف من الانتخابات قائم على تقدير مدى خدمة العملية الانتخابية لتطوير نضال الشعب." كما أن الصفحات المخصصة للانتخابات بوثائق مؤتمر النهج الاول –ص 55 الى 57، تخللتها منطلقات صائبة، منها وجوب استناد الموقف على تحليل الملابسات والظروف ودراستها بعمق، وكون الموقف من الانتخابات لا يتحدد بطبيعة النظام او "ديمقراطيته" ودستوره ومؤسساته، او بكون الانتخابات ستتعرض للتزوير.
هذا عين الصواب، فسواء كانت الانتخابات نزيهة و تفضي الى اغلبية تشكل الحكومة وتمارس السلطات المتعارف عليها في الديمقراطية البرجوازية، او تعرضت للتزييف في ظل نظام استبدادي سافر، يشارك الثوريون بالانتخابات لغاية الدعاوة والتحريض، لا بوهم امكان تحقيق شيء ما لصالح الجماهير بواسطة مؤسسات الديمقراطية البرجوازية
وخلصت وثائق المؤتمر الى أن الموقف يتحدد بالجواب على سؤال مدى اسهام المشاركة او المقاطعة في تطوير الصراع الطبقى وتوعية الجماهير.
مع ذلك لم يبن الموقف المتخذ في آخر المطاف على تقييم درجة كفاحية الجماهير الشعبية، واساسا وضع الطبقة العاملة تنظيما ووعيا،هذه الطبقة التي مازالت لم تحقق استقلالها السياسي، بل على مدى توفر حد ادني لاشتغال سليم لألية الديمقراطية البرجوازية بالمغرب.
موقف الجماهير الممتنع دليل صواب المقاطعة؟
يرى اليساريون دعاة مقاطعة الانتخابات في الظرف الراهن تعزيزا لموقفهم في امتناع الجماهير عن التصويت بعد كل ما حصل من تزوير وتلاعب طيلة عقود، وفساد المؤسسات "المنتخبة". فعلى سبيل المثال جاء في بلاغ الكتابة الوطنية لحزب الطليعة 18-11-97 ان نسبة عدم المشاركة في التصويت تاكيد جديد لصحة موقف المقاطعة. كما يجري اعتبار امتناع الجماهير عن التصويت مؤشرا على وعيها. فبيان الكتابة الوطنية للنهج -9 يوليوز 2006 -يضع ضمن اعتبارات موقف المقاطعة كون "الجماهير واعية ان مؤسسات النظام تزكي السياسة الطبقية المعادية لها وتعمقها ، لذلك الجماهير تقاطع تلقائيا وبشكل عارم."
وذاك نفس ما ذهب اليه مقال المهدي السوسي "الانتخابات التشريعية،الحصيلة، الافاق والمهام قائلا:" عدم التوجه الى صناديق الاقتراع موقف اتخذ عن وعي سياسي لدى المواطن في غالب الاحيان. " إن الجماهير تمتنع عن المشاركة لانها تعلم التزوير وزيف الوعود، أي ان المؤسسات لن تحقق لها شيئا ما دامت زائفة، أي انها ستشارك لو توفرت النزاهة وستنتظر من المؤسسات النزيهة ان تحقق لها تطلعاتها، انه نفور من الكذب لا وعي بحدود الديمقراطية البرجوازية.
ان التزوير والفاسد يخلقان فعلا بين العمال، وعموم الجماهير الكادحة، نفورا من الانتخابات، ومقاطعة سلبية لها، لا سيما ببلد كالمغرب لم يشهد سوى ممارسة برلمانية انتهازية.
ان موقف الجماهير المقاطعة متخلف، فهي لا تصوت ولا تطالب باي بديل، ولا تتصدى للتزوير بالنضال ( ما عدا حالات نادرة مثل سيدي بطاش، وبوزنيقة ذات مرة). انه موقف سلبي قوامه اللامبالاة السياسية.
وليس واجب الثوريين ان يسايروا موقف الجماهير، والا اصبحوا في ذيل الجماهير بدل قيادتها. واجب الثوريين ان يضطلعوا بمهام التربية السياسية للجماهير كما جاءت على لسان لينين:" " ان عمل مجلس الدوما الثالث الذي يسخر صراحة من حاجات العمال، يعزز الحالة الذهنية الاوتزوفية(*) [ أي الداعية الى المقاطعة –م] بين تلك الفئات العمالية، التي مازالت عاجزة ، بالنظر لنقص تربيتها الاشتراكية الديمقراطية ، عن فهم أن نشاط الدوما الثالث هذا ذاته يعطي الاشتراكيين الديمقراطيين امكانية استعمال ثوري لمؤسسة تمثيل الطبقات المستغلة هذه ليكشفوا لفئات واسعة من السكان الوجه الحقيقي للاوتوقراطية ولكل القوى المضادة للثورة بقصد جعلها تشعر بضرورة النضال الثوري." " كما أن الحالة الذهنية الاتزوفية السائدة بين هذا القسم من العمال لقيت حفزا من الاخطاء بالغة الفداحة التي ارتكبتها المجموعة البرلمانية الاشتراكية الديمقراطية، لا سيما في سنة نشاطها الاولى.
ان التكتل البلشفي ، اذ يقر بان هذه الحالة الذهنية الاوتزوفية تتعارض مع التربية الاشتراكية والثورية للطبقة العاملة ، يرى انه لا غنى عما يلي:
- أ- القيام، فيما يخص فئات العمال تلك، بعمل تربية وتنظيم اشتراكي ديمقراطي متابر، وتفسير منهجي وملح للعقم السياسي الكلي للاوتزوفية و الانذارية (**)، والدلالة الحقيقية للبرلمانية الاشتراكية الديمقراطية ودور منبر الدوما بالنسبة للاشتراكية الديمقراطية في حقبة الثورة المضادة هذه.
- ب- فيما يخص المجموعة البرلمانية الاشتراكية الديمقراطية والعمل البرلماني بوجه عام ، يجب اقامة اوثق الصلات بين المجموعة البرلمانية والعمال الطليعيين، ومدها بالمساعدة الاكثر تنوعا واخضاعها من جانب الحزب بكامله لضغط ورقابة منظمة، تضم ، ضمن امور اخرى ، تحليل كل اخطائها امام الملأ ووضعها عمليا تحت اشراف الحزب، بما هو هيئة تابعة له، باختصار تطبيق البلاشفة قرارات كونفرانس الحزب الاخير بهذا الصدد، لان انتباها مستمرا من جانب الاوساط العمالية ازاء نشاط المجموعة البرلمانية الاشتراكية الديمقراطية والمشاركة المنظمة لتلك الاوساط العمالية في النشاط البرلماني للاشتراكية الديمقراطية قادران على تقويم حقيقي لتكتيك مجموعتنا البرلمانية.
-ج - فيما يخص جناح حزبنا اليميني الذي يجر المجموعة البرلمانية على طرق مضاد للحزب، ويعزلها بذلك عن الطليعة العمالية، يجب خوض نضال منهجي لا يرحم وفضح الطابع المضر بحزبنا للتكتيك المطبق من الجناح اليميني.
"من مقرر كونفرانس هيئة التحرير الموسعة لجريدة " بروليتاري" ص 474 الجزء 15 الاعمال الكاملة بالفرنسية دار التقدم -موسكو -طبعة 1975
ما معنى المقاطعة ؟
ليس ما يسميه اليسار المغربي المقاطع "مقاطعة" بل مجرد امتناع سلبي عن المشاركة في الانتخابات. لذا لن يستقيم النقاش دون تذكير مضمون المقاطعة لدى الماركسيين. يقول لينين:
" إن المقاطعة هي رفض الاعتراف بالنظام القديم، ليس بالأقوال بل بالأفعال طبعا، بمعني رفض لا يتجلى في نداءات وشعارات المنظمات وحسب، بل في حركة للجماهير الشعبية تخرق منهجيا قوانين السلطة القديمة وتخلق مؤسسات جديدة غير شرعية لكنها ذات وجود فعلي، الخ. بديهية إذن علاقة المقاطعة بزخم ثوري واسع: المقاطعة هي وسيلة النضال الأكثر حسما ليس ضد أشكال مؤسسة معينة بل ضد وجودها ذاته. فبدون زخم ثوري واسع وبدون هيجان جماهيري يتجاوز كل الشرعية القديمة، لا مجال لأي نجاح للمقاطعة." لينين ضد المقاطعة ص 19-20 الجزء 13 طبعة 76 من الاعمال الكاملة بالفرنسية –دار التقدم.موسكو
ويضيف "لم يقم مضمون هذه الحملة ( من اجل المقاطعة) طبعا على تكرار كلمة مقاطعة أو على دعوة الجماهير إلى عدم المشاركة في الانتخابات. كما أن هذا المضمون لم تستنفده نداءات هجوم ثوري مباشر يتجاهل الطرق الملتوية والتعرجات المقترحة من طرف الأوتوقراطية القيصرية. فعلاوة على ذلك، كان النضال ضد الأوهام الدستورية في قلب، كل التحريض من أجل المقاطعة، لا الى جانبه. وكان ذلك النضال، حقيقة، قوة المقاطعة الحية." ضد المقاطعة ص 21
لخص لينين الموقف بناء على تجربة الحزب البلشفي الغنية بمختلف اشكال النضال قائلا : " وما دمتم عاجزين عن حل البرلمان البرجوازي وسائر أنواع المؤسسات الرجعية، أياً كانت، فلا بد لكم أن تعملوا في داخلها، بالضبط لأنه لا يزال هناك عمال ممن خدعهم القسس وتبلدوا في بيئة الأرياف النائية، وإلا فقد تصبحون مجرد مهذارين. " اليساروية، مرض الشيوعية الطفولي
أي مضمون لوجود الثوريين داخل مؤسسات الديمقراطية البرجوازية ؟
قسم من دعاة المقاطعة، في الظرف السياسي الراهن، انما يفعلون ذلك لعدم فهم غاية المشاركة. فهم يقدمون حجة على صحة المقاطعة سلوك الانتهازيين الذي دخلوا المؤسسات بوهم استعمالها للدمقرطة ولتحسين اوضاع الجماهير وحتى تغييرها (الاستراتيجية الاصلاحية). منهم من يعطي مثالا باحزاب "الكتلة الديمقراطية" التي مارست بالمجالس الجماعية نظير ما فعلت احزاب النظام [علي فقير موضحا اسباب المقاطعة النهج العدد 22 بتاريخ 5 يونيو 1997] ، وثمة من يشير الى منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، خصوصا وانها من اليسار الماركسي الذي راجع موقف المقاطعة الدائمة، ليتنبى خط الاتحاد الاشتراكي أي اعتبار مؤسسات الديمقراطية البرجوازية وسيلة للتغيير.
هؤلاء بعيدون عن الموقف الثوري الذي اوضحه لينين قائلا: " لا يهمنا ان نضمن لانفسنا، بواسطة مساومات، موقعا صغيرا بالدوما. ما ابعدنا عن ذلك. هذه المقاعد البرلمانية البائسة لا قيمة لها الا بمقدار ما تستطيع ان تساعدنا في تطوير وعي الجماهير ورفع مستواها السياسي ، وتنظيمها لا من اجل رفاهية كما يفهمها رجل الشارع، لا من اجل تحقيق"تهدئة" وتحقيق" النظام" و " الازدهار السلمي(البرجوازي)"، بل من اجل النضال لتحرير العمل كليا من كل استغلال وكل اضطهاد.من اجل هذا فقط وبذلك المقدار تهمنا المقاعد بالدوما وكامل الحملة الانتخابية. يعلق حزب العمال كل آماله على الجماهير ، لكن ليس على جماهير مطيعة بسلبية، متحملة النير بخضوع، انه يعتمد على الجماهير الواعية ، المطالبة،والمناضلة." كيف ينظر كل من الاحزاب البرجوازية وحزب العمال الى الانتخابات الى الدوما؟ 438-439 الجزء 11 من الاعمال الكاملة طبعة 1966.
ان واجبات الثوريين الذين يوجدون بمؤسسات الديمقراطية البرجوازية غير واضحة باذهان يساريينا. وعنها يقول لينين: " من وجهة نظر السلوك الخارجي- ان صح القول- للمجموعة البرلمانية الاشتراكية الديمقراطية، ما يفصل الانتهازيين عن الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين، هو النضال الذي يتعين ان يخوضه هؤلاء ضد ميل طبيعي في كل مجتمع برجوازي ( وفي روسيا بوجه خاص في حقبة الرجعية)، ميل النواب والمثقفين البرجوازيين المحيطين بهم غالبا، الى اعتبار النشاط البرلماني بما هو النشاط الجوهري و الاساسي، بما هو هدف بحد ذاته. يجب ان تتجه كل جهودنا بوجه خاص الى اضطلاع المجموعة البرلمانية بعملها كوظيفة خاضعة لمصالح مجمل الحركة العمالية، والى ارتباطها الدائم بالحزب، وعدم انعزالها عنه، بل دفاعها عن تصوراته وتطبيقها لتوجيهات مؤتمراته وهيئاته القيادية ." " من وجهة نظر المضمون الداخلي لنشاط مجموعتنا البرلمانية البرلمانية، يجب الا ننسى ابدا ان عمل المجموعة البرلمانية الاشتراكية-الديمقراطية يروم هدفا مختلفا جذريا عن هدف جميع الاحزاب السياسية الاخرى . فالحزب البروليتاري لا يسعى الى ابرام مساومات ومتاجرات مع من يمسكون بالسلطة، ولا الى تحقيق اصلاح رديء للدكتاتورية الاقطاعية-البرجوازية المضادة للثورة. ما يسعى اليه هو أن يطور لدى بكل الوسائل الوعي الطبقي والفكر الاشتراكي الجلي والعزم الثوري والتنظيم في كل مجالات الجماهير العمالية"
(...) " ثم يجب التذكير بهدف بالغ الاهمية راهنا يتوجب على مجموعتنا في الدوما: المشاركة بحيوية في جميع النقاشات حول التشريع العمالي.. وعليها الاستفادة في هذا المضمار من التجربة البرلمانية الغنية للاشتراكيين الديمقراطيين باوربا الغربية ، مع الحذر بوجه خاص من الانحرافات الانتهازية. ويجب الا تقدم أي تنازل عن شعاراتها ولا عن مطالب البرنامج الادنى لحزبنا، بل تعد وتقدم مشاريع قوانين اشتراكية ديمقراطية ( وكذا تعديلات على مشاريع الحكومة والاحزاب الاخرى)، بقصد أن كشف للجماهير كامل نفاق وكل اكاذيب الاشتراكية الاصلاحية، واقتيادها الى خوض نضال مطلبي وسياسي مستقل. هذا النضال هو بالنسبة للعمال الوسيلة الوحيدة للحصول على مكاسب حقيقية وتحويل "الاصلاحات" الهجينة والمنافقة للنظام الحالي الى نقاط ارتكاز للحركة العمالية السائرة نحو تحرر البروليتاريا الكلي"
(...) " واخيرا يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين، في طريقة استعمالهم للدوما، ان يتميزوا عن الانتهازيين بواقع أن المجموعة في الدوما والحزب ملزمان بأن يشرحا للجماهير بكل الوسائل المتاحة الطابع الطبقي لكل الاحزاب السياسية البرجوازية، وان ليس عليهم الاقتصار على مهاجمة الحكومة والرجعيين السافرين، بل عليهم ايضا ان يزيلوا قناع الطبيعة المضادة للثورة لليبراليين وترددات الديمقراطية الفلاحية البرجوازية الصغيرة." من خطاب ومشروع مقرر حول مهام البلاشفة في مجال النشاط في الدوما. 25-26 يونيو 1909 الاعمال الكاملة بالفرنسية -الجزء 15 – ص 469
بعد تاكيد التصور الماركسي للمشاركة في الانتخابات، وشروط المقاطعة، ومضمون العمل الثوري في مؤسسات الديمقراطية البرجوازية سنتناول بالعدد المقبل باقي مبررات موقف اليسار الجذري الداعي الى مقاطعة الانتخابات.
