عن البعد التاريخي للصراع الطائفي بين السُّنة والشيعة


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 4902 - 2015 / 8 / 20 - 16:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


يعرف معجم أوكسفورد الشخص "الطائفي" بأنه الشخص الذي يتبع بشكل مُتعنّت طائفة معينة، أي إنه الذي يرفض الطوائف الأخرى ويغبنها حقوقها أو يكسب طائفته تلك الحقوق التي لغيرها تعالياً على بقية الطوائف أو تجاهلا لها وتعصبا ضدها، في حين لا يعني مجرد الانتماء إلى طائفة أو فرقة أو مذهب جعل الإنسان المنتمي طائفيا، كما لا يجعله طائفياً عمله لتحسين أوضاع طائفته أو المنطقة التي يعيش فيها دون إضرار بحق الآخرين.[1]
وقد تم استغلال مفهوم الطائفية استغلالاً سلبياً من قبل أصحاب النوايا السيئة وبخاصة في العمل السياسي، فصار يستخدم بشكل سلبي بدلاً من توظيفه ايجابياً بتقوية المجتمع من خلال التنوع الديني والمذهبي.
ويرى بعض الباحثين إن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم أو مبادئ أو مذاهب دينية لجماعة خاصة، كما إن الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات، إذ من الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإثنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية على الحياة السياسية، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله .
إلا إن مفهوم الطائفية أصبح يستخدم بديلا لمفاهيم "الملة والعرق والدين" التي كانت سائدة قبل ذلك، واختلطت هذه المفاهيم جميعاً في بيئة متزامنة فكريا وسياسيا فأنتجت مفهوم "الطائفية" باعتباره تعبيرا عن حالة أزمة يعيشها المجتمع، حيث أصبحت الطائفية مذهباً وإيديولوجية وهوية حلت محل الهويات الأخرى والانتماءات الأعلى، بل وبدأت تتعالى عليها وقد تبدي الاستعداد للتقاطع معها وأخذ موقعها وهذا ما يهدد اليوم وحدة الشعوب كما هو الحال في لبنان والعراق وغيرها، كما إن دول عربية أخرى تتخذ من الطائفية ذريعة لقمع شعوبها التي تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية.[2]
من ناحية ثانية ، يحدد المفكر الشيوعي اللبناني الشهيد مهدي عامل الطائفية بقوله: "هي شكل النظام السياسي والنظام الايديولوجي الذي فيه تمارس البرجوازية الكولونيالية سيطرتها الطبقية"[3]. ويحددها في مكان آخر بقوله : "الطائفية علاقة سياسية محددة بشكل تاريخي محدد من حركة الصراع الطبقي في شروط البنية الاجتماعية الكولونيالية".
وفي تعريف ثالث يقول : "ليست الطائفية كياناً، وليس لها وجود أنطولوجي. إنها علاقة سياسية محددة بحركة معينة من الصراع الطبقي، في شكل منها محدد بشروط تاريخية خاصة ببنية اجتماعية معينة. ولأنها كذلك، فهي، إذن، قائمة بالدولة، لا بذاتها، في هذه البنية الاجتماعية، وفي شروطها التاريخية المحددة التي هي هي شروط حركة الصراع الطبقي فيها"[4].
ويضيف قائلاً: "من الضروري رد الطائفية إلى بنية علاقات الإنتاج الكولونيالية لا إلى علاقات إنتاج ما قبل الرأسمالية حتى لو كانت هذه العلاقات هي الرحم الذي منه أتت. فارتباطها بها في البنية الاجتماعية الكولونيالية يجد تفسيره في تطور الإنتاج الكولونيالي، لا في تطور الإنتاج ما قبل الرأسمالي، الاقطاعي أو الاستبدادي الآسيوي"[5].
شهد التاريخ الإسلامي منذ وفاة الرسول مجموعة من النزاعات والاختلافات ذات البعد المصلحي بالمعنى العشائري ، سرعان ما تراكمت منذ سقيفة بني ساعدة في المدينة ، فقد كانت الخلافة هي أساس ذلك الانشقاق الأول، وتحولت إلى صراعات ونزاعات ذات بعد طائفي، ومنذ قيام الدولة الاموية تفاقمت تلك الصراعات وتواصلت في إطارها الطائفي طوال العهد الأموي ثم في الدولة العباسية وما تلاها وصولاً إلى المرحلة الراهنة، بحيث يمكن القول بأن الطائفية والصراع بين السنة والشيعة تميزت كثابت دائم في التاريخ الإسلامي القديم والحديث والمعاصر.
