اللغة مؤسسة تقتضي التفكيك


محمد بوجنال
الحوار المتمدن - العدد: 4898 - 2015 / 8 / 16 - 17:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

( أمريكا لغة، العرب لغة، داعش لغة)


مقاربة الطابع الاستغلالي للغة في عالمنا العربي، يقتضي منا طرحها، ولو بشئ من التلخيص على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية نظرا لهيمنتها من جهة على العالم ، ومن جهة ثانية، وهو ما يهمنا،على المنطقة العربية. تباعا لذلك نقول أن الولايات المتحدة الأمريكية لغة. فهي على المستوى الداخلي لغة اليقظة الحريصة على حماية النظام الرأسمالي بأساليب معقلنة: لغة اقتصادية تحمل محتوى الإنتاجية وتحقيق مستويات الرفع الإنتاجي كما هو مسطر بين مكونات اللغة تلك علما بأنها تحمل في الوقت ذاته، نظرا لطبيعة النظام الرأسمالي، صفة الاستغلال لكن المقنن بالشكل الذي يحافظ على مصالح البورجوازية الأمريكية وبالتالي النظام العام؛ ولغة سياسية تعتمد لغة الدستور في تنظيم وسير وتسيير مؤسسات الدولة؛ ولغة اجتماعية تتبنى قاعدة التفاوت الاجتماعي باعتبارها قاعدة طبيعية تعلو على المجتمع ولا يعلو عليها؛ ولغة ثقافية تتميز بالتعدد لكن بالمعنى الرأسمالي الذي مؤداه أن للثقافات مستوياتها التي هي بالكاد مستويات طبيعية لا تمكنها من الإحلال محل من هي أعلى منها. هكذا، فعلى المستوى الداخلي نحن أمام لغة يتحكم فيها منطق الاستغلال والتسلط والعنف، لكن بمستويات أصبح الأمريكي يتقبلها. أما على المستوى الخارجي، فالطابع الاستغلالي والماكر للغة يزداد أكثر وبأساليب معقلنة تعتمد اللغة كمرونة وحوار؛ لغة ليست سوى المصلحة الأمريكية؛ أو قل أن لغة الدبلوماسية الأمريكية الخارجية، كما تمارس خاصة بالمنطقة العربية، هي المصلحة الرأسمالية الأمريكية وفق ما هو محدد في مرجعياتها الفلسفية بمعنى أن كل ما يهدد المصلحة تلك يعاد صياغته بلغة أخرى أكثر استجابة للمصلحة تلك وهو الحاصل في الاجتماعات واللقاءات بين الخارجية الأمريكية وملوك ورؤساء الدول العربية بل ومع التنظيمات المصطنعة بالمنطقة. لذلك، فالمشتغل اليقظ بالفلسفة السياسية يسجل بوضوح كيف تلاعب ويتلاعب وزير الدبلوماسية الخارجية الأمريكية جون كيري – وكذلك الرئيس باراك أوباما – بالصيغ اللغوية وفق قاعدة المرونة والحوار والدموقراطية التي غابت عن العديد من السياسيين والمحللين الذين منهم من اعتبر دلالة الصيغ اللغوية تلك ضعفا أمريكيا، ومنهم من اعتبرها خوفا أمريكيا أخذ أشكال التردد أو التراجع عن اتخاذ القرارات كما حصل بصدد مصر و سوريا وأحداث بالعراق وليبيا واليمن وغيرها. لكن السياسة الراهنة الأمريكية ودبلوماسيتها الخارجية مبنية على فلسفة لغوية مدروسة مرجعيتها المصلحة الأمريكية؛ ومن هنا نفهم طالبان والقاعدة وأنصار الشريعة والنصرة وداعش كلغة ليست، في حقيقتها، سوى المصلحة الأمريكية.
أما بصدد عالمنا العربي الذي لا يمكن فصله عن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، فالواقع يثبت أزمته؛ ومن هنا نسجل ظاهرة أزمة العقل العربي على مختلف المستويات: المهيمنة والوسيطة والأمية، أزمة تعتبر اللغة أحد أهم مكوناتها والتي تتحكم الولايات الأمريكية في مجمل فصولها.