هوامش
(*) الاتزوفية otzovisme معناها الاستدعائية. كان الاستدعائيون كتلة من الكتل المتصارعة داخل التيار البلشفي عام 1909 ، لا سيما بعد تدشين الدوما الثالث سنة 1908 وفي صدد مسالة الاشتراك فيها. هم اصحاب فكرة استدعاء (سحب) نواب الحزب من مجلس الدوما يمبرر انه مؤسسة غارقة في الرجعية، ولا مكان لاي ثوري حقيقي فيها، وكل من يدخل صار تصفويا وتخلى بالتالي عن الثورة. (**) الانذاريون ultimatistes بلاشفة كانوا يحوزون آنذاك سطوة كبيرة ، اتهموا لينين بالانتهازية وشكلوا كتلة خاصة بهم. الفرق بين الاستدعائية والانذارية طفيف في الجوهر . الانذارية " لا نستدعي نوابنا بل نوجه اليهم انذارا ليخضعوا لقرارات اللجنة المركزية وعند الرفض يتم سحبهم"
===========================
اليسار الجذري والانتخابات: نقاش على ضوء مواقف حزب الطليعة والنهج الديمقراطي، *القسم الاخير*
الثلاثاء 12 كانون الأول (ديسمبر) 2006
المناضل-ة عدد: 14
رفيق الرامي
بعد أن تناول القسم الأول من هذا المقال [العدد 13 من المناضل-ة ] جملة من مبررات إحجام اليسار الجذري عن استعمال الانتخابات والمؤسسات الناتجة عنها، سواء الطابع الرجعي لإطارها العام، أو مسايرة استنكاف الجماهير السلبي، وإيضاح دلالة المقاطعة بنظر الماركسية الثورية، ومضمون الاستعمال الثوري المناقض لسلوك الانتهازية، يتعرض القسم الثاني لما تبقى من دوافع مقاطعة حزب النهج الديمقراطي للانتخابات، وهي حجج ينفرد بها قياسا مع حزب الطليعة المقتصر استدلاله على طبيعة الإطار السياسي لتنظيم الانتخابات (دستور، قانون انتخابات،الخ)
ثمة نوع ثان، ذاتي، من مبررات رفض استعمال الانتخابات والمؤسسات استعمالا ثوريا، يبرز فيما يكتنف استدلال النهج الديمقراطي من تشوش. فإلى جانب ما سلف من مبررات تحاول الإقناع بلا جدوى المشاركة، تقدم وثائق المؤتمر الأول حججا تفترض صحة موقف المشاركة لتقدم أسبابا لتعذرها العملي.
أول هذا النوع من الحجج ضعف اليسار الجذري، وثانيها استحواذ الحاكمين على وسائل الإعلام السمعي-البصري. بخصوص الحجة الأولى نعطي مثالا ما جاء في وثيقة "الوضع الراهن ومهامنا" بالصفحة 56:" لكن الأخطر بالنسبة لنا في المغرب هو عدم قدرة القوى الديمقراطية علىالاستفادة من الانتخابات لضعفها ولضعف ارتباطها بالجماهير الشعبية. فالمهمة الأساسية التي يجب السعي إلى إنجازها هي الارتباط بالجماهير الشعبية لتوفير شروط بناء قوة ديمقراطية جذرية قادرة على الدفاع باستماتة عن المطالب الديمقراطية.".
وعن حجة وسائل الإعلام تقول الوثيقة ذاتها:"غمكانات الاستفادة من الانتخابات موجودة لكن محدودة جدا بفعل تحكم النظام في الإعلام السمعي البصري ولأن السلطة الحقيقية غير قابلة للتداول دستوريا. لذلك نضع على رأس أولوياتنا مسالة الدستور الديمقراطي ودمقرطة الدولة" [ص.56]
مبرر ضعف القوى
يدافع النهج الديمقراطي عن موقف مقاطعة الانتخابات بحجة غياب القدرة على المشاركة فيها، أي أن رفع عقبات معينة ( ضعف تنظيمي وإمكانات مالية، وتصحيح اختلالات كالتي أشار إليها بالتلميح التصريح الصحفي للكتابة الوطنية للنهج يوم 17 يوليوز 2006) يفضي إلى استعمال الانتخابات والمؤسسات لأغراض الماركسيين المعروفة. ومع اعتبار تلك العقبات لا تزال قائمة، يعود النهج الديمقراطي إلى جملة الحجج الأخرى الواهية، ليخلص في نهاية المطاف إلى المقاطعة.
إنه التسليم بوجوب استعمال الانتخابات ثم الرجوع إلى حجج وجوب المقاطعة عبر استحضار العجز عن المشاركة. وتعود هذه الحجة بقوة في أدبيات النهج رغم طابعها الخاوي بجلاء. فهل يدافع الماركسيون عن موقف خاطئ بما شاء الله من الحجج الخاطئة لأنه تعوزهم القدرة على ممارسة الموقف الصائب؟ هذه طريقة ستحول الماركسية إلى شيء آخر.
إن أول الواجبات، حتى بافتراض بلوغ ذلك الضعف درجة ُمشلة كما توحي استدلالات النهج، هو الدفاع عن الموقف السياسي السليم، وتثقيف مناضلي الحزب و طلائع النضال به، لا تكريس الخطأ والدفاع عنه بنشر أفكار غير ماركسية باسم الماركسية ذاتها.
ثم هل بلغ فعلا اليسار الجذري الماركسي، أي كل الذين تحركهم اقتناعات ضرورة استئصال الاستبداد السياسي، والقضاء على نظام الاستغلال الرأسمالي، مستوى ضعف يقعده عن المشاركة في الانتخابات؟ نوضح بالمناسبة إننا ندرج في توصيف اليسار الجذري كلا من حزبي النهج و الطليعة مع أننا لا ندري جيدا حقيقة ما يعتمل داخل هذا الأخير، أي مصير القوى الشابة التي كانت تدافع بداخله عن تصور متبن للماركسية.
نعتقد أن قوى اليسار الجذري، مأخوذة بمقياس وجودها الكمي بمنظمات النضال، سواء نقابتي الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، أوالجمعية المغربية لحقوق الانسان، وغيرها، أكثر من كافية لاستعمال الانتخابات وسواها من فرص العمل السياسي بقصد تنوير طلائع النضال وأقسام أوسع من الجماهير بالحاجة إلى نضال جذري وبديل تحرري شمولي.لا بل أكثر من ذلك، يتيح الظرف الموضوعي تعزز قوى اليسار الجذري لو نهج داخل المنظمات النقابية خط الدفاع عن مصالح الشغيلة ضد الخط الاستسلامي للقيادات بدل مسايرة هذه للظفر بالمقاعد في الأجهزة. كما أن نقاشا ماركسيا حقيقيا قد يخرج قسما من المناضلين القاعديين من تيههم الفكري ويخرطهم ضمن قوى النضال من أجل استعمال ثوري للانتخابات والمؤسسات.
وحتى إن كانت الإمكانات التنظيمية والمادية لمشاركة واسعة بالانتخابات غير متوافرة لدى اليسار الجذري، وجب على جماعة ثورية حريصة على استعمال كل فرص العمل، النظر في مكان مشاركة محدودة، لاسيما في الانتخابات البرلمانية، بمناطق بالغة الأهمية وفق المنطق الماركسي كالمراكز الصناعية الكبرى وأحياء السكن العمالي. وقد يكون تقديم مرشحين يدافعون عن ديمقراطية فعلية، وعن الاشتراكية، موضوع تعاون بين قوى يسارية جذرية متعددة.
إن بداهة هذا الأمر تدفع إلى التساؤل: أليس خلف مبالغة شرط القدرة سعي إلى الظفر بمقاعد كثيرة، أي اعتبار هذه هدفا بحد ذاتها، مستند على وهم تحقيق تطلعات الجماهير الشعبية بمؤسسات الديمقراطية الزائفة، لا استعمال الانتخابات للدعاوة والتحريض؟
ثمة الكثير من أمثلة المنظمات الماركسية الصغيرة المستعملة للانتخابات، نعيد منها إلى الأذهان حالة أول مشاركة للعصبة الشيوعية الثورية -فرع الاممية الرابعة بفرنسا- فترة نشوئها.
شاركت هذه المنظمة في انتخابات الرئاسة أشهر قليلة بعد تأسيسها عام 1969. وماذا كانت قواها؟ 1000 عضو، لا غير. و كان متوسط أعمارهم 24 سنة. وقد تحفظ بعضهم بمبرر انعدام إمكانات مالية وتجربة مع وسائل الاعلام، ولا حتى معرفة بقانون الانتخابات. ومع ذلك شاركت العصبة بشعار أن التغيير لن يتحقق بالانتخابات (1). ثم واظبت العصبة الشيوعية الثورية على استعمال إمكانات العمل الانتخابي والمؤسسي بمنظور ثوري وإن بأشكال متنوعة. ويمثل هذا طبعا إحدى عناصر بنائها كمنظمة ثورية فاعلة (2).
و إن كانت غاية مشاركة الماركسيين استعمال المؤسسات البرجوازية، حتى المزيف منها، بقصد ارتقاء وعي الجماهير وانخراطها في نضال ثوري، أي استعمال إحدى سبل بناء حزب ثوري قوي، يضع النهج الديمقراطي مسألة وجود حزب قوي شرطا مسبقا لكل استعمال للانتخابات والمؤسسات.
ففي مقال مميزات الوضع السياسي – جريدة النهج الديمقراطي عدد 71-72 سبتمبر 2002 يقول عضو اللجنة الوطنية حسن الصعيب:"إن قبول النهج المشاركة على أساس اعتبارات سياسية أخرى، كتحويل اتجاهات الرأي من أجل كسب مكانته السياسية وسط الجماهير والدعوة إلى برنامجه السياسي ومشروعه الاشتراكي وعدم التعويل على الحصول على نتائج إيجابية لن يكون ذا أهمية كبيرة في غياب حزب جماهيري قوي له تواجد قوي في مختلف المناطق ويتوفر على لوجستيك وإعلام قادرين على التعبئة الجماهيرية."
بهذا المنطق ستظل كل جماعة ثورية ناشئة تراوح مكانها، بعيدا عن استعمال إمكانات العمل المتاحة، وتظل زمرة ليس إلا. لا بل قد تضمحل، وربما تعطي تجربة حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي مثالا جليا عن ذلك.
المبدأ هو أنه بقدر ما تكون الصلات بالجماهير متراخية، بقدر ما يكتسي تكوين وعي الجماهير أهمية، وبقدر ما يكون بمقدمة مهام الثوريين استعمال وسائل الدعاوة والتحريض المتاحة من قبل النظام.
لا يرى النهج في بناء قوة النضال من أجل الديمقراطية عملية تستثمر إمكانات العمل السياسي، و منها الانتخابات، بل يعتبر أن لا قدرة لاستعمال الانتخابات إلا بعد بناء تلك القوة. هذا ما خلص إليه القسم الخاص بالانتخابات في وثائق المؤتمر الأول: " بقدر ما نتقدم في بناء هذه القوة الديمقراطية الجذرية كتعبير عن جبهة الطبقات الشعبية، بقدر ما سنكون قادرين على التعامل مع الانتخابات بالشكل الذي يخدم مصلحة شعبنا في الانعتاق من الاستبداد والقهر" [ص 57] . هيا بنا غلى بناء القوة الديمقراطية بترك إحدى وسائل ذلك البناء!
حجة الإذاعة والتلفزيون
يعتبر النهج الديمقراطي وجود الإعلام السمعي البصري بيد النظام والرجعية أحد موانع استثمار المؤسسات الديمقراطية لــ"خوض الصراع ضد النظام والرجعية والتعريف على صعيد واسع بالبرنامج الديمقراطي الجذري" على حد قوله. ويعتبر إمكانية الاستفادة من الانتخابات بوجه عام محدودة جدا لأن النظام يتحكم في الإعلام السمعي البصري.
جلي أن هذا مجرد التماس أعذار لتعزيز موقف له محددات أخرى هي الاساسية. فالاقتناع بوجوب استعمال الانتخابات لن يبطله ضعف الوسائل. فهذا المبرر لم يدفع أبدا حركة ثورية إلى الامتناع عن الافادة من الانتخابات بما أوتيت من إمكانات. وقد أعطت الحركة السلفية دليلا ملموسا عما بوسع حركة تروم إيصال فكرها أن تحقق، أعطت المثال عن استعمال وسائل الاتصال مع قاعدة عريضة جدا، وتعليم الأميين حتى، دون انتظار فرصة استعمال وسائل الإعلام السمعي البصري التي بيد الدولة.
يتعين طبعا النضال من أجل تحرير الإعلام السمعي البصري من سيطرة الطبقات السائدة، سواء
بالشكل القديم لإعلام الدولة، أو بعد إدخال الرساميل إليه. كما يتعين استعمال الطفيف المتاح منه للأحزاب، لكن اعتبار احتكاره مبررا لعدم استعمال وسائل أخرى مثل الانتخابات شبيه بالامتناع عن إصدار صحافة عمالية اشتراكية لأن الدولة والموالين لها يحتكرون القسم الأعظم من الصحافة المكتوبة.
دافع مضمر لكنه قوي
ثمة بنظرنا عامل أساسي يحكم موقف النهج الديمقراطي من استعمال الانتخابات والمؤسسات، يتمثل في الخضوع لضغط الحالة الصبيانية، شبه الفوضوية، السائدة ببقايا الوسط الماركسي-اللينيني المتشظي. فالجملة الثورية الجوفاء، والمزايدة بالشعارات الخارجة عن أي سياق ملموس، حالة مستشرية جدا في قسم من المنتسبين إلى إرث الحركة الماركسية اللينينية.
وتمثل هذه الحالة جزءا من ثقافة سياسية فاسدة سائدة في اليسار غير الاصلاحي بالمغرب، ترى في كل أشكال العمل الشرعي مهادنة للنظام، وترى بوجه خاص في المشاركة في الانتخابات مساومة خيانية، ومشاركة في تمويه الحكم المطلق وإضفاء شرعية على سياسته.
وإن تبني حزب النهج الديمقراطي لإرث الحركة الماركسية اللينينية أمر يجعله هدفا مفضلا لمزايدات بالجملة الثورية من قبل جماعات تنازعه أحقية الانتماء إلى ذلك الإرث. ولو قرر النهج استعمال الانتخابات لاعتبرت كل العناصر، التي تعتقد أن الماركسية هي شتائم الاتهام بالتحريفية، أنها عثرت أخيرا على أم الأدلة على صحة تفاهتها.
لما تبين لينين أن موقف المقاطعة لم يعد صائبا، تخلى عنه و دعا إلى المشاركة، ولم يثتيه عن ذلك أن المناشفة أيضا من أنصار المشاركة.
إن سياق المد الثوري العالمي وتجذر الشباب الذي طبع ميلاد الحركة الماركسية اللينينية في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي منح مكانة كبيرة لشعارات مميزة لذروة السيرورة الثورية، وبالمقابل عانت الحركة من نقص كبير في فكر التعامل مع ظروف تراجع الحركة الجماهيرية، ومصاعب كسب طلائع النضال إلى الاستراتيجية الثورية في ظرف غير ثوري. وهذه الصعوبة هي مصدر الكثير من أخطاء الحركة، وهي لا تزال تعترض الثوريين داخل النهج وخارجه.
