أرض الكنانة بين الإنجاب والحجاب


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4900 - 2015 / 8 / 18 - 21:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لكنها تدور"

أرض الكنانة بين الإنجاب والحجاب

د.خالد سالم

يحار المرء أمام ظاهرة التكاثر الآدمي في أرض الكنانة رغم ادراك المصريين ضيق ذات اليدين واستحالة الحفاظ على عادات وتقاليد بالية ذات مرجعية طفيلية يعزوها البعض إلى الدين، والدين براء من مسلسل الإهانات التي تُنسب إليه عن جهل وطفيلية وسوء طوية. فلا الناتج القومي للبلاد ولا مساحة الرقعة المأهولة تسمحان بهذه الوتيرة الإنجابية المتخلفة.
وتزداد الحيرة عندما نعلم أن نسبة الأرض الزراعية، التي تمثل ستة في المائة من مساحة البلاد، في تآكل مستمر لعاملين أساسيين: الاعتداء عليها بالبناء وظاهرة التصحر اللتان تأتيان على ثلاثة أفدنة ونصف كل ساعة منذ بدء سياسة الانفتاح البائسة، في منتصف السبعينات، حسب احصاءات الأمانة التنفيذية لمكافحة التصحر بالأمم المتحدة التي تؤكد أن مصر تحتل المرتبة الأولى فى نسبة التصحر.
كنت أظن أن ظاهرة التكاثر كالأرانب تقتصر على الأميين إلا أن من يتفحص الأسر من حوله في أحياء البرجوازية المصرية يدرك أن مواطني هذه الطبقة لا يزالون ينجبون ثلاثًا ورباعًا من الأبناء رغم صعوبة كل شئ وتآكل مكاسب الجميع مع تراجع القيمة الشرائية لدخل العائلات التي تعتمد على رواتب ذويها. أما بالنسبة لتآكل الخدمات العامة بدءًا بالشوارع والمدارس والمستشفيات والجامعات وانتهاءً بالمقابر التي يصعب شراؤها اليوم، فالمشكلة جلية أمام أعين الشعب وأجهزة الدولة.
معروف أن الثدييات تتكاثر بأعداد كبيرة في مواسم الرخاء وتكاثر الغذاء، وإذا طبقنا هذا على الإنسان فيمكن أن نفهمه في الدول التي يشعر سكانها بقدوم خير وفير وفجائي على بلدانهم الواسعة، حينها ينهمكون في الانجاب، لكن أن يحدث هذا في مصر الشحيحة الموارد الطبيعية، فهذا أمر لا ينم عن ذكاء اشتهر به المصريون طوال قرون.
حدا هذا الانجاب الفوضوي بأهلها إلى هجرات شبه جماعية مع بدء الطفرة النفطية، فلا يكاد يوجد بيت بلا مهاجر في الخارج. والسمة العامة التي تجمع بين شبابها منذ التسعينات هي البحث عن فرصة عمل في الخارج بعد أن تكون الدولة كلفته الكثير منذ مولده حتى تخرجه في الجامعة أو المدارس الفنية. وهذا كله إهدار لثروات البلد واضافة مشكلات إجتماعية عديدة جراء السعي لتحسين أوضاع اقتصادية لن تتحسن لو استمروا في بلدهم.
هنا تستوقفني ظاهرة بطلها نوع من القوارض، يطلق عليه اللاموس، يعيش في المحيط، ويتكاثر بشكل مفرط عندما يكثر الغذاء بعد هطول الأمطار، لكنه في مواسم الجفاف يحتكم إلى المنطق الذي يتميز به، إذ تعبر الجزيرة مجموعة كبيرة منه لتصل إلى البحر وتلقى حتفها رميًا بنفسها في الماء، فيؤمن فريق المنتحرين العيش لفريق الباقين على قيد الحياة. وبهذا القرار شبه الجماعي تؤكد هذه القوارض أن الفطرة أو الذكاء الفطري وراء هذا التصرف الجمعي الذكي.