فالعقل العربي في راهنيته لا يعدو كونه وعاء محتواه اللغة الماكرة التي هي: الدستور، البرلمان، الشرعية، المجالس الحكومية والوزارية، سياسة القرب، الشفافية، الديمقراطية، الإسلام المعتدل، الإسلام المتطرف، ، الاقتتال، الإرهاب، التحالف الدولي، التحالف الإقليمي أو هما معا، الطوائف، المذاهب، المجازر، القاعدة، النصرة، داعش...الخ. فاستمرار معناها الماكر والحامل لثبات الاستغلال والغش يبشر بمستقبل أكثر حزنا من حاضره. لذا، لا بد، وتلافيا لعبثية المآل من إعادة النظر في اللغة بتفكيكها وتعرية مكرها ولا معقولية محتوياتها المتمثلة في العداء للتكوين المسئول والتنمية والديمقراطية وهي الدلالة والوضع الذي تأكد وازداد عمقا مرحلة الحراك العربي وما بعده؛ لا ننكر محاولات هذا الأخير التخلص من هذه اللغة؛ إلا أنه ككافة الحراكات التي لم ترق إلى مستوى الثورة، استحال عليه التخلص منها لأسباب مادية وثقافية، فاستمرت اللغة تلك كما أرادتها وحددتها الدول الرأسمالية الكبرى وحلفاؤها الإقليميون العرب بمعنى أننا ما زلنا نفتقر إلى الوعي بمعنى الوجود العربي لنستمر ككائنات تتبحر في الكلام وتعادي العقل وما ينتج عنه من دقة لن يحصل بدونها التنمية والاستقلال ؛أو قل أننا لا زلنا ظاهرة كلامية تحب وتفضل وترتاح للضجيج وتعادي الفعل والممارسة والإبداع باعتبارهم آليات امتلاك القدرة على بناء وضبط فلسفة اللغة وبالتالي التمكن من تعرية اللغة تلك كما أرادتها الدول الرأسمالية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة .هكذا تم توفير شروط إنتاج عقل عربي لا يعدو كونه ظاهرة كلامية كما سبق القول، يقوم بالتشريع لها وتعليمها ونشرها مؤسسات متجاوزة وغير ديمقراطية. فهل تمكن الحراك العربي من تجاوز اللغة تلك كظاهرة كلامية وماكرة في رفعه شعاراته المتمثلة في مطلب الكرامة والعدالة والحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد أم أن حليمة ما زالت على حالها؟ لا زال هذا الأخير هو واقع الحال على الرغم من قلة المحاولات التي تم الالتفاف عليها أو محاصرتها. فالشعارات كلغة لم تستطع التمرد على ذاتها لتنتقل من دائرة الكلام والضجيج إلى دائرة الفعل والممارسة التي تقتضي الوعي بضرورة تمرد اللغة على ذاتها. وبلغة أخرى نقول أن "اللغة كمؤسسة" الكلام والضجيج والمكر والتسلط بأشكال مباشرة وغير مباشرة، مستمرة ما دامت شروط وجودها مستمرة. بهذه الدلالة نفهم تدخل الدولة في استجابتها لمطالب الجماهير موظفة الالتفاف على مجمل المجالات كلغة: الدستور لغة،والتعليم لغة، والاقتصاد لغة، والسياسة لغة، والدين لغة، والثقافة لغة، والإعلام لغة، والفن لغة. فعندما تكون لغة هذه المجالات هي اللغة الاستغلالية والمتوحشة، فإن تشكل وتشكيل العقل العربي اليوم لن يكون سوى العقل الاستغلالي والماكر الذي يرفض أحيانا الوطنية والصالح العام بشكل مباشر، وأحيانا أخرى، حسب الظرفية وميزان القوى،بإظهار