"ما هو أصعب بكثير( من أن يكون المرء ثوريا عند اندلاع الثورة)، وما له قيمة أكبر جدا، هو أن يكون المرء ثوريا عندما لا يتيح الوضع بعد نضالا مباشرا ومكشوفا وجماهيريا حقا وثوريا حقا وأن يستطيع الذود عن مصالح الثورة، بالدعاوة وبالتحريض وبالتنظيم، وذلك في مؤسسات غير ثورية، وحتى رجعية بجلاء، في ظروف غير ثورية، وبين جماهير قاصرة عن أن تفهم في الحال ضرورة منهج ثوري في النضال." . [ لينين - مرض الشيوعية الطفولي]
إن المنهجية السليمة التي يقول النهج أنه ينظر بها إلى تجربة الحركة الماركسية اللينينية، منهجية " نقد وتطوير وإغناء الرصيد الفكري والسياسي والنضالي للحركة الماركسية اللينينية على جميع المستويات خدمة للمشروع التحرري الديمقراطي والاشتراكي [ص 13 وثائق المؤتمر الاول] تفضي إن هي طبقت فعلا إلى تغيير الموقف من الانتخابات ومؤسسات الديمقراطية الزائفة، دون اكتراث بمدعين للماركسية لا خبرة لهم بقضايا النضال العملية.
هذا وقد يجد انتهازيون داخل حزب النهج الديمقراطي في الموقف الثوري من الانتخابات في ظل الخصائص الراهنة للوضع السياسي، أي موقف المشاركة، سندا لميولهم الانتهازية، وقد يتسلحون ظاهريا بالحجج اللينينية، كما فعل أسلاف لهم خلال منعطف تحويل منظمة 23 مارس الى حركة إصلاحية [2]، لكن هل يثني ذلك حركة تريد أن تكون ماركسية من ممارسة سياسة مطابقة فعلا لحاجات اللحظة السياسية؟
إن رد الفعل السليم على السلوك الانتهازي الانتخابي المحتمل لدى أقسام من النهج، والمجسد من قبل مكونات أخرى سابقة للحركة الماركسية اللينينية توجد اليوم في الحزب الاشتراكي الموحد مثلا، أي رد الفعل المفيد لقضية نضال الشغيلة وبناء أدوات نضالهم، هو الاستعمال الماركسي لكل إمكانات العمل، وليس الهروب إلى موقف استنكافي يبدو جذريا لكنه عقيم. تماما مثلما يتمثل الموقف السليم من سيطرة فئة بيروقراطية على نقابات العمال وجرها لمسايرة الهجوم البرجوازي في نضال الثوريين داخل النقابات دفاعا عن نقابة صراع طبقي، لا هجر النقابات، ولا الاستسلام للبيروقراطية لقاء مواقع في الاجهزة.
إن مبررات موقف النهج الديمقراطي من الانتخابات تعبير عن ارتباك ايديولوجي يفسد وعي العمال والكادحين والشباب الثوري، لا سيما أنه ينطلق من نوايا جذرية، وهو لذلك يستدعي التصحيح عملا بقاعدة "إن موقف الحزب السياسي من أخطائه هو واحد من أهم وأصدق الأدلة على جدية الحزب وتنفيذه في الواقع واجباته إزاء طبقته والجماهير الكادحة. إن الاعتراف جهارا بالخطأ، والكشف عن علله، وتحليل الظرف الذي أدى إلى ارتكابه، والبحث باهتمام في وسائل إصلاح الخطأ إنما هو علامة الحزب الجدي، إنما هو تنفيذه لواجباته، إنما هو تربية وتعليم الطبقة ومن ثم الجماهير." [لينين- مرض الشيوعية الطفولي]
منطق ديمقراطي صرف
ختاما لا بد من إشارة إلى نقص خطير يعتري تناول حزب النهج الديمقراطي لمسألة الانتخابات، نقص جلي في القسم المخصص للموضوع في وثائق المؤتمر الأول. فالحديث كله يجري عن مشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها بصفة قوة ديمقراطية جذرية، لا بصفة منظمة عمالية اشتراكية. وقد جاء في الخلاصة أن تلك القوة الديمقراطية الجذرية تعبير عن جبهة الطبقات الشعبية.
يريد النهج الاقتداء بالبلاشفة، وحسنا فعل، لكنه يفكر في الانتخابات بمنطق جبهة الطبقات الشعبية (أي كل الطبقات ما عدا السائدة)، لا بمنطق تنظيم العمال المستقل. لقد استعمل البلاشفة الانتخابات بمنطق ماركسي أي بصفتهم حزبا عماليا اشتراكيا، وتناولوا الموقف حيال قوى طبقية ديمقراطية أخرى كمسألة تحالفات لا مسألة قوة يجمعها إلى الطبقة العاملة تنظيم واحد.
لا غرابة والحالة هذه أن يغيب كليا بوثيقة المؤتمر الأول للنهج النظر إلى استعمال الانتخابات لغاية التعريف بالاشتراكية.
ليس في الأمر صدفة ولا سهو، إذ ينبع مباشرة من فهم المهام بما هي مهام تحرر وطني وبناء ديمقراطي، أما الاشتراكية فمؤجلة إلى يوم الحشر. إن في الأمر تجاهل للطابع الدائم للسيرورة الثورية بالبلدان التي تمتزج بها مهام التحرر الوطني والديمقراطية بمهام التحرر الاجتماعي. إنها نظرية الثورة على مراحل، أي تلك النظرة الميكانيكية إلى المشاكل السياسية المتداخلة بالبلدان التي دخلت الرأسمالية ولم تنجز بعد ثورتها الديمقراطية(البرجوازية). إنها تجاهل لدروس ثورات القرن العشرين بالبلدان التابعة. وهذا من القضايا المستدعية لإعادة نظر في إرث الحركة الماركسية اللينينية المغربية، ستأتي فرصة تناوله بتفصيل.
إحالات
1- راجع:
Une longue impactience
مسار سياسي لدانيال بنسعيد [ من مؤسسي العصبة الشيوعية الثورية وقادتها] ص 130 منشورات Stock -. 2004
2- راجع أطوار مشاركة هذه المنظمة الثورية بالانتخابات في كاتب جان بول ساليس
العصبة الشيوعية الثورية (1968-1981)
Presses Universitaires de Rennes- 2005
3- أنظر مثلا رسالة 23 مارس إلى قيادة منظمة إلى الأمام – ملحق كتاب مصطفى بوعزيز "اليسار المغربي الجديد النشأة والمسار...1975-1979). تينمل للطبع والنشر-مراكش. 1993
===============================
مساهمة في تعميق النقاش حول الانتخابات على ضوء آراء النهج الديمقراطي
السبت 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2009
المناضل-ة عدد: 23
مجيد أيور
مع اقتراب الانتخابات، يحتل النقاش حولها الصدارة. فبين مشارك ومقاطع، تتعدد الآراء حول دور الانتخابات والمؤسسات، ثمة من يعتبرها الإمكانية الوحيدة لما يسميه "انتقالا ديمقراطيا" كفاتحة للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، ومن يراها مجرد حلقة من مسلسل تقوده الملكية لتمويه استفرادها بالحكم وتزكية سياساته (وهو تقييم صحيح مبدئيا) ويدعو بالتالي إلى مقاطعته.
إن دلت حدة النقاشات حول مسألة الانتخابات، فإنما تدل على بقاء مسألة الديمقراطية –كمطلب أساسي وحيوي- معلقا وغير محقق، بين مطرقة قيادة قوى غير ديمقراطية –بورجوازية بالأساس- للحركة المطالبة بها ورفض الملكية الانصياع لمطالبها، وسندان عدم قدرة اليسار على استجلاء الطريق الكفيل لقيادة المعركة من اجل الديمقراطية ومن بينها استعمال مؤسسات الديمقراطية المزيفة قصد رفع وعي الكادحين السياسي.
هذه الورقة مساهمة في النقاش الذي افتتحته جريدة المناضل-ة قصد إخراج نقاش الانتخابات من التشويش الذي احاطه بها اليسار المغربي، واستجلاء الموقف الماركسي من هذه المسألة، أي أنجع السبل لتطوير نضال الطبقة العاملة.
ربما أصبح تكرار الأخطاء ميلا أساسيا في الحركة العمالية، يحتم على اليسار إعادة اكتشاف البديهيات التي لم يبرهن الماركسيون على صحتها النظرية فحسب، بل برهنت التجربة التاريخية للحركة العمالية على ضرورتها العملية لتطوير نضالها.
وتدخل مسألة الانتخابات بشكل خاص، واستعمال مؤسسات الديمقراطية البورجوازية الشكلية من طرف الماركسيين بشكل عام، في هذا الباب.
ما مضمون موقف المقاطعة؟ عادة ما يسترشد المناضلون بالتجربة التاريخية، وفي هذا الباب بالذات بتجربة البلاشفة ".. فالبلاشفة مثلا قاطعوا الانتخابات في فترة ما وشاركوا فيها في فترة أخرى" وثائق المؤتمر الوطني الأول للنهج الديمقراطي. لكن هذه الإحالة تورد دون ان يستنتج منها القرار السليم بخصوص التعامل مع الانتخابات.
فرغم الحجج التي يوردها النهج الديمقراطي حول عدم اعتبار المقاطعة قرارا مبدئيا وقاطعا، ".. ليس لنا موقفا عدائيا و"عدميا" من المشاركة في الانتخابات بشكل عام". إلا أن هذا التقرير لا يجد تعبيرا عنه في الواقع إلا على شكل مقاطعة تلو الأخرى، دون الاستفادة من تجارب الحركة العمالية والماركسيين الثوريين، بالخصوص منهم تجربة البلاشفة التي استشهد بها النهج الديمقراطي.
لكن كما خاطب لينين طفوليي اليسار آنذاك "حبذا لو قللتم من كيل المديح لنا، وأكثرتم من دراسة تكتيك البلاشفة ومن التعرف به". هكذا يجب ان نخاطب دعاة المقاطعة في هذا العصر. فبدلا من استعارة شعار منزوع من سياقه التاريخي، هلا قاموا بدراسة متأنية لهذا الشعار مع وضعه في سياقه.
لقد عرف البلاشفة شعار المقاطعة ثلاث مرات 1905 و1906 و1907. وفي هذا السياق نترك لينين يتكلم " إن التجربة الروسية بينت لنا تطبيقا ناجحا وصحيحا لمقاطعة البلاشفة للبرلمان (سنة 1905) وآخر خاطئا (سنة 1906)"، أما في 1907 أيدت أغلبية الحزب البلشفي المقاطعة، بينما وافق المناشفة كليا على المشاركة في الدوما، وكان لينين البلشفي الوحيد الذي صوت إلى جانب المناشفة لصالح المشاركة في الانتخابات، دون أن يعني ذلك ان لينين كان ينتظر من الدوما ما كان ينتظره منها المناشفة.
السؤال المطروح بعد هذه الاشارة التاريخية: أين تكمن صحة شعار المقاطعة في حالة 1905 وخطأها في 1906، ولماذا صوت لينين ضد البلاشفة في 1907 وكتب مقال "ضد المقاطعة" لتبيان ضرر الشعار في ذلك السياق.
الجواب طبعا لا يكمن في عبقرية لينين أو عصمة البلاشفة، بل في الظروف الموضوعية التي رفع فيها شعار المقاطعة مع استحضار الحالة الذاتية للطبقة العاملة (الحزب، النقابات، مستوى الوعي والنضالات الجماهيرية المكشوفة).
يحدد لينين سبب نجاح مقاطعة دوما بوليغين قائلا :"بينا سابقا ان شروط نجاح 1905 تمثل في اندفاع ثوري واسع جدا وعام، قوي وسريع". فهل يرى دعاة المقاطعة في وضع بلدنا حاليا نظيرا لاندفاع نضالي من ذلك القبيل. لا قطعا. فأبسط انتباه لمستوى النضال العمالي والشعبي يالمغرب يقنع أننا في وضع جزر، و لم يستطع الكادحون بعد– لجملة أسباب لا متسع لتفصيلها هنا - حتى رد الهجمات بمعارك دفاعية، ناهيك عن " اندفاع ثوري واسع جدا وعام، قوي وسريع".
الوجه الأخر المميز لمقاطعة البلاشفة الناجحة، و الذي يغيب عن ذهن دعاة المقاطعة في بلدنا، هو المقصود بالمقاطعة. نبه لينين إلى ذلك بقوله" لم تكن المقاطعة نضالا داخل مؤسسة معينة، بل ضد ظهور تلك المؤسسة وبشكل أوسع ضد تحقيقها"...فقد "كانت الدوما الملكية الأولى (دوما بوليغين) طعما لصرف الشعب عن الثورة". وقد أطلق البلاشفة شعار المقاطعة لصرف الشعب الثائر عن الطعم وتوجيهه نحو الطريق المباشر للنضال بدل الطريق المتعرج. وهي حجة واجه بها لينين من اعتبر تلك المقاطعة رفضا من البلاشفة لمبدأ استعمال الماركسيين للمؤسسات التمثيلية.
إن المطروح حاليا على جدول اعمال النضال ضد الاستبداد السياسي في المغرب، في فترة جزر نضالي وهيمنة قوى غير عمالية على النقابات وتغلغل الفكر الإصلاحي داخل الحركة العمالية نتيجة الإفساد الليبرالي لمنظمات العمال طيلة عقود، وغياب حزب العمال الاشتراكي، إلى جانب العوامل الموضوعية؛ ليس نضالا ضد ظهور مؤسسة تريد الملكية تحقيقها بالمغرب كمناورة لتحريف مجرى المد الثوري، وإنما استعمال الانتخابات التي تخضع للتزوير طبعا، ومعها المؤسسات الشكلية طبعا، قصد التربية السياسية للعمال باستعمال منبر البرلمان؛ لا للعمل التشريعي العضوي والحصول على إصلاحات للعمال.
أين يكمن خطأ مقاطعة دوما 1906؟ إنه بكل بساطة في انتفاء شروط المد الثوري الواسع والعام والقوي جدا. وهي نفس المبررات التي رفض بها لينين تصويت غالبية البلاشفة لقرار المقاطعة 1907، ثم أن الدوما لم تكن مجرد وعد أو طعم لصرف الشعب عن طريق الثورة بل أمرا واقعا رغم أنف الشعب، في ظرف جزر ثوري ومد رجعي.
بماذا عارض البلاشفة الدوما الأولى 1905؟
في ظروف المد الثوري الواسع والقوي، جاهد البلاشفة في مقاطعتهم للدوما، على إيجاد بديل لها في الجواب على السؤال التالي: " هل السلطة القديمة هي من سيقوم بدعوة أول مؤسسة تمثيلية في روسيا، مما سيضع الثورة على الطريق الملكي الدستوري لفترة..؟ أم أن الشعب هو الذي سيكنس أو يزعزع، في أسوء الحالات، السلطة القديمة بهجوم مباشر..".
كان الخيار إذن حين دعا البلاشفة لمقاطعة دوما 1905؛ إما طريق الثورة المباشر، أو الطريق المتعرج الذي تقترحه القيصرية في شكل دوما استشارية.
لم يكن البلاشفة هم الذين خلقوا المؤسسات التمثيلية التي عارضوا بها أول مؤسسة تمثيلية (استشارية) دعا إليها القيصر، بل الشعب في خضم نضاله الثوري "عوض المؤسسات التمثيلية من النوع الليبرالي البوليسي بمؤسسات تمثيلية من النوع الثوري الخالص، أي سوفياتات مندوبي العمال، الخ" لينين.