وفي هذا السياق أشير إلى أن من بين أهم عوامل ظهور المذاهب والطوائف فيما بعد –خاصة بعد قيام الدولة الأموية- تعود إلى حاجة الحكام إلى نصوص تشريعية أو مبررات دينية تبرر وجودهم السياسي من جهة وتتناقض مع الاتجاهات أو الشرائع التي تخالفهم فكرياً وسياسياً .
وبالتالي فإن الحديث عن الطائفية والصراع الطائفي في مراحل التطور الاجتماعي الاقتصادي للدولة الإسلامية منذ نشأتها إلى يومنا هذا ، لا يمكن أن نحصره في الجانب الديني فحسب ، بل أن الصراع الطائفي يتذرع بالدين لكي يعبر عن مصالحه الطبقية ومنطلقاته السياسية ، وبالتالي فإن حديثنا عن الطائفة أو الطوائف يجب ان لا ينطلق من الدين وحده ، بل يتخطاه إلى السياسة كمحدد رئيسي في الصراع الطائفي طوال التاريخ القديم والحديث والمعاصر ، وهذا ما نلاحظه عند قراءتنا للصراعات الطائفية التاريخية والراهنة بين السنة والشيعة أو بين الفرق الإسلامية الأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تضامن وتمرد طائفة الشيعة ، ودورها الثوري التاريخي والراهن، سواء داخل الدولتين الأموية والعباسية أو في المراحل اللاحقة وصولاً إلى المرحلة الحالية، يعود في أسبابه لاعتبارات ومبررات موضوعية ارتبطت بالظلم والاضطهاد الذي وقع –وما يزال – على هذه الطائفة طوال تلك المراحل ، يؤكد على ذلك ممارسات النظام الوهابي السعودي وكذلك الأمر في اليمن والبحرين ولبنان والعراق خلال حكم البعث عموماً وفي عهد الرئيس الراحل صدام حسين خصوصاً، حيث قام النظام الامبريالي الامريكي بعد احتلال العراق بتأجيج الصراع الطائفي ، من خلال تكريس سيطرة الطائفة الشيعية في العراق، وبالتالي اشتعال الصراع الدموي الطائفي كما نشهده اليوم .
في قراءتنا للتاريخ البشري عموماً ، والتاريخ الاسلامي خصوصاً، لا يجوز، ولا يمكن نفسير الأحداث التاريخية من منطلق المصادفات أو الرؤى الغيبية ، بل يتوجب البحث عن المصالح السياسية والاجتماعية أو الطبقية التي كان لها –وما زال- دور أساسي في تفجير الصراعات الطائفية والدينية المذهبية في تاريخنا العربي الاسلامي، آخذين بعين الاعتبار، أهمية النصوص الدينية والأحاديث، التي قام العديد من الفقهاء وأصحاب المذاهب الدينية بتحويرها واعادة تفسيرها وفق متطلبات هذه المرحلة أو تلك من مراحل التاريخ الإسلامي، منذ مقتل عثمان بن عفان وبداية الصراع الدموي في موقعة الجمل عام 36هـ، ثم موقعة صفين عام 37 هـ بين علي ومعاوية ، وتكريس الدولة الاموية والتوريث في الخلافة ، وصولاً إلى موقعة كربلاء عام 61 هـ، ومقتل الحسين بن علي، واشتداد الصراعات الدينية الشكلية الطائفية (سنة وشيعة)، ذات البعد السياسي والطبقي الصريح في الدولتين الأموية والعباسية، دون أن نتجاوز دور بعض المفكرين والفلاسفة والشعراء الذين ابتكروا أفكاراً أقرب إلى العقلانية والنظره الموضوعية للعقل والاستنارة، إلى جانب الفقهاء الإسلاميين الذي مارسوا نوعاً من الاجتهاد على نطاق واسع خلال القرون الأولى للحضارة العربية الإسلامية، وكان من نتيجة ذلك الاجتهاد، بروز المذاهب التي يتوزع المسلمون بينها إلى يومنا هذا.
