السيستاني يعلن الثورة العلمانيّة


سلام عبود
الحوار المتمدن - العدد: 4900 - 2015 / 8 / 18 - 21:53
المحور: كتابات ساخرة     

فنون السرقة في العراق عجيبة وغريبة ورهيبة.
لصوص العراق استثنائيون، لا يشبهون لصوص العالم كله. اللصوص لدينا أربعة أصناف رئيسية.
اللص اللص. وهم فئة سافرة من السرّاق. لصوص انتقاميون، يعانون من جوع تاريخي عدواني الى النهب والافتراس. لا يسرقون الكحل من العين، بل يسرقون الكحل والعين معا. وحينما يستعصي عليهم اقتلاع العين، يسرقون الرأس كله. هؤلاء لصوص العملية السياسية، أولاد بريمر النجباء، سواء كانوا متدينين أو غير متدينين.
ولأن اللصوصية لا تقتصر على سرقة المال، بل تشمل أيضا سرقة مصادر القوة والسلطة، فإن اللص الثاني هو من يسرق حق استعادة ما هو مسروق بسببه. المالكي، أثيل النجيفي، البارزاني، يصرّون على حقهم في قيادة عملية استعادة المناطق التي خسرناها، بسبب فسادهم المالي والسياسي. هؤلاء أبشع اللصوص، وأكثرهم خطرا من الناحية الأمنية والوطنية.
أما الصنف الثالث فهو اللص الموتور. لص ضئيل الحجم، مركـّب الدوافع. لص ومعارض، معارض ولص. يلعق حذاء الفاسد، ويزوّق له أفعاله، حينما يشتغل في محميّة فساده. وحالما يُصرف من عمله الفاسد، يظهر بوجه جديد، وجه الشريف والأمين. هذا فاسد كثيف. إنه فساد الفساد، خلاصته، وزبدته. هؤلاء زبالة العملية السياسية، زبالة زبالة بريمر.
أما اللص الرابع، فهو لص الثورات. اللص الذي يريد أن يحصر الغضب الشعبي في شعارات ضيقة، ومطالب محددة، حصرية، مفصلة تفصيلا دقيقا، لكي تلائم مشاريعه وشهواته السياسية. هذا لص انغماسي، خبيث خنيث، وخادم ذليل للصوص أكبر منه.
لذلك نقول، ونحن نرى الاحتجاج يفك أسره، ويخرج من النفوس الى الشوارع، ليحتل طرقات أبعد قضاء وناحية خربة، نقول بملء الفم:
دعوا الجميع، جميع من شملتهم المأساة، ينخرطون في التعبير عن غضبهم. دعوهم يفعلون هذا باعتبارهم مواطنين في دولة مواطنة، وليس في دولة طوائف وأحزاب. دعوهم يقولون إن إرادة الأغلبية، مهما كان لونها، هي جوهر الممارسة الديمقراطية وقاعدتها الأساسية.
لا تسرقوا غضب الشعب باسم شعار مفتعل، وهمي وكاذب، مهما كان بريقه!
"باسم الدين باكونه الحرامية". نعم باسم الاسلام - وللعلم باسم المسيحية أيضا، وباسم الايزيدية سرقت الممثلة البارعة فيان دخيل روح أشجع طيارينا- سرقنا اللصوص الطائفيّون والعرقيّون. ولكن، باسم أي دين سرقت قيادة وزارة الخارجية المدنية العلمانية الشعب لعشر سنوات متتالية؟ باسم من سرق أيهم السامرائي القيادي في قائمة علاوي المدنية؟ باسم من تم تدمير الثقافة وغلق السينمات والمسارح وخنق الصوت المعارض للعلمية السياسية الطائفية وللاحتلال؟ باسم من حدث ذلك؟
لقد سرق بهاء الأعرجي وغيره باسم الدين، هذا أمر نعرفه جميعا. ولكن لصا، مثل فخري كريم، باسم أي دين سرق المسروقين؟ أباسم الشعب، وباسم الطبقة العاملة، والوطن الحر السعيد؟
هؤلاء يوسخون بكاء أمهات الشهداء وأبنائهم، يلوثون صراخ المواطن المنتهك الحقوق، يسرقون المسروقين، وليتهم يفعلون هذا حسب. إنهم يسرقون غضب الصابرين، يسرقون معاناتهم ومآسيهم لمصالح وأسباب مختلفة، لا تقع مصلحة المظلوم ضمنها البتة.