بماذا يعارض مقاطعونا الانتخابات والمؤسسات التمثيلية عندنا؟ إذا تغاضينا عن اختلاف سياق 1905 عن سياق وضعنا الحالي، أي انعدام الخيار بين الطريق المباشر والطريق المتعرج، لأن هذا الأخير هو أمر واقع عندنا بالمغرب، فالمقاطعون لا يقدمون بديلا غير تصور الانتخابات الحالية والمؤسسات التمثيلية الحالية بصورة مثالية: يعارضون الدستور الحالي بمطلب دستور ديمقراطي، والانتخابات المزورة التي تتحكم فيها الداخلية بانتخابات مزورة لا تتحكم فيها الداخلية، وحكومة لا تنبثق من الأغلبية وغير مسؤولة أمام البرلمان بحكومة مسؤولة ومنبثقة من الأغلبية (وردت هذه المطالب في المنشور المعنون "لا للاستبداد المخزني، نعم للدستور الديمقراطي 17/09/2006)؛ "نناضل من اجل إقامة نظام ديمقراطي يرتكز إلى دستور ديمقراطي بلورة ومضمونا وتصديقا وعلى انتخابات حرة ونزيهة على أساسه وإلى توفير مناخ ديمقراطي عبر إضعاف البنية المخزنية وعزل المافيا المخزنية (عدم الإفلات من العقاب، إخضاع الأجهزة السرية الأمنية للمراقبة الديمقراطية، جهاز قضاء مبني على أسس الاستقلالية والكفاءة والنزاهة...." وثائق المؤتمر الأول للنهج الديمقراطي ص52
إنها- بشكل لا جدال فيه- مطالب مشروعة (خصوصا لمن يرى في ذلك طريق للتطور السلمي إما نحو الديمقراطية أو حتى الاشتراكية). مطالب من شأنها توسيع ( توسيع لا غير) هامش الديمقراطية الشكلية بالمغرب. لكنها لا تشكل حجر الزاوية في الموقف الماركسي من الانتخابات.
فبدلا من استعمال الانتخابات الواقعية والمؤسسات الواقعية للتحريض ضد جرائم النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ورفع وعي الكادحين وصدمهم بحدود مؤسسات الديمقراطية البورجوازية يكتفي المقاطعون بإعلان تبرم سلبي من المشاركة وتعويضها بالمطالبة بانتخابات حرة ونزيهة.
الحجة الأخرى التي يطرحها النهج الديمقراطي في وثائق مؤتمره الأول هو "عدم قدرة القوى الديمقراطية على الاستفادة من الانتخابات لضعفها وضعف ارتباطها بالجماهير الشعبية"، فـ"في ظل هذا الوضع تؤدي مشاركة الديمقراطيين في الانتخابات والمؤسسات إلى اندماجهم التدريجي في البنيات المخزنية"، ويطرح كمهمة أساسية "التي يجب السعي إلى إنجازها هي الارتباط بالجماهير الشعبية لتوفير شروط بناء قوة ديمقراطية جذرية قادرة على الدفاع باستماتة على المطالب الديمقراطية".
إذا كان التخوف من الاندماج في مؤسسات الديمقراطية البورجوازية مشروعا، وسبق للماركسيين أن وجدوا له حلا في خضوع نواب الحزب لمراقبة هذا الأخير ولتعليماته وتوجيهاته. فإن ما يطرحه النهج من جعل ارتباط "القوى الديمقراطية" بالجماهير كمهمة أساسية سابقة للمشاركة في الانتخابات كمهمة لاحقة، كمن يضع العربة أمام الحصان. فالمعضلة يا سادة أن من لا يستطيع المشاركة في الانتخابات وتكوين كتلة برلمانية لن يستطيع بأي حال من الأحوال تحقيق "الارتباط بالجماهير الشعبية". والوجه الآخر للمشكلة هو أنه لا يمكن تحقيق هذا الارتباط دون معرفة كيف نستعمل مؤسسات الديمقراطية البورجوازية- كيفما كان شكلها- لتحقيق هذا الارتباط.
فخارج ظروف المد الثوري، يصبح شعار المقاطعة شعارا في غير محله ويؤدي إلى انعزال الطليعة وانقطاعها عن جماهير الشغيلة. وهذا ما اعترف به النهج في نفس المصدر "وفي المقابل تظل مقاطعة الانتخابات بدون تأثير جدي وبدون فعالية سياسية واضحة"، دون ان يستنتج من ذلك الموقف الصحيح، فجوبا على سؤال " فهل سيساعد خوض غمار الانتخابات (إما عبر المشاركة فيها أو مقاطعتها (؟) على ضرب العزلة الجماهيرية وتقوية التوجهات الديمقراطية الجذرية؟ يجيب النهج في الصفحة 56 من الوثائق "إننا لا نعتقد ذلك" والسبب في اعتبار الطابع الفوقي والمناسباتي للحملة الانتخابية، كأن مشاركة الماركسيين في الانتخابات ستكون مماثلة لمشاركة الأحزاب الأخرى.
"إن العمل البرلماني،...، يجب ان يخضع كليا لأهداف ومهام نضال الجماهير خارج البرلمان". وردت هذه الصيغة في مقررات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية، وهي غير واردة في مقررات المؤتمر الأول للنهج الديمقراطي، كأنها موجهة لماركسيين غير ماركسيي المغرب. ثم إن مضمون خوض الماركسيين الانتخابات (إما عبر المشاركة فيها أو مقاطعتها) ليس فقط مختلفا لنظيره عند الأحزاب الأخرى، بل مناقضا تماما. فالمشاركة في الحملة لا تكون عبر وعد الجماهير بتحقيق شيء ما عند الوصول إلى البرلمان، بل بالنضال ضد الأوهام والآمال التي تعلقها الجماهير على هذه المؤسسات. ولا ينزج الماركسيين في حالة الترشيح في "التقاليد الانتخابية السائدة بل يقفون ضدها عمليا: أي أنها لا تكتفي بفضح تحريضي لمهزلة الانتخابات والديمقراطية البورجوازية، بل ترشح قدر إمكانها رفاقا ينتمون إلى الأوساط البروليتارية"، ويقومون بالتعبئة الانتخابية أمام أبواب المعامل وبين مسحوقي الريف والمدينة، جاعلين نضالهم الانتخابي خاضعا لضرورة نضال الجماهير خارج البرلمان.
أما عن شكل المقاطعة، فإن ما يقوم به النهج الديمقراطي بالمغرب مقاطعة سلبية لا علاقة له بالمقاطعة كما قام بها البلاشفة،"يتعلق الأمر.. بالمقاطعة النشيطة، أي ليس بمجرد امتناع عن المشاركة في مساعي النظام القديم بل هجوم ضد هذا النظام. ويجب تذكير القراء... أن الاشتراكيين- الديمقراطيين تحدثوا صراحة عن المقاطعة النشيطة معارضين قصدا المقاطعة السلبية ورابطين عمدا المقاطعة النشيطة بالانتفاضة المسلحة" لينين.
حجة طبيعة النظام؟
رغم ان النهج لم يستعد هذه الحجة في وثائق مؤتمره بل أقر بعدم صحتها، "إن موقف المشاركة في الانتخابات لا يتحدد، بالأساس، بطبيعة النظام القائم و"ديمقراطيته" ودستوره ومؤسساته". فإن مطالبة النهج بدستور ديمقراطي وشفافية الانتخابات كشرط لمشاركته فيها يجعل من هذه الفقرة مجرد تقرير أدبي وحذلقة كلامية، مادامت مقاطعة انتخابات 2007 تم تبريرها بـ" تشبث النظام بدستور يشرعن الاستبداد المخزني والحكم الفردي المطلق" وقانون الأحزاب ولا ديمقراطية التقطيع الانتخابي. (بيان الكتابة الوطنية حول مقاطعة الانتخابات).
إن قانون الصحافة في المغرب "غير ديمقراطي" لكن اليسار المغربي لا يني ينشر الجرائد في إطار هذا القانون، نفس الشيء بالنسبة لقانون تأسيس الجمعيات وهلم جرا... طبعا نؤسس الجمعيات ونصدر الصحف لا لاعتقادنا بأن القوانين المؤطرة لها ديمقراطية وقادرة على إعطاء إصلاحات للعمال، ولكن باعتبارها وقصد استعمال لتربيتهم ورفع وعيهم. فما ميزة الانتخابات حتى نستثنيها من الاستعمال.
إن مبرر لا ديمقراطية النظام ولا شفافية الانتخابات، قد يشكل سببا لعدم الاشتراك في الانتخابات لو كانت الغاية من الاشتراك تغيير نظام الحكم، أي لو كان يراد القضاء على أوضاع الاستغلال السائدة، بواسطة البرلمان. وهو ما أقره المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية: "لا يمكن التذرع ضد النشاط البرلماني بالصفة البورجوازية للمؤسسة ذاتها. فلا يدخل إليها الحزب الشيوعي للقيام بعمل نظامي، بل لتهديم الآلة الحكومية والبرلمان من الداخل...". لا بد أن هذه الفقرة غائبة كليا عن أنصار المقاطعة.
الأساس السيكولوجي للمقاطعة
غالبا ما يجد نداء المقاطعة أساسه في الانطباع النفسي الذي تولده مشاركة الأحزاب الأخرى في البرلمان وسائر المؤسسات. أي أن عدم رغبة دعاة المقاطعة في المشاركة هو قرف صحي من طبيعة الممارسة البرلمانية بالمغرب، وهي ممارسة انتهازية. فحسب دعاة المقاطعة لم تختلف مشاركة أحزاب الكتلة في البرلمان وتسيير المجالس البلدية عن نظيره عند الأحزاب الإدارية. "في ظل غياب قوة ديمقراطية جذرية متجدرة نسبيا وسط الجماهير تؤدي مشاركة الديمقراطيين في الانتخابات والمؤسسات إلى اندماجهم التدريجي في البنيات المخزنية". وثائق المؤتمر الأول للنهج الديمقراطي ص56
لكن انتظروا يا سادة. منذ متى يبنى التكتيك الثوري على أساس انطباعات نفسية. أنكم بهذا تستبدلون الماركسية بردود فعل نفسية، وإن كانت صحيحة، فإن استعمالها في السياسة مهلك لا محالة. فمن السهل على المرء حسب لينين "أن يظهر ثوريته عن طريق الشتائم وحدها الموجهة إلى الانتهازية البرلمانية، أو فقط عن طريق نفي الاشتراك في البرلمانات"، فهل يرفض دعاة المقاطعة إصدار الجرائد في إطار قانون الصحافة الحالي، لمجرد أن دعاية أحزاب الكتلة لا تختلف عن تبليد العقول الذي تقوم به الصحافة التابعة لأحزاب الإدارية أو حتى صحافة النظام.
لقد حددت الأممية الثالثة في حقبتها اللينينية أساس وضع أي تكتيك "ينبغي أن تتخذ الشيوعية الدراسة النظرية لعصرنا كنقطة انطلاق" (قرارات المؤتمر الثاني). وأضاف لنين أن التكتيك الثوري يجب ان يوضع "ببرودة دم ويقوم على حساب دقيق وموضوعي تماما لجميع القوى الطبقية في الدولة المعنية (والدول المحيطة بها، وجميع الدول في المجال العالمي) وكذالك على مراعاة تجربة الحركة الثورية. إن هذا ينتفي عند دعاة المقاطعة بالمغرب، ويكتفون بتقرير أن "إمكانية الاستفادة من الانتخابات متوفرة لكن محدودة جدا، لأن النظام يتحكم في الإعلام السمعي- البصري، ولأن السلطة الحقيقية غير قابلة للتداول دستوريا، لذلك فإننا نضع على رأس أولوياتنا مسألة الدستور الديمقراطي ومسألة دمقرطة الدولة" وثائق المؤتمر الأول النهج الديمقراطي. الأساس المادي للـ"ديمقراطية:
"... نضع على رأس أولوياتنا مسألة الدستور الديمقراطي ومسألة دمقرطة الدولة". ماذا تفترض هذه المسألة الموضوعة على رأس الأولويات يا ترى؟
"ينبغي أن تتخذ الشيوعية الدراسة النظرية لعصرنا كنقطة انطلاق". هذه النصيحة الأساسية للأممية الثالثة تم نسيانها كغيرها من تعاليم الماركسية الثورية. إن الديمقراطية ليست مبدأ مجردا ومعلقا في الفضاء. فقد علمتنا الماركسية ان لكل أشكال الحكم المتعاقبة في التاريخ أساسها المادي في الهيكل الاقتصادي للمجتمع وفي صراع ووضع الطبقات الاجتماعية المنبثق من هذا الهيكل الاقتصادي.
لندع أحد معلمي الماركسية يتحدث عن هذا الجانب. "فالديمقراطية كنظام سياسي تكون أثبت وأكمل وأمتن كلما احتلت جماهير المدن والأرياف البرجوازية الصغيرة، غير المتمايزة من وجهة النظر الطبقية، مكانا أوسع في الحياة الاجتماعية".
"... وتنجح الديمقراطية البورجوازية في أداء مهمتها على وجه أفضل كلما كانت مدعومة بطبقة بورجوازية صغيرة واسعة، وكلما كانت أهمية هذه الطبقة في الحياة الاقتصادية أكبر، وكلما كان مستوى التناحرات الطبقية بالتالي أدنى".
لكن مستوى التصنيع الذي أحدثته الرأسمالية قلص بكثير من أهمية هذه الطبقة وأفقدها موقعها الأساسي الذي كانت تحتله في الإنتاج؛ "... إن قيمة الثروات التي تصبها البورجوازية الصغيرة في أرباح الأمة قد سقطت بسرعة أكبر بكثير من أهميتها العددية".
"فالبورجوازية الصغيرة، باحتلالها في السياسة البرلمانية المكان الذي فقدته في الإنتاج، قد أساءت نهائيا إلى البرلمانية عندما جعلت منها مجرد ثرثرة مائعة..". (هذه الاستشهادات مأخوذة من كتاب "الشيوعية والإرهاب" ليون تروتسكي).
يضاف على ذلك أن فقدان الاستقلالية الاقتصادية بالنسبة لمثقفي هذه الطبقة كوجه لفقدان هذه الأخيرة لموقعها الاقتصادي، يحول هؤلاء المثقفين إلى خدام للبورجوازية وتغدو الخطابات الديمقراطية بالنسبة إليهم مجرد تستر عن عجزهم السياسي، إزاء التفوق الاقتصادي للبورجوازية والتفوق السياسي للبروليتاريا.
هذه هي حقيقة استحالة الديمقراطية البورجوازية تاريخيا في بداية القرن العشرين. يتعامى عنها المقاطعون، خصوصا وأن هذه الاتجاهات قد دفعتها عولمة رأس المال إلى حدودها القصوى؛ " الطبقات والفئات الشعبية، بما في ذلك الطبقات الوسطى تعاني من تدهور مريع لأوضاعها.." ص30؛ " إن الطبقات الوسطى التي قد تحمل هذا المشروع تعاني من سيرورة من التفقير والبلترة تجعل السواد الأعظم منها يصارع خطر الاندحار الطبقي باللجوء إلى الحلول الوهمية..." ص31. وثائق المؤتمر الأول للنهج الديمقراطي.
إن النهج الديمقراطي يضع على رأس أولوياته تحقيق مهمة يعتبر هو نفسه شروطها الموضوعية منتفية.
لكن الأخطر في الأمر وهو ما أشارت إليه وثائق المؤتمر الأول للنهج الديمقراطي، هو أن هذه الطبقة تواجه "خطر الاندحار الطبقي باللجوء على الحلول الوهمية..". مما يعني ان الطبقات الوسطى لم تعد قاعدة للديمقراطية فحسب، بل أصبحت المزود الأساسي لخطر القوى الرجعية التي تهدد في حالة انتصارها كل مكسب "ديمقراطي".