 لكن ذلك الاجتهاد الفكري عموماً، والعقلاني التنويري خصوصاً، توقف منذ بداية القرن الرابع عشر الميلادي تقريباً، وبدأت المجتمعات العربية تعيش حالة من الانقطاع الفكري، حيث تجمد الفكر في مدارس المذاهب الفقهية، وضاق هامش التفسير الحر للشريعة ، فلم يعد من الممكن الخروج عن حدود المذاهب المعترف بها.
 وفي هذا السياق ، يقول د.الجابري في كتابه الهام " تكوين العقل العربي " ، إن " الثقافة العربية الاسلامية تنقسم إلى ثلاث مجموعات : 1. علوم البيان من فقه ونحو وبلاغة – 2 . علوم العرفان من تصوف وفكر شيعي وفلسفة وطبابه وفلك وسحر وتنجيم –3. علوم البرهان من منطق ورياضيات وميتافيزيقيا . ويتوصل إلى أن الحضارة الاسلامية هي حضارة فقه ، في مقابل الحضارة اليونانية التي كانت حضارة فلسفة ، لقد تجمدت الحضارة العربية عند الفلسفة اليونانية ، وغاب عنها العنصر المحرك : التجربة ، بعد أن غلب عليها اللاهوت أو علوم العرفان أو اللامعقول " . ثم يستطرد د.الجابري بالقول " إن العقل البياني العربي لايقبل التجربة بطبيعته، لأنه يحتقر المعرفة الحسية ويترفع عن التجربة ويتعامل مع النصوص أكثر من تعامله مع الطبيعة وظواهرها ، ويعود السبب في ذلك كما يقول إلى "أن الفلسفة اليونانية التي أخذها العرب عن الإغريق كانت فلسفة تؤكد على مجتمع السادة والعبيد ، ولاتؤمن بالتجربة لأنها من أعمال العبيد وكذلك جميع الحِرَفْ، أما السادة فهم من نوع" أعلى "ومهامهم تنحصر في التفكير والنظر وانتاج الخطاب" وكانت المحصلة، أن "إنجازات العرب في اللغة والفقه والتشريع، شكلت قيوداً للعقل الذي أصبح سجين هذا البناء من الركود والتخلف"، وهي قيود يتم الآن اعادة صياغتها في مشهد الاسلام السياسي الراهن.
هذا المشهد لم يولد بالمصادفة ، بل هو امتداد لتراكمات تاريخية ، بدأت تتفاقم منذ انهيار الدولة العباسية، وتفككها طوال المرحلة التاريخية التي بدأت مع التتار والصليبيين، واستمر حتى لحظة قيام الامبراطورية العثمانية وسيطرتها على البلدان العربية عام 1518، وصولاً إلى هزيمتها في الحرب العالمية الأولى عام 1918، وبداية مرحلة الانتداب البريطاني والفرنسي، وتطبيق "سايكس بيكو" ووعد بلفور، وانتشار الحركة الصهيونية، وقيام "دولتها في 15 أيار 1948 بدعم صريح من الاستعمار الانجليزي، في ظل صمت وتواطؤ عربي – اسلامي رسمي مازال مستمراً حتى اللحظة بصورة أكثر انحطاطاً وخضوعاً من أي مرحلة سابقة في التاريخ العربي-الاسلامي، ، حيث نشهد اليوم تجديداً للصراعات الدموية الطائفية والمذهبية ، عبر ممارسات ما يسمى بـ"تنظيم الدولة- داعش" وعدداً من حركات التطرف الإسلاموية، التي تستلهم من التاريخ القديم للصراع الدموي بين السنة والشيعة، كل الدروس والمعطيات والمبررات "الدينية"، وتسخيرها في خدمة المخططاتت الهادفة إلى تكريس المصالح الطبقية للأنظمة الرجعية الحاكمة من ناحية، وضمان استمرار تخلف مجتمعاتنا واستغلال ثروات شعوبنا لحساب النظام الامبريالي العالمي وحليفه الصهيوني في بلادنا من ناحية ثانية، إلى جانب الدور الذي مارسته المؤسسات الطائفية الدينية الوهابية السنية والمؤسسات الطائفية الشيعية عبر مشايخها بهدف تفكيك الدولة الوطنية أو الدولة القومية لحساب ما يسمى بالدولة الطائفية.