حينما نضيّق ونحصر الاحتجاج الشعبي بثلاث نقاط: "الكهرباء، والسبعة وعشرين مليار التي صرفت عليها، ومحاسبة ساريقها"، فإننا نتستر على أكبر سرقة في تاريخ البشرية، حدد أحد اللصوص، عادل عبدالمهدي، قيمتها بـ 850 مليار دولار، وحددها المصرفي أحمد الجلبي بأكثر من ألف مليار دولار.
حينما نحصر المعاناة بـ "الكهرباء وسبعة عشرين مليار وسراقها"، فإننا نسكت ( ونرسل إشارات المساومة والمحاصصة) عن صفقات التسليح المرعبة، التي يجب أن تأتي في مقدمة مشروع أي احتجاج يتسم بالشرف والوطنية. ليس لكبر حجم هذه السرقات فحسب، بل لأن لص الكهرباء يرتكب جريمتين: يحرمنا من نعم الكهرباء ويسرق أموالنا. لكن صاحب الصفقات العسكرية الفاسدة، يسرق مالنا، ويسرق حياتنا، ويسلبنا وجودنا وأرضنا، ويجعلنا عرضة لعبث الناهشين أفرادا وجماعات.
لصوص وزارة النفط لم يسرقوا ما على الأرض وتحتها فحسب، لم يسرقوا الحاضر وحده، سرقوا حتى المستقبل، سرقوا حتى الاحتياطي التاريخي ورهنوه لمصلحتهم، فنقلوا الى حساباتهم الشخصية جزءا كبيرا من مستقبل من سيأتي بعدنا من الأبناء.
لا أحد يحق له أن يجيّر الغضب الشعبي لمصلحته، سواء بتعميم الشعارات المعادية للدين، أو بتعميم المطلب الأخرق المسمى المدنية، باعتباره شعارا أوحد، خاليا من الملموسية السياسية والاجرائية: إياد علاوي مدني، المطلق مدني، أثيل النجيفي مدني بامتياز، لكنه داعشي في الصميم.
لصوص وزارة الخارجية، وقياداتها العليا حصريا، مدنيون ديمقراطيون، لم ينهبوا مال الشعب فحسب، بل أسسوا دويلات فاسدة ومنحطة، على جثة الوطن القتيل.
دعوا الناس تعبّر عن مكنوناتها، من دون أن يدعي أحد حق احتكار غضب الشعب.
دعوا الشعب يصرخ، ولا تسرقوا صراخه، كما سرق اللصوص الحاليون صبره وجلده ومعاناته.
اللصوص الذين يسرقون غضب الشعب أكثر لؤما من لص يسرق ماله.
اللصوص الذين يسرقون صبر الشعب على الويلات، أبشع من لص يسرق ميزانية الدولة والشعب. هذا لص لقيط.
ما ذا نفعل للبعثي الذي رفع راية احتجاج في الساحة؟ ماذا نفعل للاحس أحذية الفاسدين، الموتور، الذي يفتح فمه فقط حينما يُركل الى خارج الخدمة؟
حتى هذا لا أحد يستطيع منعه من التعبير عن نفسه، وعن غضبه إن وجد. دعوه ينظف نفسه بهذا الفعل، إذا كان صادقا؛ ودعوه ينفـّس عن غضبه، إذا كان مصانعا، جاء ليضحك على غضبنا، وهو كذلك، بكل تأكيد. دعوه يتأمل المأساة ضاحكا، المأساة التي سببها نظامه البائد، ربما يستطيع اكتشاف ذاته مجددا، إن استطاع. ولكن لا تجعلوه في واجهة الثورة، لأنكم بهذا تسرقون لحظة وعي الشعب لذاته، تسرقون فخره بحريته، تسلبونه اللحظة الكبرى في حياته البائسة: لحظة انتصاره لكرامته المهدورة.
اللص العراقي أوسخ اللصوص طرا، لأنه لص يتخصص في سرقة المسروقين. لصوص العالم كله يمنحون ضحاياهم شيئا من الفتات يسدون به رمقهم، ويبلعون به ريقهم، أو يعالجون به جزءا يسيرا من احتياجاتهم. لكن السياسي العراقي اللص يسرق مصيرك ووجودك قبل أن يسرق مالك.
# ## ## #
هذه الكلمات العاطفية، كلها، مجرد مقدمة مطوّلة لسؤال مقتضب، مؤجّل. سؤال لا يريد أحد في وطن تجاوزت نفوسه الثلاثين مليون نسمة أن يسأله أو يسمع جوابه.