ولكن لنفترض جدلا وجود هذه الشروط، ولنناقش المسألة من وجهة أخرى. ماذا يفترض تحقيق الديمقراطية بالمغرب حتى بمضمونها البورجوازي. إن الدستور الديمقراطي ودمقرطة الدولة، يعني إجبار الملكية المتمسكة بمطلق سلطاتها على الركوع. وهذا يفترض مدا نضاليا جماهيريا (وليس إعادة لمهزلة الكتلة الديمقراطية بالمغرب)، يكون في مستوى ليس إفشال مخططات القمع فقط، بل قادرا على استجلاء الطريق الحقيقي للنضال أمام المناورات التي ستقوم بها الملكية إزاء هكذا وضع.
إن تقديس الديمقراطية والدساتير الديمقراطية، والسجود أمام صنم المؤسسات الديمقراطية البورجوازية قد يكون له دور مشؤوم، حينما يصل نضال الشعب من أجل الديمقراطية والحرية إلى مستوى النضال المكشوف والحازم. كما لعب المناشفة هذا الدور في 1905 حينما أرادوا ابتلاع طعم الوعد القيصري بدعوة الدوما إلى الانعقاد، متغافلين بذلك عن منظورات النضال التي افتتحها الشعب آنذاك، مفضلين الطرق الملتوية والمتعرجة التي اقترحتها القيصرية عن الطريق الثوري المباشر الذي فرضه الشعب.
لكن هل تعني استحالة الديمقراطية البورجوازية تاريخيا، استحالتها سياسيا. طبعا لا. فـ"القضية هي بالضبط في ان لا نعتبر ما ولى عهده بالنسبة لنا، قد ولى عهده كذلك بالنسبة للطبقة وبالنسبة للجماهير، لينين". فالشعارات الديمقراطية تلعب دورا أساسيا في رفع وعي العمال والشعب، وقوة الاستبداد وفظاعاتها تضع مسألة الحريات الديمقراطية "على رأس أولوياتنا"، لكن دون الوقوف عند هذا الحد طبعا.
فالنهج الديمقراطي، كالذي يغني أغاني الأفراح في الجنائز، وأغاني الحزن في الأعراس. فهو يقبل بالديمقراطية ( المطالبة بالدستور الديمقراطي، النظام الديمقراطي، بناء المجتمع الديمقراطي كهدف مرحلي..)على المستوى الذي تستحيل فيه نظريا وتاريخيا، ويرفضها على المستوى الذي لا زالت تغذي فيه أوهام الشعب في قدرة هذه المؤسسات على تحقيق شيء لصالحها (الانتخابات إلى المؤسسات التمثيلية حتى في طبعتها المزورة).
استدراك
نقاش الانتخابات واستعمال الديمقراطية الشكلية، لا يهم كما يحاول دعاة المقاطعة إيهامنا بذلك، البلدان المتخلفة حيث الاستبداد السياسي يعدم كل إمكانية للمشاركة في البرلمانات أو المؤسسات. فقد طرح هذا النقاش على المستوى العالمي منذ بداية القرن العشرين، ووجد تعبيره النظري والسياسي في مقررات الأممية الثالثة قبل مرحلتها الستالينية. وأعاد الهجوم النيوليبرالي الذي أطلقته البورجوازية العالمية هذا النقاش من جديد، بحرمانها الدول القومية – بكافة أجهزتها- من سلطة القرار، ووضعها في يد مؤسسات فوق دولتية (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية..)، وتحويل الدول القومية إلى مجرد أجهزة تنفيذية للقرارات المتخذة على المستوى العالمي من طرف المؤسسات المذكورة.
=============================
انتخابات 7 سبتمبر 2007 : الامتناع الشعبي وموقف اليسار الجذري
الثلاثاء 26 شباط (فبراير) 2008
المناضل-ة عدد: 18
رفيق الرامي
جرى اعتبار نتائج انتخابات 7 سبتمبر 2007 زلزالا ، وابتهج معظم اليسار الجذري لما بلغته نسبة رفض المشاركة، و طرحت تساؤلات كبرى لدى اليسار الليبرالي غير الحكومي حول دلالة الصدمة و آفاق المستقبل. فماذا تمثل تلك الانتخابات قياسا بسابقاتها، وما الدلالة السياسية للموقف الشعبي الرافض؟
تعطي الانتخابات في الديمقراطيات البرجوازية صورة مشوهة عن المشاعر السياسية للجماهير المضطهدة لكنها تقدم أيضا مؤشرات عن تطور ميزان القوى. في ظل الاستبداد "الديمقراطي" القائم بالمغرب لم تكن نتائج تلك الانتخابات تعكس سوى إرادة الحاكم الصانع لخريطة سياسية بمؤسساته غايتها مجازاة حلفائه من البرجوازيين وملاكي الأراضي الكبار، وإيهام جماهير الشعب المتخلفة سياسيا بوجود ديمقراطية، وإعطاء مثقفي البرجوازية " المعارضين" حلبة للعب البرلمانية دون برلمان.
دلالة الامتناع الشعبي عن التصويت
جديد انتخابات 7 سبتمبر هو اتضاح نسبة رفض اللعبة سواء بكثافة هجر مكاتب الاقتراع، أو الأصوات الملغاة. ليست النسبة بحد ذاتها جديدة، فعقود من التزوير أقنعت حتى فئات عريضة ممن لا تربية سياسة لديهم من الكادحين بعبثية "المسلسل الديمقراطي" المتواصل منذ 30 سنة. الجديد ان استسلام المعارضة البرجوازية التام منذ عشر سنوات، وإحكام التحكم بالأحزاب بآلية توجها قانون الأحزاب، جعلا الحكم مستغنيا عن التدخل الفج في نتائج الاقتراع. غاية التخلي عن التزوير المكشوف [ ملء صناديق الاقتراع، اختطافها وما شابه من أساليب أيام البصري] هو إضفاء مزيد من المصداقية على "الانتقال الديمقراطي" و"العهد الجديد". أتاح هذا التخلي بروزا جليا لحجم السخط الشعبي
تقديم حكومة الواجهة المسماة "حكومة تناوب" بما هي "وصول الاشتراكيين إلى الحكم"، ودور الاتحاد الاشتراكي في المعارضة السياسية وبالساحة النقابية، و صعود ملك جديد، كلها عوامل أحدثت تطلعات إلى تحسين الأوضاع. لكن تلك الحكومة لم تكن سوى أداة لتمرير ما لم تجرأ عليه الفرق الحكومية السابقة من تدابير مملاة من البنك العالمي والاتحاد الأوربي: خوصصة كل ما يتحرك،إلغاء مجانية خدمات الصحة، تدمير التعليم العمومي بما سمي ميثاقا وطنيا، تعميم هشاشة الشغل، استشراء البطالة، امتيازات للرأسمال الكبير المحلي والامبريالي. ورغم ما أتيح من تنفيس للسخط على عهد الحسن الثاني بترك الصحافة تكشف ما اقترف، ورغم عملية " الإنصاف والمصالحة" التي جرى بها تسخير طاقم من قدماء اليسار الماركسي، للإيحاء بالقطع مع فظاعات التقتيل والتعذيب، ورغم أشكال الترقيع الاجتماعي المتنوعة، كانت عشر سنوات كافية لإثبات ان لا شيء تغير جوهريا. فجاءت مطالبة الناس بالتصويت، مطالبة بلغت حد تخصيص خطاب ملكي لذلك،لتعطيهم فرص التعبير عن سخطهم.
ثمة عاملان يتيحان الحكم على جوهر الموقف الشعبي الرافض لانتخابات 7 سبتمبر: 1- ظلت قوى ناقصة النزعة الديمقراطية (ليبرالية)، لا سيما الاتحاد الاشتراكي، محتكرة للمعارضة الشرعية طيلة عقود، فبسطت هيمنة سياسية واسعة أتاحتها قدرات إعلامية كبيرة، ومواقع بالمؤسسات، وبمنظمات النضال. وبالمقابل انعدمت قوة ديمقراطية فعلية،ما أمكن أن تكون غير حزب العمال، وذلك بفعل اجتثاث الملكية للأجنة الماركسية، وقصور هذه السياسي. لم تتلق الجماهير الشعبية من جراء هذا أي تربية سياسية تصقل ميولها الديمقراطية وتمكنها من النضال من اجل أهدافها الخاصة بها. لم تنشأ تقاليد نضال ضد الاستبداد السياسي (دستور حكم مطلق، وتغييب للحريات، وتزوير...)، ولم تتبلور أي مطالب سياسية شعبية. فحتى في عز "تصعيدها" لم تشأ المعارضة البرجوازية التعبئة الشعبية، بل حرصت على العمل الفوقي [المذكرات إلى القصر]، والضغط بالإضرابات العمالية المتحكم بها بشدة. حتى التجارب التي تدخلت فيها الجماهير من تلقاء نفسها ضد التزوير [ أبرزها سيدي بطاش] تخلفت عنها الأحزاب "الديمقراطية".
2- جرت انتخابات سبتمبر 2007 في سياق تراجع عام لحركة الجماهير النضالية، إذ توجد الحركة النقابية العمالية في درك غير مسبوق منذ عقود، درك بدأت التدحرج إليه منذ اتفاق النقابات السائرة في فلك المعارضة الليبرالية مع أرباب العمل ودولتهم في غشت 1996، تمهيدا لدخول تلك المعارضة الى حكومة الواجهة. كما تعاني باقي مكونات الحركة الجماهيرية أزمة مستحكمة تمثل حالة حركات الشباب المتعلم ( الطلاب والمعطلين) اشد أوجهها تفاقما. ولا يستثنى من هذه اللوحة القاتمة غير صبوات الكفاح الشعبي بالقرى المتنامية منذ متم سنوات 1990،والتي مثلت نضالات كادحي طاطا وايفني أعلى مستوياتها، لكنها مجزأة وفي طور ابتدائي مطلبيا وتنظيميا.
هكذا فالعامل التاريخي (افتقار الجماهير إلى تربية سياسية)، وسياق الانتخابات غير النضالي، يدلان على أن الرفض الشعبي لانتخابات 2007 استياء لا غير. قد يكون هذا الاستياء مقدمة لتطور سياسي ايجابي، بما هو تعبير عن قابلية للتجاوب مع خط سياسي جذري، كما قد يفضي الى سلبية سيستفيد منها الحكم الذي دأب على إفقاد كل القوى السياسية الاعتبار ليبرز كقادر وحيد على قيادة البلد. باختصار لم تعد الجماهير الشعبية تترجى شيئا من " اللعبة الديمقراطية" لكنها لا تستشرف أي بديل. فماذا بعد الامتناع عن التصويت؟
أن ما كشفه 7 سبتمبر 2007 من حالة ذهنية ساخطة لدى الجماهير لشعبية، يدل على تحسن شروط عمل سياسي يساري بديل، لا سيما أن الحركة الرجعية الدينية المستفيدة من لجوء قطاعات شعبية مفقرة واسعة إلى الدين، موزعة بين مولاة للنظام مقنعة بمعارضة زائفة بالمؤسسات ( حزب العدالة والتنمية)، و عمل دعاوي مستنكف عن أي تدخل سياسي أو في النضالات الاجتماعية (حركة الشيخ ياسين).
أخطاء اليسار الجذري
واجه معظم اليسار الجذري الانتخابات وشعاره أن لا أهمية لها ولا تنطوي على أي رهان، لأنها تجري تحت الاستبداد وستنتج مؤسسات بلا السلطة. موقف أوجزه أحد كوادره بصيغة: ماذا يمكن ان يربح الكادحون عامة والمناضلون خاصة من المشاركة في انتخابات 7 سبتمبر؟ بالقطع لا شيء. المشاركة لا يمكن إلا ان تعني تزكية الاختيارات المفروضة. [علي فقير، النهج الديمقراطي العدد 119 ص 7]
لم يكن أبدا ما قد تحققه المؤسسات المنتخبة للجماهير الكادحة مقياسا لأهمية الانتخابات بالنسبة للثوريين حتى في مجتمعات الديمقراطية البرجوازية الفعلية، وبالتالي فمنطق اعتماد ذلك حجة لمقاطعة الانتخابات منطق إصلاحي، رغم ظاهره الثوري. لا أهمية للانتخابات والمؤسسات سوى بقدر إمكان استعمال الثوريين لها في الدعاوة والتحريض وتنظيم قوى الطبقة العاملة والكادحين.
لذا فإن رهان الانتخابات الحقيقي، من زاوية مصلحة نضال العمال و عموم الكادحين، وبالنظر إلى ما يميز الوضع السياسي من تنامي الحركة الرجعية الدينية، هو ان يتمكن اليسار الجذري أخيرا من الفكاك من سلبيته، وخوض غمار عمل سياسي على نطاق أوسع، عمل يبدأ التصدي السياسي للمشروع الرجعي الديني، ويتقدم بالبديل الديمقراطي والاشتراكي.
لقد دل اليسار الجذري أنه لا يزال أسير ثقافة سياسية فاسدة تعتبر المقاطعة في وضع غير ثوري موقفا جذريا، إنها مخلفات تربية ميزت الطلاب القاعديين، اقرب إلى الرفض الفوضوي للانتخابات منه إلى الموقف الماركسي الثوري. فهل يمكن ادعاء ان لموقف اليسار الجذري تأثير ما على سلوك العمال، والكادحين، السياسي؟ يصعب هذا جدا لا سيما بالنظر الى موقف مناضليه داخل النقابات العمالية [ انظر مقال النقابات العمالية والانتخابات الى مؤسسات الديمقراطية الزائفة].
لم يكن موقف النهج الديمقراطي بعد نتائج الانتخابات أفضل مما فعل قبلها. فهو يجري وراء سراب قطب يساري ديمقراطي مع قوى ليبرالية مأزومة. ويغذي أوهاما حتى حول الاتحاد الاشتراكي. يتجلى هذا في وثيقة "نداء من اجل الديمقراطية" الصادرة عن الكتابة الوطنية يوم 23 سبتمبر 2007. فهي تعتبر الاتحاد الاشتراكي ومكملاته غير الحكومية قوى ديمقراطية ويقدم تفسيرا لعزلتها ويدعوها إلى النقاش، بدل إبراز دورها في عرقلة تطور حركة ديمقراطية حقيقية، والتأكيد على أن محاربة تأثير الليبراليين شرط تقدم النضال من أجل الديمقراطية.
وينطبق هذا بالكامل على مناشدته لما يسمى "تجمع اليسار الديمقراطي" لاستخلاص دروس الانتخابات الأخيرة للمساهمة في تطوير نضال الشعب (بيان الكتابة الوطنية 21 أكتوبر 2007). فمعظم ذلك التجمع ليبراليون لا إستراتيجية لهم غير وهم التوافق مع الاستبداد، لا فرق جوهري بينهم وبين الاتحاد الاشتراكي، والباقي اسم بلا مسمى. يبدو أن موقف النهج الديمقراطي محكوم بخشية الانعزال عما يسميه "القوى الديمقراطية"، والحقيقة أنها أحزاب برجوازية ليبرالية ملكية، معادية للديمقراطية، توجد قاعدتها الاجتماعية أساسا في المثقفين البرجوازيين (جامعيين ومحامين ومهن حرة أخرى). أما الفئات العريضة من البرجوازية الصغيرة [صغار الفلاحين، والتجار الصغار، والحرفيين...] بالغة التضرر من السياسات الجارية فليست "القوى الديمقراطية" معبرا سياسيا عنها بأي وجه.
إن نقد الليبراليين الذي يخشى النهج أن ينفرهم ويؤدي إلى عزلته في "المشهد السياسي" هو شرط جذب الجماهير الشعبية، أي قوى نضال ديمقراطي حقيقي.