وفي هذا الجانب ، أؤكد على أن "الدولة الطائفية ، في تعريفها نفسه ، ليست دولة مركزية ولا يمكن لها أن تكون أو أن تعتبر كذلك إلا إذا كانت دولة طائفة واحدة لا دولة طوائف، كما هي في تعريفها، أو كما تظهر لذاتها. وفي هذه الحالة، تستحيل ، كاسرائيل، دولة عنصرية شرط قيامها إلغاء غيرها. وشرط وجود الدولة المركزية، بما هي دولة الطائفة الواحدة، هو إلغاء الطوائف الاخرى مؤسسياً وسياساً ، وإذا أمكن ، جسدياً أيضاً"[6]. فالدولة الطائفية تعجز بصورة كلية عن أن تكون دولة برجوازية بالمعنى النهضوي العقلاني المستنير، لأنها –كما يقول مهدي عامل- تظل محكومة بشروط النمط الانتاجي الرأسمالي التابع ، باعتباره نمطاً كولونيالياً، وهذا النمط الكولونيالي ارتبط بالدولة الطائفية (الحديثة) التي لا يمكن أن تكون دولة مركزية واحدة في لبنان أو غير لبنان ، بل هي التي تقف عائقاً في وجه قيام هذه الدولة.
بناء على ما تقدم ، أعتقد أن من الضروري ومن المفيد في آن، أن نقرأ معاً بعضاً من محطات الصراع الدموي في التاريخ الاسلامي، والتنظيرات الدينية لدى السُّنة والشيعية، التي عززت وفاقمت الصراع والعداء بينهما، وشكلت المصدر الرئيسي في كل محطات الصراع الطائفي الدموي التاريخي والراهن، ومسوغاته النظرية أو الدينية الشكلية، بين فريقي الصراع الأساسيين: السنة والشيعة.
فمن المعروف تاريخياً ، أن الانشطار السني – الشيعي بدأ سياسياً خالصاً رغم شكله الديني، اتخذ أسلوب العنف في حروب الخلافة التي تتالت فصولها في موقعتين رئيسيتين: الأولى موقعة الجمل، في عام ستة وثلاثين للهجرة (656 ميلادية) بين علي بن أبي طالب، وبين عائشة ، الثانية، موقعة حطين، بين علي ومعاوية عام 37 هجرية/657 ميلادية، وفي هاتين الواقعتين، الجمل، وصفين ، خَلَّفّ الاقتتال عشرة آلاف قتيل في أولاهما، وسبعين ألف قتيل في ثانيتهما، وقد أعقبت هاتين الوقعتين ، بعد خمس وعشرين سنة، مجزرة أقل حجماً بكثير، ولكن ذات بعد مأساوي اكبر بكثير أيضاً، تمثلت في وقعة كربلاء التي تمخضت في عام واحد وستين للهجرة (680 ميلادية) عن مقتل الحسين بن علي، وعدا بشاعة المقتلة بحد ذاتها، فقد أخذت مأساة كربلاء بعداً تأسيسياً لما لن يتردد بعض الدارسين في تسميته بـ"الديانة" الشيعية، بالنظر إلى ما تَوَلَّدَ عنها من شعور بالذنب وحاجة إلى التكفير لدى أهل الكوفة –وذريتهم من بعدهم- "[7].
"وقد تضافرت هذه العقدة التأثمية مع الحقد المكظوم الذي استثارته سياسة لعن علي بن أبي طالب على منابر المساجد طيلة ألف شهر من الحكم الأموي، لتحدث في الإسلام انشقاقاً داخلياً أكثر استعصاء على التسوية والالتئام من ذاك الذي عرفته المسيحية الغربية مع الانشقاق اللوثري الذي قادها إلى حرب الثلاثين عاماً (1618 – 1648 م)"[8].
أما في العهد العباسي الأول، فقد تميز بتهدئة نسبية للصراع، تمثلت بوجه خاص في الموادعة التي تمت بين المأمون والإمام الثامن علي الرضا، إذ زوجه بنته وكتب له بولاية العهد. "بيد أن الصراع السياسي عاد يتأجج في ظل خلافة المتوكل الذي "أظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها.. وأمر بهدم قبر الحسين ومنع الناس من زيارته"[9].
ولكن اضطهاد الشيعة، اتخذ فيما بعد، طابعاً منتظماً تمثل في اعتقال الإمامين العاشر والحادي عشر، "علي الهادي النقي" و"حسن الزكي العسكري"، وتصفيتهما في معتقلهما في السم على ما تفيد المصادر الشيعية على الأقل. وهذا القمع المتواصل، هو عملياً ما اضطر الشيعة إلى "تغييب" الإمام الثاني عشر "محمد الهادي" حتى لا تطوله يد التصفية الجسدية. وبانقطاع سلسلة الإمامة على هذا النحو صارت الشيعة تعرف باسم الاثني عشرية.