ما لا يبطن. لذا، فلغة العقل العربي اليوم، ملوكا ورؤساء ونخبا وجماهير هي لغة، مع استحضار الاستثناء،،تسلطت وتتسلط،، ومرمدت وتمرمد، ونهبت وتنهب، وامتصت وتمتص، ومكرت وتمكر، ونافقت وتنافق، وانتهزت وتنتهز، واستغفلت وتستغفل، وسرقت وتسرق، واعتدت وتعتدي، وزورت وتزور، وارتزقت وترتزق، وتلذذت بالضحية وتتلذذ، وتباهت بالعلاقة بالأعلى وتباهي، ودمرت وتدمر، وعادت المعرفة وتعاديها؛ وفي كل تلك الحالات يوجد العقل العربي الراهن: ملوكا ورؤساء ونخبا وجماهير، مع استحضارنا الاستثناء دوما،في وضعية دفاع متوحش، كل حسب قدراته، عن مصالحه الخبيثة. لذا، نجد الحضور المكثف للكلام على حساب الممارسة والفعل وفق قاعدة الوعي والنقد البناء الذي لا يمكن أن يحصل من داخل المنظومة الرأسمالية التي تعتبر المنظومة الريعية العربية جزء لا يتجزأ منها. فامتلاك الوعي بمرجعيات وقدرات وإمكانات اللغة هو ما يمكن العقل العربي، وبالمقارنة، من اكتشاف الطابع الاستغلالي للغة السائدة وهو الوضع الذي يفرض عليه إعادة تشكيل اللغة وبالتالي تحريرها من أشكال الاستغلال والتسلط والمكر كما أرادته لها الدول الرأسمالية الكبرى وحلفاؤهم بالمنطقة؛ إنه النهج الذي يمكن العقل العربي الراهن من التحرر من بناه الفكرية التقليدية منها والمفروضة وذات المحتوى المتوحش والمتخلف السائد حاليا في مختلف المناطق العربية قبيل وأثناء الحراك وخاصة بعده. فالتقدم والتغيير البناء يقتضي مقاربة اللغة كمؤسسة بالنقد والتفكيك لضبط سلبياتها والبحث عن شروط التخلص منها في مختلف أشكالها، التي حملت وتحمل،بفعل طبيعة النظام الرأسمالي وأشكال الدولة السلبية العربية، أشكال الاستغلال والعنف المباشر وغير المباشر. وبهذا المعنى نجد أن فاعلي الحراك العربي خضعوا ورددوا نفس المدلولات اللغوية السائدة التي وفقها تشكل ويتشكل العقل العربي؛ إنها "اللغة المؤسسة" كما هيكلتها وبنتها القوى المسيطرة ووفرت لها مجمل شروط إعادة إنتاجها، في الوقت الذي لا ننكر فيه وجود أقلية حاولت التخلص من دكتاتورية اللغة تلك لكن دون التمكن.
هكذا، فاللغة في عالمنا العربي الراهن، لغة خبيثة، شرعت وضعيا ودينيا للاحتكار والاستغلال والتسلط كما هو سائد، خاصة بعد الحراك العربي، في مختلف المناطق العربية. لذا فتخليصها من هذا الخبث والاستغلال والتسلط يقتضي تفكيكها واتخاذها المسافة الضرورية من أشكال الدولة السلبية العربية، وفي نفس الآن المسافة عن الأخلاق السائدة المبررة لأشكال الثراء والفقر والاقتتال والميز الاجتماعي. إلا أن ذلك لن يحصل بمعزل عن مواجهة أشكال التفكير السائدة حتى اليوم والتي هي بالكاد أشكال استغلالية ومتوحشة أخذت وتأخذ أشكالا دامية أحيانا، ومهددة أحيانا أخرى، وعقابية أحيانا ثالثة؛ بل وأخذت، حسب العصر، أشكالا مؤذبة (حقوق الإنسان، الديمقراطية، الشفافية، الحوار...الخ) هي ، في حقيقتها، على مستوى الباطن، أشكالا استغلالية ومتوحشة.