هل يعقل أن المرجعية الدينية، وليس العلمانية، تطالب رئيس الحكومة بأن يكون "جريئا" و"جذريا" و"يضرب بيد من حديد"، لكي تسلم السلطة الى كل من هب ودب؟
والسؤال الأهم: لماذا فعلت المرجعية ذلك؟
الجواب المحتمل هو:
لأنّ قوة ما، أدرى مني ومنك، تعرف أن الدولة العراقية، منهارة انهيارا تاما من الداخل ماليا وإداريا وسياسيا وأمنيا. دولة فاشلة، كأنها لا دولة، أذاقت مواطنها الويل. مهمتها الأولى والأخيرة تدمير ذات شعبها. ولأن هذه القوة، الـ"ما"، تدرك أن الأميركان وحلفاءهم لا يريدون للشعب أن تتضافر جهوده في نهوض توحيدي اجتماعيا، وفي وزخم قتالي عسكريا، قد يقود الى تفكيك حدود الدولة الإرهابية المقامة على أرضنا، وإنما يريدون إدامة حدود المعركة لسنوات وسنوات، من أجل التحكم بالجميع. وتدرك هذه القوة أن التحرك التركي والسعودي الجديد قد يقود الى نتائج إقليمية عظيمة الخطورة، والى هزائم عسكرية واجتماعية وسياسية جسيمة، لا تقدر على مواجهتها حكومة ميتة، لا تعرف سوى استقبال جثث قتلاها، وتحشيد من لم يقتل بعد للذهاب الى موت مجاني جديد. هناك انسداد تاريخي، وانغلاق تام في مجرى الحياة اليومية للنظام السياسي والاجتماعي العراقي. إنسداد لا يتناسب مع التغييرات القادمة والمحتملة في المنطقة كلها، لا يسمح باستمرار الدولة الكارثية العاجزة في البقاء، ولا يُمكـّنها من تحمل أعباء المواجهات العسكرية والاجتماعية الجسيمة المقبلة: الأنبار ثم الموصل. (تنبيه: نحن لم نحرر بيجي ولا مصفاتها حتى اليوم. ونحن لم نحرر بغداد من المفخخات بعد!). الحساب العسير يكمن في استعادة الوطن، وفي التكلفة الباهظة المادية والبشرية، التي يتطلبها هذا العمل الجسيم، في ظل وضع إقليمي مضطرب ومتفاعل ومتداخل عسكريا.
هل من حكمة في "الضرب بيد من حديد"؟ نعم، إنها حكمة البصير، ولكنها ليست حكمة مثال الآلوسي، وإن تماهى معها الآن، وربما ستتماهى هي معه لاحقا، في حقبة توافق المصالح والمحاصصات. من دون شك، خلف هذا كله يوجد غضب شعبي عارم علني ومكبوت. لكن التعبير الجماعي عن هذا الغضب ظل محاصرا، ولا أقولن ممنوعا، حتى ظهور فتوى المرجعية، التي أطلقت العنان لغضب المشاعر، ومنحت الصوت الخائف والمتردد والغافل ثقة بنفسه، ثم ثقة بشعبه وإرادته الجماعية.
هذه إرادة شعب. لا يهم من وضعها على خارطة التفعيل والحراك. ولكن المهم هو من يُرشّدها لمصلحته. هناك من يريدها أن تكون أداة لمواجهة الأخطار الإقليمية المحتملة (حتى مثنى حارث الضاري وهيئة علماء المسلمين نهضوا من قبورهم فجأة لايجاد حل وطني واقليمي!)، ويريد أن يحصرها في هذا المكان تحديدا. هذا مطلب مصيري وشرعي وواقعي، وصائب بذاته. لكنه مطلب ناقص أيضا من منظور الشعب العراقي، ناقص إذا لم يربط بإعادة بناء الواقع السياسي لمصلحة الشعب ومصلحة دولة المواطنة. نعم، هناك مشكلة كبيرة تتمثل في خناق الحشد الشعبي عسكريا وطائفيا واقتصاديا، ومحاصرته استخباريا من قبل طيران المحتلين وفرق المراقبة، التي تنطلق من قواعد المدربين الأجانب، بهدف تطويق وامتصاص فورة الشعب التوحيدية وإخماد زخمه القتالي الوطني. لكن هذه الفورة تتطلب إصلاحا سياسيا، لكي يكون لدينا حشد شعبي - نحن ننحني لشهدائه ومقاتليه- لا يأتمر بأوامر مرجعيات مهما كانت قدسيتها، بل يكون جيشا وطنيا واحدا، يأتمر بمرجعية الشعب ومؤسساته الدستورية، ولا بأس إن كان مدعوما من أية مرجعية شريفة، دينية أو مدنية.