"إن معسكر الديمقراطية، الواعي بحدود الليبرالية، والحر من لبسها، وخمولها وترددها ونظراتها المتخوفة، لا يمكن ان يتشكل، ولا أن يوجد دون نقد منهجي لا يلين ويومي لليبرالية" لينين، الأعمال الكاملة جزء 18 ص 296.
التجمع الذي يراهن عليه النهج مأزوم، فبعد 10 سنوات من "حكومة التناوب"، فشل في بناء معارضة قادرة على التأثير، وستدفع هزيمته الانتخابية المدوية قسما منه الى الاتحاد الاشتراكي، (علما أن لهذا الأخير امتدادا فيه يمثله تيار " فعل ديمقراطي")، لا سيما اذا سلك تكتيك حزب الاستقلال: قدم في حكومة الواجهة وأخرى في "المعارضة"، أي اعتماد لغة ناقدة تكذب على الجماهير ومواقف عملية مساندة للسياسة الامبريالية والملكية.
اليسار الاشتراكي الموحد حزب وحد الإصلاحيين ذوي المشروع البرجوازي ممن يرفضون صيغة "حكومة التناوب"، ويحلمون بإصلاحات دستورية طفيفة توسع إمكان التأثير على سياسة الدولة دون مس بسلطات الملك الأساسية ولا إعادة نظر في العلاقة مع الامبريالية.
أثبتت له نتائجه الانتخابية المتتالية في العقد الأخير عجزه عن ملء الفراغ الذي خلفه الاتحاد الاشتراكي بالمعارضة. وستحتد أزمته لأن الاتحاد الاشتراكي ُمجمع على مواصلة المشاركة بالحكومة، وليس ما شهد من شد وجذب بعد 7 سبتمبر غير صراع داخلي على السلطة. لا يعني الانهيار الانتخابي لليسار الليبرالي استحالة استعادته لموقعه في المؤسسات وبالساحة السياسية عموما، ويكفي التذكير بمسار حزب الاستقلال الذي دخل الحكومة من 1977 وغادرها فاقدا الكثير من رصيده السياسي لدى الجماهير الشعبية، لكنه تمكن بحملة سياسية بتعاون مع الاتحاد الاشتراكي من 1989 إلى 1995 من استعادة مكانته. ليس المرور بتجارب حكومية نهاية الإصلاحية، فقد تنبعث تعبيرا عن بداية نهوض شعبي، أي كدرجة أولى من الوعي لدى الكادحين، فالسعي إلى إصلاح الوضع سابق دوما للاقتناع بلزوم التغيير الشامل والعميق، ولا يجري الانتقال من الأول إلى الثاني إلا عبر سيرورة نضالية.
أيا كان تطور اليسار الليبرالي، يظل جوهر وظيفة أنصار التغيير الحقيقي مؤسسا على الاقتناع باستحالة أي تغيير ما دامت الجماهير الشعبية عديمة الوعي السياسي.
إنماء هذا الوعي بالتربية السياسية للعمال والكادحين بعمل تشهير بالاستبداد، وكشف لأسسه وآلياته،والمستفيدين منه، وصلته بواقع البؤس والقهر الذي تكابده الأغلبية، ومحاربة الإفساد السياسي الذي يضطلع به الليبراليون، تلك مهمة المناضلين الثوريين و محتواها التنظيمي بناء أدوات نضال جماهيري كفاحية، وجمع أفضل قوى هذا النضال في حزب معاد للاستبداد وللرأسمالية. ستشتد تفجرية الوضع الاجتماعي بشكل غير مسبوق،لأن "الإصلاحات" الليبرالية غير مكتملة، والجهات الامبريالية التي تمليها تضغط لتعميقها، ومعها سيشتد القمع لما ستثير من مقاومة، فيتداخل النضال من اجل مطالب تحسين الوضع المعيشي بمطالب الحريات. سيدفع هذا الوضع بقوى جديدة وفتية الى الكفاح على نحو أعطت عنه نضالات 2005 بطاطا وايفني صورة مصغرة جدا، قوى ستجدد أدوات النضال النقابي والشعبي، وتحسن شروط التقدم في بناء حزب التغيير الشامل والعميق.
==============================
النقابات العمالية والانتخابات إلى مؤسسات الديمقراطية الزائفة
الثلاثاء 26 شباط (فبراير) 2008
المناضل-ة عدد: 18
محمود جديد
لا ديمقراطية بدون نضال العمال، هذا ما يضفي أهمية قصوى على سلوك المنظمات العمالية بمختلف اللحظات السياسية، منها الانتخابات. فكيف تتصرف النقابات العمالية خلال الانتخابات ؟ وما دلالة مواقفها؟ ذلك ما نسعى إلى إلقاء الضوء عليه فيما يلي بعودة إلى التاريخ.
ارتمت القيادة التاريخية للاتحاد الغربي للشغل في أحضان النظام منذ مطلع سنوات 1960، أي خلال فترة صراع الملكية مع الجناح الراديكالي للحركة الوطنية. [ راجع تفاصيل السيرورة في نص عمر بنجلون الذي عايش العملية من موقع المناضل داخل إ.م.ش (1)] ، وبذلك وجهت تلك القيادة المنظمة العمالية الوجهة المفيدة للملكية: منع تسيس العمال على نحو مطابق لمصالحهم التاريخية. أفضت تلك السياسة إلى حصر النضال العمالي في مستواه الابتدائي، و بشكل مفكك حيث تراجع بالتدريج اشتغال الاتحاد النقابي كجسم واحد إلى ان انتفى.
تواصلت المواجهة بين النظام و الحركة الشعبوية، المتضمنة ميولا ديمقراطية قوية إلى جانب جناح ليبرالي [بوعبيد]، دون أي مشاركة عمالية. فسار الجناح الجذري نحو كفاح الأقلية المسلح الذي انتهى باستئصال شأفة هذا الجناح [1973]، بينما اتجه الليبراليون إلى بلورة إستراتيجية "النضال الديمقراطي" أي وهم الإصلاح بمؤسسات لم يترك لها الحكم المطلق أي سلطة، تلك كانت انطلاقة الاتحاد الاشتراكي في 1975، انطلاقة سيكون له وقع كبير على الحركة النقابية.
وفي سياق انشغاله بقضية الصحراء، وسعيا لضمان سلم اجتماعي، أطلق النظام يد بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل في جزء من أموال الضمان الاجتماعي (2). فكانت السياسة الصحية والسكنية للصندوق فرصة البيروقراطية الذهبية لإنماء مصالحها، لدرجة جعلت نائب الأمين العام، المرحوم محمد عبد الرزاق، من اكبر أثرياء المغرب(3).
عزز هذا تبعية البروقراطية النقابية للقصر، و زاد المنظمة العمالية تجميدا، وهو التجميد الذي ُفرض طيلة سنوات باعدام الديمقراطية الداخلية لدرجة استعمال العنف.
وهبت سياسة القيادة النقابية تلك الليبراليين فرصة تشتيت الحركة النقابية، ببسط هيمنتهم على قسم من العمال. فباسم الدفاع عن الديمقراطية في النقابة العمالية، وإطلاق النضال العمالي، أسس الاتحاد الاشتراكي نقابة الكونفدرالية. وبخلاف فشل حزب الاستقلال الذي أنشأ الاتحاد العام للشغالين في مطلع الستينات،كان الانشقاق الاتحادي ناجحا: فالطابع التقدمي ذي اللغة " الاشتراكية"، والديمقراطية الداخلية النسبية قياسا على إ.م.ش، وحفز النضلات لا سيما بالقطاع العام، وتحريك سلاح الإضراب العام، مد الكونفدرالية بزخم مكنها من إزاحة الاتحاد المغربي للشغل من قطاعات عمالية أساسية، كالفسفاط ، وسكك الحديد... وبناء قوة نقابية ستكون ورقة أساسية في حسابات الحزب الانتخابية . الاتحاد المغربي للشغل
مع انطلاق "المسلسل الديمقراطي" ، أي انهاء حالة الاستثناء المؤسسية، وجدت قيادة الاتحاد المغربي للشغل نفسها مضطرة لاتخاذ موقف. حافظت تلك القيادة عن لغة يسارية موروثة عن حقبة نشوء النقابة ، لكنها كانت لغة للاستهلاك غير ملزمة بشيء. وقد قال عنها عمر بنجلون:" " إن النثر حول الرجعية والحكم المطلق والاستعمار المقنع وغير ذلك ينتهي دائما بالعموميات والعبارات الفارغة الغامضة من نوع " العمال يرفضون اللعبة" بدون ان يحدد المدلول العملي لهذا الرفض المزعوم [...] ان هذه الطريقة في تجنب المواقف الدقيقة الملموسة تسمح طبعا لأصحابها بان يكرروا بلغة الأساتذة عبارتهم العادية:" تؤكد الاحداث مرة اخرى صحة وجهة نظرنا."
وكان المحك العملي الذي لا تجدي معه الجمل الطنانة الكاذبة لما طرحت مسالة تمثيل العمال في برلمان 1977 . فقد خص الدستور النقابات العمالية بعشرة مقاعد. ظهرت، حسب حسن البزوي عضو قيادة إ.م.ش آنذاك،3 وجهات نظر. الأولى ترفض أي مشاركة، وكانت كاذبة لأن جل المدافعين عنها أصبحوا أعضاء في برلمان 1984، وساندت وجهة النظر الثانية المشاركة بممثلين لا ينتمون للأمانة الوطنية سوى عبد الرزاق الذي سيرأس اللائحة، وكان الموقف الثالث مع الانخراط الكامل في المسلسل الديمقراطي. صدر بيان باسم اللجنة التنظيمية أدان ديمقراطية الواجهة، ونجح 6 من مرشحي الاتحاد المغربي للشغل.".
يبرز هذا جوهر موقف البيروقراطية: الإفادة من فرص المقاعد البرلمانية، وتغذية القاعدة العمالية بجمل كاذبة. وتقدم وثيقة الأمانة الوطنية للاتحاد المغربي للشغل " من اجل رفع تحدي التغيير الديمقراطي في المغرب"[30 يونيو 1992] صورة مكتملة عن الخطاب المستعمل إزاء العمال لحجب تبعية سياسية للقصر، وانتفاعية وضيعة متهافتة على كراسي المؤسسات الزائفة.
وهذا ما فضحه من الداخل القيادي السابق جسن البزوي بقوله:"تحولت مسؤولية الأمانة الوطنية وسيلة للقفز نحو البرلمان... ويجب ان نعترف انه لم يكن أحسن من ذلك وسيلة لزرع الانتفاعية والانتهازية داخل الاتحاد المغربي للشغل، فالمحجوب بن الصديق الذي كنا نرفعه إلى درجة الرمز الضامن لمصداقية منظمتنا ومبادئها السامية لم يكن سوى محرك لهذه النزعة، فقد أراد الذهاب إلى أقصى الحدود في هذه القضية، كان يوقع بنفسه استمارة المرشح التي عادة ما يقوم بها قائد اللائحة ، بل عبر عن رغبته في ان يقود حملته الانتخابية بألوان احد الأحزاب الحكومية. " (4).
وقد بلغ الاستبداد البيروقراطي مستوى الإلغاء التام لإمكان تأثير القاعدة العمالية، فتأبد الإنشاء اللغوي المنافق. فهذا آخر مؤتمر عقده الاتحاد المغربي للشغل، يردده بقول:"يدعو المؤتمر الطبقة العاملة المغربية إلى الوحدة والتضامن والوعي بضرورة خوض معركة الديمقراطية على كل الواجهات ورفع تحدي التغيير الديمقراطي." (5)
ماذا يا ُترى كان التطبيق الفعلي لهذا التوجيه في الانتخابات الأخيرة؟ أول ما يثير الانتباه الصمت الذي لف الأمر.. فمن يعلم ان قيادة هذا الاتحاد عقدت اتفاقا مع حزب إسماعيل العلوي لاعطاء تزكية لأمال العامري المسؤولة النقابية بالقطاع البنكي مقابل دعم النقابة للحزب بالدار البيضاء؟ لقد إدعى مسرب هذا الخبر إلى الإعلام (6) ان الأمر مقتصر على الدار البيضاء، لكن لماذا جرت تعبئة عمال شركة الحراسة Groupe 4 ، المنضوين تحت لواء الاتحاد الجهوي للاتحاد المغربي للشغل بالرباط، في الحملة الانتخابية لمرشح قريب من الملياردير ميلود الشعبي المنتمي لحزب إسماعيل العلوي؟ وإن خفي هذا الأمر الخطير على قواعد النقابة في المدن والبلدات القصية، فلماذا صمتت القيادة المحلية بالرباط؟. هذا صمت شبيه بصمت مطبق أحاط بجرائم أخرى عديدة مرتكبة بحق العمال، أقربها ما جرى باسم فرع النقابة بمناجم جبل عوام في معركة صيف 2007 من خيانة موصوفة.
وثمة حالة أخرى لم تحرك ساكنا في الاتحاد المغربي للشغل، لما جرى تجنيد إجباري لنقابيي بلدية برشيد في الحملة الانتخابية البرلمانية لأحد أرباب العمل في نوفمبر 2007، وأدى الأمر إلى استقالة جماعية وانضمام إلى تنظيم نقابي آخر.[الأحداث المغربية 2 نوفمبر 2007 ]. يعلم الله ماذا فعلت باقي القيادات المحلية، البعيدة اغلبها عن اليسارية، لا بل الشهيرة بأواصرها مع السلطة.
الكونفدرالية الديمقراطية للشغل
تمكن الاتحاد الاشتراكي، مستثمرا نسف القوة النضالية لعمال إ.م.ش ، من جذب أقسام متزايدة من الإجراء إلى تأثيره السياسي. لم تكن قاعدة الكونفدرالية مجرد أعضاء بالاتحاد الاشتراكي، لكنها كانت سياسيا تحت تأثيره. بوجه عام يتصرف العامل الكونفدرالي غير المنتمي سياسيا كنصير لذلك الحزب، بحكم ان مسؤولي النقابة كانوا بالكامل تقريبا ينتمون إليه. وكانت قيادة الكونفدرالية الاتحادية تدعو العمال إلى مساندة حزبها، دون ذكره تحت قناع "الحركة التقدمية"، بمبرر انه " ما فتئ يدعمها في نضالها من اجل عيش كريم" كما جاء في نداء مقاطعة استفتاء 23 مايو 1980. دأبت قيادة الكونفدرالية على توجيه القاعدة النقابية وجهة الاتحاد الاشتراكي، بالدعوة إلى التصويت على مرشحيه. وكان ممثلو النقابة بالبرلمان مكملا لفريق الحزب. على هذا النحو طُـبق مبدأ "الارتباط بحركة التحرر الوطني" الذي تأسست عليه ك.د.ش والذي لا يعني سوى إخضاع قسم من العمال سياسيا لمعارضة برجوازية. وكان الحزب يلجأ، بقصد ترسيخ تبعية النقابة، إلى إيهام العمال بدور ما ايجابي لممثليه بالبرلمان في الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة. كما قامت صحافة الحزب بدور كبير في جر القاعدة النقابية وراء الحزب، لأن انعدام صحافة نقابية مستقلة جعل صحافة الحزب تقوم مقامها.
وقد كانت أجهزة القرار النقابية تتخذ تلك المواقف وتعلنها للعموم، خلافا لبيروقراطية إ.م.ش التي تملأ البيانات ومقررات المؤتمرات بالكلام اليساري عن "الديمقراطية المزيفة" و"رفع تحدي التغيير الديمقراطي" وتسخر في الخفاء النقابة لخدمة ساسة من أعداء العمال.