ولكن إذا كان هناك شعب مشهود له بالذكاء فمن الطبيعي أن يستخدم ذكاءه الفطري والمكتسب في انقاذ نفسه وبلده بالبحث عن سبل عيش كريم، تبدأ بتقليص الانجاب، فالأولاد لم يعودوا يمثلون "عزوة" كما كان يعتقد الأجداد، ولا الدين طلب من أحد أن يحيا حياة بائسة أو يستجدي في الطرق لدرجة أن أصبحت هناك شريحة عمالية تمتهن الاستجداء في أثناء عملها، أعني، في هذا السياق، الكناسين في الشوارع. وقد استمرأ البعض المهنة المختلقة فأخذ آخرون يرتدون زيهم الرسمي ويمارسون هواية الشحاذة تحت أعين الجميع.
أما عن موائد الرحمن فحدث ولا حرج، إذ أصبحت تمثل ظاهرة بشعة تهين الإنسان في شهر الصوم، وما يعني ذلك من تظاهر وتبجح وتكفير عن سرقات تقوم بها شريحة من أصحاب هذه الموائد، فبدلاً من اتباع تعاليم الدين في ألا ترى اليسرى ما تعطيه اليمنى للفقراء، يلجأون إلى المباهاة التي تمثل في نهاية المطاف إذلالاً للمحتاجين، بدلاً من أن يوزعوا الأموال سرًا على المحتاجين والفقراء، وما أكثرهم!
يمثل الانجاب هوسًا لدى المصريين، فلا تكاد تجد شابًا أو فتاة لا يفكران في الزواج إلا من أجل الإنجاب، وإذا حاولت سبر أغوارهم لمعرفة هذا الهلع لا تصل إلى إجابة شافية، حتى أنهم ينسون الحياة ومتعة المعاشرة والاستمتاع بالحياة قبل الانجاب. وإذا مر عليهم عام دون طفل في البيت فتقوم الدنيا ولا تقعد على من لديه العلة من الزوجين. ومع من يُنتظر أنه سيملأ البيت بهجة وسرورًا تبدأ مشكلات الحياة اليومية التي يتطلبها وجود الوليد.
إذا غبت عن أي مكان في دلتا النيل لشهر ثم عاودت الزيارة من الطريق نفسها ستجد أن جغرافية الطريق والمكان تغيرت بما شُيد من مبانٍ تجارية وسكنية وترفيهية. تندهش أمام قدرة الشعب على مخالفة القوانين وقدرته الشرائية رغم شكوى الجميع من الفقر! الزيادة السكانية تضطرد بشكل مروع، وإذا صمتت الدولة على هذا الوضع فسوف تختفي أراضي الدلتا كلها مع حلول منتصف القرن الحالي، وهي من أجود الأراضي في العالم كله.
الناس مكدسون في كل الأمكنة، الشوارع لا تخلو من البشر ولا السيارات على مدار الساعة. أذكر واقعة طريفة حكتها لي صديقة مستعربة من صحيفة إسبانية جاءت إلى القاهرة لاجراء مقابلة مع نجيب محفوظ بعد شهور من حصوله على جائزة نوبل. وصلت إلى الفندق وسط القاهرة آخر النهار فشهدت الشوارع مكتظة بالبشر، تصورت أنهم يسيرون إلى مظاهرة. استراحت في الفندق من عناء السفر، فنامت حتى الليل، ونزلت إلى الشوارع المحيطة بالفندق فوجدتها على حالها، فظنت أن المظاهرة لم تنته بعد. توقفت وسألت العبور فاستهجنوا سؤالها عن المظاهرة، وأخيرًا فهمت اللغز: هذه هي القاهرة المكتظة شوارعها بأناسها!