ومنذ أن دخل أحمد بن بويه الديلمي بغداد سنة 334 ه ، بدأت ترى النور تلك الظاهرة التي عمدها مؤرخو الحوليات الإسلامية باسم الفتنة، أي ظاهرة الاقتتال وحرب الاحياء ما بين السنة والشيعة: ولا سيما بين حي الكرخ الشيعي وباب البصرة السني. [10]
وفي عام 351 "كتب عامة الشيعة ببغداد، بامر من السلطان معز الدولة، على المساجد ما هذه صورته: "لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة فدكاً، ومن منع أن يدفن الحسن عند قبر جده، ومن نفى أبا ذر، ومن اخرج العباس من الشورى".
وفي عام 352 دشن معز الدولة طقس عاشوراء الذي ستكون له أبعاد تأسيسية – في التحويل النهائي للانشقاق السياسي الشيعي إلى انشقاق ديني.
فـ"في هذه السنة عاشر المحرم أمر السلطان: معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا قباباً ، وأن يخرج النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه، قد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنيين قدرة على المنع لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم". [11]
والواقع أنه ابتداء من منتصف القرن الرابع الهجري وحتى منتصف القرن السابع – زمن سقوط بغداد في أيدي التتار – دارت بين سنتها وشيعتها لا "حرب ثلاثين عاماً" كما تسمى كبرى الحروب التي دارت بين البلدان الكاثوليكية والبروتستانية في أوروبا بين 1618 و 1648، بل حرب ثلاثمئة سنة. ومع أننا قد نجازف بالإطالة فلنورد على سبيل التمثيل لا الحصر بعض وقائع هذه الحرب التي تحتل مكاناً مركزياً في حوليات ابن الأثير[12].
ففي هذه السنة (443) في صفر منها وقع الحرب بين الشيعة والسنة،  يقول ابن الأثير "فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن "الروافض" و (الشيعة) نصبوا أبراجاً وكتبوا عليها بالذهب: "محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر"، فأنكرت السنة إقران علي مع محمد (ص) في هذا، فنشبت الحرب بينهم"[13].
وفي هذا السياق، من المهم الاشارة إلى الدور السياسي / السلطوي المباشر لفقهاء الشيعة بحيث نلاحظ الاندماج الكامل بين الدين والسياسة في ظل زعامة الإمام أو آية الله، باعتبار أن الإمام (أو آية الله) هو ممثل الله على الأرض، وكل ما يصدر عنه من اوامر أو نواهي أو قرارات إنما هي أوامر الهيبه لا يجوز لاحد رفضها، وهنا نلاحظ البعد الرجعي الميتافيزيقي / العيني لدى الشيعة، على النقيض من مذاهب السُّنة، دون أن نتجاوز دور فقهاء السنة وممارساتهم في غطار الأنظمة والمصالح الطبقية للامراء والملو والحكام العرب بصورة رجعية تفوقت في رجعيتها على المستوى الدينيوي، عن الشيعة ، لكن ، لابد من التأكيد على أن حماية الدين، لابن المذهب الشيعي، كانت على الدوام مهمّة النجف، فاتيكانه حتى وإن تزعزع موقع هذا الفاتيكان إثر الثورة الإيرانية، لكن الشيعي الذي تحلّل من انتمائه العشائري لم يلبس رداء الهوية المدنية بل صار منقاداً وراء الإمام أو السيّد، وقد ارتكزت هذه الطاعة، على تفسير كلمة أولي الأمر، في الآية 59 من سورة «النساء» التي تدل عند الشيعة على الإمام المعصوم، أو من يحل مكانه، أما ولي الأمر عند القطب الإصلاحي السنّي الشيخ محمد عبده ، حيث تتبدّل دلالات أولي الأمر مع الزمن، الى درجة جعلت محمد عبده المتصالح مع واقعه، يُخرج الناس من مدار الطاعة لعلماء هذا العصر، ليستبدلهم بممثلي الأمة المنتخبين من الشعب بلا إكراه او ضغط، أي أهل الحل والعقد والقيادة، في الدولة الوطنية أو القومية الحديثة[14].