ولا شك ان ربط النقابة بعربة الحزب أتاحت له نتائج انتخابية بالأوساط العمالية، و تمثل جرادة العمالية في فترة ما نموذجا عنها. أذ ترأس بلديتها عامل اتحادي في وقت كانت النقابة جماهيرية بمنجم يشغل 7000 عاملا.
وستتأثر الكونفدرالية بالتفسخ السياسي الذي أصاب الحزب بعد طول اندماجه بمؤسسات الاستبداد المقنع. استشرت الوصولية لدرجة ظهور سماسرة الأصوات العمالية بالانتخابات. وهذا من الأمور التي كشفها مرشح اتحادي قبل 10 سنوات. خذله الإخوة الكونفدراليون، وفي لحظة غضب فضحهم بقوله:" كان الرفاق النقابيون، المنتخبون حديثا مندوبي عمال، و" مالكين لمئات عديدة من الأصوات" يتجولون في مقراتنا الحزبية ولقاءاتنا واعدين بدعم كثيف. وبعد ان تعبوا من انتظار الالتفاتة التي لم تأت انتهى بهم الأمر إلى الانصراف لبيع خدماتهم للمنافسين." (7)
سيواصل الاتحاد الاشتراكي ، بعد ظهور المؤتمر الوطني الاتحادي، سياسته باستعمال نقابته الجديدة، ف.د.ش، بتغيير " الارتباط بحركة التحرر الوطني" بشعار "الارتباط بقوى الديمقراطية والحداثة". أما الكونفدرالية فسيغرقها تيار الأموي في تبعية مفرطة لحزبه، إلى درجة غير مسبوقة.
فمع اقتراب انتخابات 2007، حددت القيادة الوجهة بالمجلس الوطني يوم 27 فبراير، داعية الأجهزة النقابية المحلية والوطنية إلى تنظيم اجتماعاتها وتجمعات عمالية "بهدف الانخراط الفعلي في هذه المعركة [انتخابات 2007]". وُدعي المجلس الوطني للانعقاد يوم 20 غشت 2007.وبعد يومين نزلت مذكرة المكتب التنفيذي تأمر بخطة كاملة لمناصرة مرشحي تحالف اليسار الليبرالي غير الحكومي[المؤتمر الوطني الاتحادي، الاشتراكي الموحد، الطليعة]. أصبحت القاعدة النقابية مطالبة بتشكيل لجان دعاية انتخابية في كل مكان، وأخرى لرصد الخروقات، ومد القيادة بتقارير عن سير الحملة والاقتراع.
وبعد الفشل الانتخابي، فنزلت مذكرة من القيادة تطلب تقارير عن مدى تنفيذ الأجهزة والأفراد قرار مساندة مرشحي اليسار في الانتخابات.
أليس داخل النقابة، وبالبلد كله،عمال يؤيدون المقاطعة التي دعا إليها حزب النهج الديمقراطي، وهو ممثل بالقيادة، وطنيا، قطاعيا، ومحليا؟ نعم يوجدون، وقد دلت النتائج ان العمال قاطعوا بكثافة. لماذا إذن لا تراعي القيادة النقابية استقلال النقابة، وتحجم عن استعمالها أداة انتخابية لحزب بعينه؟ لا غرابة في الأمر،فتلك تقاليد الاتحاديين. وجه الغرابة في موقف اليسار الجذري الذي سكت قبل الانتخابات وبعدها، فلا أدنى إشارة إلى الأمر لدى قيادة النهج الديمقراطي ولا في صحافته. هل ثمة ما يستحق التضحية باستقلال الرأي، و حرية نقد "الحليف"؟ في ماذا يخدم موقف السكوت عن ضرب استقلال النقابة التنظيمي قضية بناء أدوات النضال العمالي، نقابة و حزبا؟
ما العمل؟
اكبر نقابتين عماليتين بالمغرب تستعملان سياسيا لغير صالح العمال. الاتحاد المغربي للشغل الذي لا يخجل بعض اليساريين باعتباره مستقلا هو مجرد ألعوبة بيد مرشحين رجال أعمال، و بيروقراطيين متبرجزين يمتطونه إلى البرلمان. والكونفدرالية التي تزعم احتضان التعدد اليساري، حتى المنتسب إلى الثورة الاشتراكية، مجرد واجهة سياسية لبيروقراطية تزداد استسلاما للبرجوازية ودولتها. الا يصدم هذا اقتناعات أنصار "المعبر السياسي للطبقة العاملة" ! هنا يبرز مدى الالتقاء و إمكان التعاون النضالي داخل ما يسمى اليسار الجذري، لا في إعلانات النوايا، والصيغ العامة بالبيانات كالتي جربها النهج والطليعة سنوات طوال بلا فائدة لقضية بناء أدوات تحرر العمال.
عمال المغرب طبقة فاقدة لاستقلالها السياسي، مجرد أداة بيد قوى سياسية برجوازية، وحتى أدواتها النقابية مسلوبة منها. يستحيل انجاز ذلك الاستقلال دون الدفاع اليومي، وفي أدق التفاصيل، عن استقلال النقابات وديمقراطيتها. الاستقلال والديمقراطية متلازمان، فلا يداس مبدأ الاستقلال إلا بوسائل تلغي الديمقراطية الداخلية ، وكل نيل من الاستقلال يجر إلى مزيد من الاستبداد البيروقراطي. لا يمكن إنقاذ النقابات العمالية الا بإشاعة الديمقراطية باعتماد التجمعات العامة،على جميع المستويات، وقابلية عزل المسؤولين النقابيين، وتنظيم التعدد السياسي بإرساء حق تنظيم وجهات النظر في تيارات، واحترام حقوق الأقلية،الخ. إنها معركة النقابيين الحقيقيين، معركة تبدأ بكسر جدار الصمت المحيط بالمسألة.
1-عمر بنجلون، أمراء النزعة الانحرافية العمالية الأحداث المغربية ديسمبر 2002 يناير 2003 ، يوجد النص بموقع www .kifah-nakabi.org
2- انظر بهذا الصدد على مريمي الضمان الاجتماعي بالمغرب – ص 57 . منشورات نادي التثقيف العمالي.
3- وفاة احد قادة الاتحاد المغربي للشغل التاريخيين ، المناضل-ة عدد أيار (مايو) 2006
4- البزوي حسن " الاتحاد المغربي للشغل الحلم والحقيقة" (بالفرنسية). ص 76 إلى 84. مطبعة النجاح الجديدة 1993
5- مقرر حول السياسة العامة - المؤتمر التاسع إ.م.ش- ابريل1995
6- محمد خوخشاني عضو الديوان السياسي لحزب اسماعيل العلوي [جريدة الوطن الآن – عدد 260 بتاريخ 29 سبتمبر 2007]
7- بلافريج طه –مقال بعنوان" خطوط حمراء:شهادات مرشح اتحادي لانتخابات 14 نوفمبر 1997التشريعية"- جريدة ليبراسيون 16 ديسمبر 1997 .
=================================
نقاش مع الرفيق عبد الله الحريف حول الموقف من الانتخابات إلى المؤسسات البرجوازية
الاثنين 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2009
المناضل-ة عدد: 24
في سياق توضيح والدفاع عن موقف «المقاطعة» الذي عبر عنه حزب النهج الديمقراطي خلال انتخابات 12 يونيو 2009، أجرت جريدة النهج الديمقراطي (عدد 131، يونيو 2009) حوارا مع الرفيق عبد الله الحريف الكاتب الوطني للحزب جاء فيه:«إننا نعتبر الانتخابات قضية هامة كإحدى آليات الديمقراطية. وهي بالنسبة لنا مسالة تكتيكية يتم اتخاذ موقف منها انطلاقا من التحليلي الملموس للواقع الملموس وليس لنا منها موقف نهائي جامد بمقاطعتها أو المشاركة فيها مهما كانت الظروف. فالانتخابات إذا كانت حرة ونزيهة وتمكن الشعب من ممارسة إرادته وتمكن ممثليه من فرض اختياراتهم وتوجهاتهم سيكون من الخطأ السياسي مقاطعتها. كما أنها إذا كانت وسيلة لتطوير الوعي السياسي للطبقات الكادحة والتجذر وسطها والفضح الواسع للرجعية فسيكون أيضا من العبث مقاطعتها ».
في الموقف العام من المؤسسات البرجوازية ومن الانتخابات
فالانتخابات إذن، حسب الرفيق، قضية هامة كإحدى آليات الديمقراطية. ويمكن أن تكون حرة ونزيهة وتمكن الشعب من ممارسة إرادته وتمكن ممثليه من فرض اختياراتهم وتوجهاتهم. وفي هذه الحالة سيكون من الخطأ السياسي أن يقاطعها النهج الديمقراطي.
إن الرفيق عبد الله ومعه النهج الديمقراطي وفي سياق دفاعه عن تكتيك المقاطعة يتحول إلى محام للبرلمانية و للانتخابات إلى المؤسسات البرجوازية. نستطيع أن نفهم كيف يمكن أن تكون انتخابات ما "حرة ونزيهة" أي غير مزورة. وهو على أي الأمر في كل البلدان الرأسمالية المسماة ديمقراطية. أما أن الانتخابات "تمكن الشعب من ممارسة إرادته" أو "تعبير عن إرادته" فهو أمر يتجاوز، صراحة، قدرتنا على الفهم.
إن هذه الفكرة القائلة ب«تجسيد أو تعبير الانتخابات والمؤسسات المنتخبة عن إرادة الشعب» والمقصود بالطبع حين تكون هذه الأخيرة "حرة ونزيهة" رائجة في صفوف النهج الديمقراطي؛ فقد جاء في الصفحة 69 من وثائق المؤتمر الثاني للنهج الديمقراطي ما يلي: «إن الانتخابات بصفتها آلية من المفروض أن يعبر بواسطتها الشعب عن اختياره وإرادته، لابد أن تحظى منا بالاهتمام في إطار النضال الديمقراطي». والفكرة ذاتها أكثر وضوحا وشفافية حينما كتب الرفيق عزيز عقاوي، في الصفحة 12 من نفس عدد الجريدة، في سياق تقديمه لمبررات "المقاطعة" مايلي: «حصار مضروب على المعارضة الحقيقية للنظام (النهج الديمقراطي نموذجا)... علاوة على جملة من الإجراءات الظاهرة والخفية الهادفة إلى إفراغ واجهة النضال المؤسساتي من مضمونها الحقيقي المتمثل في تجسيد الإرادة الشعبية».
وحتى نكون منصفين فالرفيق عبد الله إذ يضع "ممارسة الشعب لإرادته" كشرط للمشاركة في الانتخابات يضيف فيما بعد:«والحال أن النظام السياسي في المغرب «منغلق» وكل قوة مشاركة في مؤسساته تصبح رهينة له». وهو ما معناه أن طبيعة النظام السياسي بالمغرب «المنغلقة» هي التي تحول بين هذه المؤسسات المنتخبة و"تمكين الشعب من ممارسة إرادته وتمكين ممثليه من فرض اختياراتهم وتوجهاتهم".
على هذا النحو، فرفاق النهج الديمقراطي يعتقدون أن انتخابات فرنسا مثلا، التي لم يسبق لأي كان أن شكك في نزاهتها، والمؤسسات المنتخبة الناجمة عنها لاسيما البرلمان الفرنسي "تجسيد لإرادة الشعب الفرنسي" أو "من المفروض أن يعبر بواسطتها الشعب الفرنسي عن اختياره وإرادته". إن هذا القول، المستمد من كتيبات جيب الفكر البرجوازي الرائجة جدا، ينسى إحدى ألفبائيات الماركسية الأكثر شعبية: الدولة أداة للسيطرة والإكراه الطبقي. والبرلمان هو "أحد الأجهزة الأساسية للآلة الحكومية البرجوازية" وليس بأي حال "تعبيرا عن إرادة الشعب" ناهيك عن أن يكون تجسيدا لها. والأمر ذاته بالنسبة للبلديات فهي جزء من الآلة الحكومية.
الديمقراطية البرجوازية ديمقراطية شكلية خاضعة كليا لسلطة وجبروت رأس المال. ولذلك يسميها الماركسيون عن حق "ديكتاتورية بورجوازية". والمؤسسات البرجوازية المنتخبة في كل بلاد الدنيا أداة للكذب والنفاق واللصوصية والخداع. وهو خداع في منتهى الحبكة لدرجة انه تسلل إلى وثائق النهج الديمقراطي وكتابات مناضليه.
صحيح أن الديمقراطية البرجوازية أي الجمهورية الديمقراطية هي أفضل من الاستبداد والحكم الفردي. وصحيح وضروري أن نرفع في وجه هذا الاستبداد كل المطالب الديمقراطية من مجلس تأسيسي وحريات. لكن إن يتحول المرء إلى زارع أوهام حول الطبيعة الطبقية للمؤسسات البرجوازية المنتخبة "إذا كانت حرة ونزيهة"، فذلك أمر لا يليق بماركسي ويفتح الباب مشرعا أمام تبلور النزعات الإصلاحية من كل نوع.
وهكذا إذا أردنا أن نظل على أرضية الماركسية يمكننا أن نصوغ كلام الرفيق عبد الله كما يلي:«فالانتخابات إذا كانت حرة ونزيهة سيكون من الخطأ السياسي مقاطعتها». مع وضع كلمة حرة بين مزدوجتين لأنه ببساطة لفظ غير دقيق. وغالب الظن أن الرفيق عبد الله سيتفق على أن طرح الأمر بهذا الشكل لا يناسبه. ف«موقف المشاركة في الانتخابات لا يتحدد من كون الانتخابات ستكون مزورة إلى هذا الحد او ذاك» (الصفحة 69 من وثائق المؤتمر الثاني للنهج الديمقراطي). فالثوريون قد يشاركون في انتخابات بالغة التزوير لكنهم أيضا قد يقاطعون انتخابات تشع نزاهة. وهذا الأمر الأخير لا يذكره النهج أبدا. وكلام الرفاق أعلاه يؤكد أن لدى رفاق النهج، خلف ستار الدعوة للمقاطعة، الكثير من الأوهام البرلمانية حين تكون الانتخابات "حرة ونزيهة". الثوريون يتعاملون مع الانتخابات بمنطق الاستخدام لا أقل ولا أكثر. استخدامها بالضبط للنضال ضد الأوهام البرلمانية في صفوف العمال، أي لكسبهم لطريق الثورة. وجلي أن على من يريد محاربة أوهام الجماهير أن يتخلص أولا من أوهامه الخاصة.
إن شرط "الحرية والنزاهة" التي يضعها رفاق النهج للمشاركة بالإضافة إلى البلاهة البرلمانية التي يغذيها لا يشكل ولا يمكن أن يشكل قاعدة لتكتيك ماركسي صائب.
كيف يطرح الرفيق عبد الله المسألة؟
لنعتبر إذن كما لو أننا لم نسمع الشرط الأول، ولنمر إلى الشرط الثاني الذي يضعه الرفيق عبد الله في نفس الحوار: «كما أنها [أي الانتخابات] إذا كانت وسيلة لتطوير الوعي السياسي للطبقات الكادحة والتجذر وسطها والفضح الواسع للرجعية فسيكون أيضا من العبث مقاطعتها». ويضيف فيما بعد شارحا:«وفيما يخص استعمال الانتخابات والتواجد في المؤسسات "التمثيلية" كوسيلة للارتباط بالجماهير الشعبية، فإن الارتباط الحقيقي يتم عبر التواجد اليومي المباشر معها وفي معمعان نضالاتها، وليس عملا مناسباتيا يتم خلال حملة انتخابية ولا هو مرتبط بالتواجد في المؤسسات، بل هو عمل دؤوب يتطلب الصبر والتفاني في خدمة مصالح الكادحين، وأهم شيء يحتاجه الكادحون ليس ربط علاقات زبونية أو تقديم بعض الخدمات البسيطة لهم بفضل التواجد في المؤسسات، بل هو أساسا نشر الوعي الطبقي وسطهم والعمل من اجل أن يأخذوا مصيرهم بأيديهم بواسطة بناء أدوات تحريرهم من الاستغلال والاستبداد والقهر. وهو ما يعني بناء تنظيمهم السياسي المستقل القادر على الدفاع عن مصالحهم الآنية والبعيدة وكذا باقي تنظيماتهم الذاتية المستقلة. وأخيرا من الوهم الظن بإمكانية استعمال المؤسسات كأدوات للفضح، لان خبراء البرجوازية أبدعوا قوانين ومساطير حولت جل البرلمانات في العالم إلى مجرد غرف تسجيل، ولان أهم وسائل الإعلام العمومية والخاصة في يد النظام والكثلة الطبقية السائدة».