هذا هو واقع الحال. هذه هي المعادلات الخفيّة، التي لا يراها المظلوم، الذي يصرخ مطالبا بالحد الأدنى من حقوقه الشرعية: العيش بكرامة.
على القوى الشعبية الحية والمثقفة قيادة هذا المناخ باتجاه الحصول على أعلى المكاسب للشعب، وأبرزها تحقيق نظام للعدالة الاجتماعية، قائم على حق المواطنة، وعلى الممارسة الديمقراطية بالأغلبية السياسية، بعيدا عن التوظيف الطائفي والعرقي.
لذلك، لا يحق لأحد أن يدعي لنفسه الجرأة في سرقة أهداف ومشاعر وحماس الشعب.
ولا يحق لأحد أن يضيّق حجم هذا الغضب ويحصره بالكهرباء ومفسدي الكهرباء، بل يجب إطلاقه وتعميمه ليشمل كل المؤسسات الظالمة والفاشلة، بدءا من المؤسسة القضائية والعسكرية والمالية والاقتصادية والخدماتية والإدارية، وصولا الى الثقافة والإعلام والتربية والسياحة. حتى السياحة؟ لماذا لا. نحن أيضا من بني البشر، وأرضنا تزخر بشواهد القبور الأثرية.
لا يحق لأحد حصر شعارات الشارع في مطلب خدمي محدد.
هذه سرقة علنية لضمير الشعب، سرقة في وضح النهار للمواطن البسيط، الذي انتفض في كل مكان مطالبا بإقالة مجالس الإدارة المحلية، ووصلت الحال بالبعض حد المطالبة باقتحام المنطقة الخضراء، رمز الفساد الأكبر، باستيل العراق المستعبد. إن تحجيم غضب المظلومين سرقة علنية لمن يطالب بأرواح أبنائه، الذين راحوا ضحية لصفقات السلاح المغشوشة، ومحاصصات القوات الأمنية الخيانية.
هؤلاء، الذين يتفننون في حصر شعارات الشعب، وحصر إرادته في لون احتجاجي باهت، وفي قالب مطلبي ضيق، هم سراق محترفون، يعملون لتجيير غضب الناس لمصلحة اللص الموّحد: لص الدفاع والخارجية والنفط والتجارة والثقافة والتعليم والقضاء، ولص الكرامة.
أرفعوا ايدكم عن غضب الشعب يا حماة اليأس!
واجعلوا الشعب يعبر عن غضبه بحرية تامة، كما يحس ويشعر. دعوه، في الأقل، يعبر عن ممارسته لحرية الغضب والاحتجاج والتنفيس عن النفس، بما أنه محميّ بإرادته الثائرة، ومبارك بفتوى المرجعية حتى حين.
على مثقفي هذا البلد تطوير وتعميق لحظة الغضب وترشيدها (لا ترشيقها وتضييقها) وتصويبها باتجاه التغيير الجذري، بما أن اللحظة التاريخية الراهنة ذات طبيعة إرغامية، تتيح إمكانية التغيير، تتيح ذلك سواء بإرادتنا أو بإرادة غيرنا، بتخطيط من قبل قوى أكبر منا أو أصغر.
إنها اللحظة المتاحة، القدرية، التي يجب أن تستثمر لمصلحة تحقيق أعلى درجات التغيير في جسد النظام السياسي المتعفن والظالم، كخطوة أولى باتجاه بناء اجتماعي جديد، منتج وحي، قادر على صناعة مسارات حياته بأمان وثقة ودراية.
# # # #
صرح هادي العامري اليوم بأن سبب الاختراقات التي قام بها داعش في بيجي يعود الى نقص في المقاتلين، بسبب انشغال القوات المسلحة بحماية التظاهرات.
هذا التصريح يفسر تماما شعار المتظاهرين القائل: الحشد الشعبي يقاتل في الجبهات، والحشد المدني في الساحات!
وأنا أقول: إذا لم يتعلم الحشد المدني فن القتال في الجبهات، فإن الحشد الشعبي سيتعلم، عاجلا أم آجلا، فن القتال في الساحات. أما السيد السيستاني، الذي اعتقد بعض الحمقى، أنه أعلن علمانيته، فلن يفعل أقل من أن يلعن العلمانية الخائبة، التي لم تحسن الاصغاء الى ندائه للـ "ضرب بيد من حديد" على رؤوس المفسدين.