 وعلى عكس الجمهرة الشيعية، يقف رجل الدين السنّي في المنابر السياسية إلى جانب صاحب السلطة/ أو الحاكم، أو الامير أو الملك أو الرئيس أو شيخ العشيرة الذي يتولّى الإعلان عن الموقف السياسي. والخطب الدينية في الجوامع السنّية لا توجّه ولا تحذّر ولا تُصدر مواقف متباينة عن مواقف الحاكم المتنفذ ملكاً أو رئيساً أو شيخ عشيرة، ثمة، باختصار، تقسيم عمل بين السياسي (الحاكم)، ورجل الدين، يقبع الأول على قمّته.
حماية الدين، لابن المذهب السنّي، مهمّة الدولة التي ظلّت سنّية منذ عصور. من هنا جاءت صدمة 2003 إذ صارت الدولة في أيدي أبناء الغالبية الشيعية للمرة الأولى في التاريخ الحديث، والتي لم يخف قادتها رغبتهم في تثبيت وسم الطائفة عليها عوض تبني رؤية تعلن انتهاء غلبة طائفة على أخرى[15].
 وحسناً فعل «داعش»، وما كان له إلا أن يفعل ذلك، حين فرض سلطة مركزية وحشية ترى أن أي هوية أخرى مُروق وتمرّد. فهو، بفعله هذا، تصرّف كما الدولة المركزية التي تحاول نزع سلطة الشيوخ لمصلحة سلطتها.[16]
                              فالهمجية الداعشية التي تتمظهر عسكريا وتوحشيا في اقصى صورها على شكل داعش ودولتها العتيدة هي عمليا النتاج الطبيعي لما يُقارب من قرن كامل على توظيف الدين في السياسة في منطقتنا. والتأمل في مآلات المنطقة وخياراتها المستقبلية المحدودة يشير الى شواهد و"بشائر" الحروب الدينية والطائفية المدمرة القادمةً[17].
 


[1] احمد جويد - الطائفية السياسية: تأصيل الاوهام واستئصال الحقائق - مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث – الانترنت.
[2] احمد جويد - الطائفية السياسية: تأصيل الاوهام واستئصال الحقائق - مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث – الانترنت.
[3] مهدي عامل : "القضية الفلسطيينية في أيديولوجية البرجوازية اللبنانية ، مدخل إلى نقض الفكر  - مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية – بيروت الطبعة الأولى سنة 1980 (ص22).
[4] د.مسعود ضاهر  مهدي عامل رائد التجديد النظري عن "الطائفية" و "الدولة الطائفية" في لبنان – الانترنت.
[5]  مهدي عامل : "القضية الفلسطيينية في أيديولوجية البرجوازية اللبنانية ، مدخل إلى نقض الفكر  - مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية – بيروت الطبعة الأولى سنة 1980 – (ص164).
[6] د.مسعود ضاهر  مهدي عامل رائد التجديد النظري عن "الطائفية" و "الدولة الطائفية" في لبنان – الانترنت.
[7] جورج طرابيشي – هرطقات 2 - عن العلمانية كإشكالية  إسلامية– المصدر: ابن كثير البداية والنهاية - دار الساقي – ط1 2008 – ط2011 .
[8] المصدر السابق - جورج طرابيشي – عن ابن كثير –  ص12
[9] المصدر السابق - جورج طرابيشي – منقول من تاريخ الخلفاء للسيوطي -  ص13
[10] المصدر السابق - جورج طرابيشي – منقول من الكامل في التاريخ لإبن الأثير –  ص14
[11] المصدر السابق - جورج طرابيشي - منقول من الكامل في التاريخ لإبن الأثير –  ص15
[12] المصدر السابق - جورج طرابيشي – منقول عن العبر في خبر من غبر لشمس الدين الذهبي -  ص18
[13] المصدر السابق - جورج طرابيشي- منقول عن البداية والنهاية لابن كثير –  ص20
[14] أحمد زين الدين - «العمامة والأفندي»: فالح عبد الجبار .. الظاهرة الدينية ديناميكية ومتحركة – 15/5/2010 – الانترنت.
[15] عصام الخفاجى – عشيرة السني وطائفة الشيعي – 23 يونيو 2015 - الانترنت
[16] عصام الخفاجى – عشيرة السني وطائفة الشيعي – 23 يونيو 2015 - الانترنت
[17] خالد الحروب - الداعشية نتاج خلط الدين بالسياسة آب / يونيو 2015 – الانترنت.