هنا يتلمس الرفيق عبد الله أسس التكتيك الماركسي من الانتخابات والمؤسسات البرجوازية. لأنه ربطها بـ "الوعي السياسي للكادحين". غير انه يربط مشاركة النهج بالإجابة عن السؤال التالي: هل المشاركة في الانتخابات وسيلة لتطوير الوعي السياسي للطبقات الكادحة والتجذر وسطها والفضح الواسع للرجعية؟. وفي معرض جوابه نجده يقول:«لا فالارتباط الحقيقي يتم في معمعان النضال...وأهـم شيء يحتاجه الكادحون هو بناء تنظيمهم السياسي».
ونستنتج هكذا انه يجيب عن سؤال، غير الذي طرحه، هو التالي: هل المشاركة في الانتخابات هي الوسيلة الأهم لتطوير الوعي السياسي للطبقات الكادحة والتجذر وسطها والفضح الواسع للرجعية؟ وعن هذا السؤال يجيب الرفيق بلا ونضيف من جهتنا لا أبدا. إن الإجابة بنعم على هذا السؤال هو في الواقع إعلان للمؤسسات البرجوازية المنتخبة "أداة" للثورة. إن الرفيق وهو يستدل بهذه الطريقة إنما يخفي موضوع الخلاف بتكرار حقائق لا جدال فيها من قبيل أن الارتباط الحقيقي يتم في معمعان النضال وان البرلمان غرفة تسجيل لا تصلح للفضح الواسع وان وسائل الإعلام في يد الكثلة الطبقية السائدة وأن أهم شيء يحتاجه الكادحون هو تنظيمهم السياسي.
هاكم إلى أين يقود منهج الرفيق عبد الله:«النهج سيشارك في الانتخابات إذا كانت وسيلة لتطوير الوعي السياسي للطبقات الكادحة والتجذر وسطها والفضح الواسع للرجعية. لكنها ليست كذلك ولا يمكنها أن تكون. ليس الآن وحسب بل في كل الأوقات والظروف. وليس في المغرب وحسب بل في كل بلاد رأس المال. فالارتباط الحقيقي يتم، دائما وأبدا، في معمعان النضال. والبرلمانات، في العالم اجمع، ليست إلا مجرد غرف تسجيل لا تصلح لاستعمالها كأدوات للفضح الواسع للرجعية. كما أن وسائل الإعلام هي، على مر العصور، في يد الكثلة الطبقية السائدة». والخلاصة هي التالية:«النهج سيقاطع لا الانتخابات الحالية وحسب بل وكل الانتخابات ويدعو جميع "ماركسيي العالم" لمقاطعة انتخابات"هم" الخاصة». يتحول هكذا الموقف العملي من الانتخابات من دائرة التكتيك إلى دائرة المواقف المبدئية. سيحتج الرفيق مدافعا: «أنت تقولني ما لا اقصد. فالانتخابات قضية هامة ليس لنا منها موقف نهائي جامد فموقفنا يتحدد انطلاقا من التحليل الملموس للواقع الملموس».
التحليل الملموس للواقع الملموس يقتضي أولا وقبل كل شيء طرح الأسئلة الحقيقية وبالشكل الصحيح وصياغة إجابة دقيقة وواضحة لا مجال فيها لتكرار الحقائق العامة التي لا علاقة لها بالموضوع. لننظر الآن إلى السؤال الذي طرحه الرفيق مجردا عن الشكل الذي يأخذه في جوابه: هل المشاركة في الانتخابات وسيلة لتطوير الوعي السياسي للطبقات الكادحة والتجذر وسطها والفضح الواسع للرجعية؟
ومع كل المجهود الضروري لنسيان "جواب" الرفيق، فان أي ماركسي سيجيب عن سؤال الرفيق دائما وأبدا وطوال كل تاريخ القرن العشرين وما يليه بلا. فالسؤال يتضمن في الواقع ثلاثة أسئلة ينبغي الإجابة عنها كلها بنعم لكي يقبل النهج بالمشاركة في الانتخابات وآخرها هو: هل المشاركة في الانتخابات وسيلة للفضح الواسع للرجعية؟ عن هذا السؤال لا يمكن أن نجيب إلا بلا . والسبب هو لفظ "الواسع" الذي أقحمه الرفيق إقحاما. لو كانت المؤسسات المنتخبة وسيلة للفضح الواسع للرجعية لأصبحت المشاركة في الانتخابات "أداة للثورة" لا "نقطة ارتكاز ثانوية ضمن استراتيجية ثورية شاملة" كما يصفها التراث الماركسي للمؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الثالثة. الواقع أن الانتخابات والبرلمانات ليست أداة للفضح الواسع للرجعية وذلك ليس أساسا لان "خبراء البرجوازية أبدعوا قوانين ومساطر حولتها الى غرف تسجيل" كما يعتقد الرفيق، ولكن لان هذه المؤسسات هي الشكل الديمقراطي المواتي والمنسجم مع مضمون سلطة رأس المال الاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي فكل (وليس فقط جل كما يرى الرفيق) برلمانات العالم هي مؤسسات في أيدي الرجعية وممثلة لمصالحها وحامية لها. لم تكن البرلمانات تاريخيا أدوات "للفضح الواسع للرجعية" (أي أداة للتقدم التاريخي) إلا في الفترة التاريخية التي كانت فيها الطبقة السائدة أي البرجوازية ثورية في مواجهة رجعية الإقطاع. وهو أمر لم يعد قائما منذ أزيد من قرن من الزمن على الأقل. وبعد كل تلك الحقب التاريخية نجد من يقول:«إذا كانت المشاركة في الانتخابات وسيلة للفضح الواسع للرجعية فمن العبث مقاطعتها». نود حقا أن نفهم. لماذا يستعير رفاق النهج "شروطا" من متحف التاريخ البرجوازي لتحديد تكتيك عند بداية القرن الحادي والعشرين؟. إنه لمن العبث حقا طرح المسألة على هذا النحو.
من جهة أخرى، إذا كان الرفاق في النهج يعتقدون بالفعل أن شرط المشاركة في الانتخابات هو أن تكون وسيلة "للفضح الواسع للرجعية" فمن حقنا أن نتساءل بالمماثلة هل جريدة النهج وسيلة "للفضح الواسع للرجعية"؟ وهل حزب "النهج الديمقراطي" ذاته وسيلة "للفضح الواسع للرجعية"؟ إن طرح الأمر بهذا الشكل يستتبع مباشرة وقف الجريدة وحل الحزب. لاشك أن رفاق النهج سيقتنعون انه من الأفضل حذف هذا المصطلح "الواسع" المشؤوم. ولا يسعنا من جهتنا إلا أن نرحب بذلك، وان ندعوهم بالمناسبة أيضا إلى التخلص من أفكار أخرى عديدة لا سيما "ان الانتخابات إذا كانت حرة ونزيهة فهي تجسيد للإرادة الشعبية ...ولا ينبغي مقاطعتها".
كيف تنطرح المسألة ماركسيا؟
مع كل النسيان الضروري والحذف اللازم، يظل طرح الرفيق عبد الله للمسألة قاصرا ومشوشا للغاية:«إذا كانت المشاركة في الانتخابات وسيلة لتطوير الوعي السياسي للطبقات الكادحة التجذر وسطها وفضح الرجعية فسيكون من العبث مقاطعتها». لعل القارئ قد لاحظ أننا عوضنا كلمة "الانتخابات" بـ"المشاركة في الانتخابات" وهو على كل ما يقصده الرفيق عبد الله.
فالانتخابات، بما هي انتخابات، ليست ولا يمكن أن تكون أبدا وسيلة لتطوير الوعي السياسي للكادحين. الانتخابات والمؤسسات المنتخبة هي على العكس وعلى الدوام وسيلة في يد الطبقات المالكة بالضبط لطمس تبلور وعي سياسي ثوري في أوساط الكادحين. إنها وسيلة بالضبط لإقناع الكادحين ألا ضرورة للنضال الجماهيري المباشر فـ"ممثلو الأمة سيتكفلون بطرح قضاياكم والدفاع عليها وسيشكلون حكومة ستسهر على تنفيذ رغبات الأمة وما عليكم إلا أن تجددوا فيهم الثقة كل 5 او 6 سنوات". وثمة من الفئات المتأخرة الوعي من العمال ومن جماهير الشعب المضطهد من يصدق هذا الكلام ويعيش على هذا الوهم. ومحاربة هذا الوهم هو بالضبط السبب الذي يفرض على حزب الطبقة العاملة، المسلح باستراتيجية شاملة للتغيير الثوري، ضرورة استخدام هذه المؤسسات الرجعية كمنبر للدعاية والتحريض الثوريين الموجهين أساسا لهذه الشرائح العمالية والشعبية التي تعميها الغشاوة البرلمانية. فإذا كانت مجرد أقلية لا باس بتعدادها من العمال وجماهير البرجوازية الصغيرة بالمدن والقرى تتق في البرلمانية ولم تتخل عن أوهام البرلمانية، فإن النضال من على منبر البرلمان أمر لابد منه لحزب البروليتاريا الثورية وذلك بالضبط لأغراض تربية الفئات المتأخرة من طبقته هو (لينين، الفصل 7 من اليسراوية مرض الشيوعية الطفولي). والشيوعي الذي يرسله حزبه إلى هذه المؤسسات الرجعية ليس مشرعا أو برلمانيا أو مستشارا كما بقية ممثلي أحزاب الطبقات الأخرى (وهدفه ليس ربط علاقات زبونية مع الكادحين أو تقديم بعض الخدمات البسيطة لهم كما يلمح الرفيق عبد الله في المقطع أعلاه) بل "محرضا ثوريا مرسلا إلى معسكر العدو". هكذا عبرت الأممية الثالثة أيام لينين وتروتسكي. وهكذا ينبغي أن يكون المنتخب الشيوعي، وهكذا ينبغي للحزب أن يتصرف إزاء منتخَبيه ليكون جديرا بتمثيل طبقته وبلقبه كحزب ثوري.
ويظل هذا الاستخدام، المسمى ماركسيا بالبرلمانية الثورية، ضروريا ومفيدا ولا غنى عنه طالما لم تنهض جماهير العمال والجماهير المضطهدة، في اندفاعة ثورية متسارعة تضع على جدول الأعمال تحطيم هذه المؤسسات الرجعية وكنس كل المجتمع القديم. وفي ظل وضع الاندفاعة الثورية هاته التي تجذب إلى النضال المباشر حتى العناصر المتأخرة الوعي من جماهير العمال والمضطهدين، في ظل وضع كهذا فقط يكون لشعار المقاطعة معنى وضرورة بما هي «رفض الاعتراف بالنظام القديم، ليس بالأقوال بل بالأفعال طبعا، رفض لا يتجلى فقط في نداءات وشعارات المنظمات، بل في حركة الجماهير الشعبية التي تخرق منهجيا قوانين النظام القديم وتخلق مؤسسات جديدة غير شرعية لكنها ذات وجود فعلي»(لينين، ضد المقاطعة).
وفي غياب هذا المد الثوري يصير رفع شعار المقاطعة مجرد ضرب من الصبيانية الصرف، أو سعيا لإخفاء العجز عن إنجاز المهمة الصعبة وبالغة الصعوبة المتمثلة في استخدام منبر المؤسسات المنتخبة بالطريقة الشيوعية، أو ببساطة تعبيرا عن الجهل بدروس تاريخ نضال البروليتاريا، أو تركيبا من كل ذلك أو بعضه. والنتيجة واحدة: تَتفيه وتعهير شعار المقاطعة وترك شريحة من جماهير العمال والمضطهدين فريسة لأحزاب وجهاز النفاق البرجوازي.
وبما أن المد الثوري لا يتوفر إلا في لحظات تاريخية استثنائية، والى غاية قدومه وإعدادا لهذا القدوم، اعتبرت الحركة العمالية الثورية كقاعدة عامة ضرورة المشاركة في الانتخابات البرلمانية والبلدية وبالعمل في البرلمانات والبلديات. وهذا الأمر ليس مرتبطا لا بطبيعة الانتخابات بالبلد ولا بطبيعة المهمة الثورية المباشرة الملقاة على عاتق بروليتاريا ومضطهدي البلد. هذه خلاصة نضال البروليتاريا الثورية العالمية فيما يتصل بالموقف النظري والعملي من الانتخابات إلى المؤسسات البرجوازية وعمل الثوريين داخلها. وفي ظل غياب حزب الطبقة العاملة القادر على تنفيذها تكون مهمة الثوريين دعاوية: التعريف بالموقف الماركسي وشرحه والتوقف عن رفع شعارات لا معنى لها خارج ظروف الزخم الثوري (أي المقاطعة)، أو توهم إمكانية تطبيق تكتيك البرلمانية الثورية.
خلاصة
هل هناك اندفاعة ثورية متسارعة لنضال البروليتاريا؟ إذا كان نعم فالمقاطعة تفرض نفسها. وإذا كان لا فلابديل عن المشاركة بمنظور ثوري إعدادا للاندفاعة القادمة. هكذا تنطرح المسالة ماركسيا. وما أبعد طرح الرفيق عبد الله للمشاركة في الانتخابات عن خلاصة التجربة التاريخية لنضال البروليتاريا. بالطبع ليست الماركسية قرءانا ولا تاريخ نضال البروليتاريا شيئا من قبيل "صحيح البخاري"، غير أن رفاقنا في النهج لم يسبق لهم أن عبروا صراحة عن عدم اتفاقهم مع هذه الخلاصة التاريخية، النظرية والعملية، وهو ما يعني إنهم لا يرفضونها وإن كانوا في مرتين سابقتين تحاشوا التفاعل مع النقاش الذي فتحته جريدة المناضل-ة حول مسالة الانتخابات. لكنهم بالمقابل يواصلون الدعوة لمقاطعة تلو أخرى في ظل غياب مد ثوري. مقاطعات ليست لذلك أكثر من عدم مشاركة أو مقاطعة سلبية ليس إلا. إن منهج رفاقنا بالنهج الديمقراطي بصدد الانتخابات عجيب. فرفاقنا في النهج ومن خلال حوار الرفيق عبد الله ومجمل مضمون العدد من الجريدة آنف الذكر، وبهدف تحديد موقف من الانتخابات، يطرحون أسئلة عامة ومشوشة وأخرى بالية للغاية ويقدمون إجابات لا علاقة لها بالأسئلة ليصلوا في النهاية إلى ضرورة "المقاطعة". إن الرفاق في النهج يبدون كمن يحدد الجواب أولا وهو المقاطعة ويشرع بعد ذلك في تفصيل أسئلة على مقاسه. إنهم يتصرفون كمن لا يريد أو لا يستطيع أن يقوم بمهمة ما فيسترسل، كيفما اتفق، في سرد كل الذرائع التي قد تقع تحت يديه ويسمي ذلك في النهاية، قطعا لدابر الشك، تحليلا ملموسا.
علاء لمين