وهناك واقعة أخرى لن أنساها لدبلوماسي أجنبي التقيت به صدفة في حفل موسيقي في قصر المنسترلي عبر صديقة مشتركة من بلده. لم يدرك هويتي، وكان يحب التنكيت، وبعد الحفل أطلق نكتة مفادها أن مُصدرًا للواقي الذكري جاء ليصدّر بضاعته إلى مصر. بعد أن قام بزياراته للمسؤولين في وزارة الصحة فر عائدًا إلى بلاده عندما أدرك أنها ستكون تجارة كاسدة لأن المصريين لن يشتروا هذا المنتج. الموقف كان قاسيًا على نفسي، جارحًا، اضطرني للتدخل فسردت عليه بعض مناقب مجتمعه البائسة التي أعرفها. تكهرب الجو وعاشت الصديقة المشتركة لحظات لا تستأهلها.
كان هذا أيام طويل العمر مبارك الذي كان يكتفي بتسفيه المصريين بسبب كثرة الانجاب بمقولته الشهيرة "ما أنتم ربنا يخلي"، دون أن يكترث بوضع سياسة صارمة للسيطرة على هذه المشكلة التي تأكل الأخضر واليابس في البلاد. تجارب الحلول كثيرة في بلدان تعاني منها، ولعل الصين خير نموذج، أو اجراء عملية قطع القناة الدافقة vasectomy بعد انجاب الطفل الأول، في حالة الرجال، خاصة وأنهم دائمًا ما يُحملّون المرأة ما لا تحتمل في هذا الصدد.
المشكلة تحتاج إلى وقفة مجتمعية مع الذات لتأمل هذا الداء الذي ينخر في عظام المجتمع والخدمات العامة. ففي مايو الماضي اقترح أحد الإعلاميين تظاهرة مليونية لخلح الحجاب، وهي الدعوة التي لاقت استحسانًا من فئات كثيرة في المجتمع، خاصة الشباب، ودار نقاش مجتمعي بناء، لكن سدنة الدين وتجاره تدخلوا وجُمدت الفكرة التي كان من شأنها أن تكون سابقة للفت النظر إلى المشكلات المستعصية وبدء توعية الشعب من خلال وسائل الإعلام القادرة في عالم اليوم على تغيير كل شئ وتوجيه الرأي العام صوب ما يُقدم له من أفكار ممن بيدهم الأمر.
ولعل المراقب لما حدث على الساحة السياسية منذ ثورة 25 يناير2011 على يد وسائل الإعلام من جرجرة الناس نحو ما تريد، بتوجيه من النظام، يدرك أهميتة وسائل الإعلام، خاصة المرئية، في معالجة قضية عاجلة مثل كثرة الانجاب في أرض الكنانة. لهذا أتساءل: لماذا لا تستخدمها الدولة في توجيه الشعب لتحديد النسل؟ العاملون في المراكز الصحية يؤكدون أن المصريين الآن يرفضون وسائل تحديد النسل رغم أنها لا تكلفهم ثمن فنجان قهوة. هناك خلل كبير يكمن حله في التوعية والتظاهرات المليونية على غرار المليونية المقبورة لخلع الحجاب.
الدولة لا تستطيع أن تجد حلولاً سحرية لهذه المشكلة التي تأتي على الأخضر واليابس في بلد موارده الطبيعية محدودة. لكن عليها أن تبدأ بحملة إعلامية ومجتمعية ممنهجة لاقناع شعب نسبة الأمية التعليمية والثقافية فيه عالية، وهذا في الوقت نفسه يسهل اقناعه بخطورة كثرة الانجاب على الأسرة والمجتمع والدولة. أعتقد أن هناك ضرورة قصوى لوضع حلول طويلة الأمد، تشكل جزءًا من ثقافة المجتمع كله، وإلا لن يفيدنا مائة قناة سويس جديدة، فالأفواه التي تُفتح يوميًا ستأكل موارد ألف قناة في هذه الرقعة الصغيرة المأهولة بالسكان.