الخصوصية الثقافية والخطاب الاعتذاري


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4898 - 2015 / 8 / 16 - 17:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


هل ختان الإناث "خصوصية ثقافية" لبعض المجتمعات الافريقية والاسلامية، ويعبر عن تقاليد متوارثة وراسخة وله رمزية اجتماعية تشير الى انتقال الأنثى من مرحلة الى اخرى، ام انه ممارسة وحشية ينبغي إدانتها ومحاربتها بإعتبارها اعتداءً على اجساد إناث قاصرات لم يشاركن في اتخاذ القرار بحق اجسادهن، وذلك تبعا لمنظور جمعيات حقوقية كثيرة؟ وهل التمس بختان الإناث تعبير عن "الاصالة" والتمسك بالثقافة المحلية، ورفضه ومحاربته يعتبر "تغريبا" للمجتمع المعني وتخليا عن القيم المحلية والثقافة السائدة؟ يشير هذا المثال الى الجدل المعقد والمستمر حول مسألة مهمة ودائمة الحضور الاشتباك الدائم بين القيم والثقافة المحلية والقيم والثقافة الانسانوية او الكونية، وحول خطوط التماس بين منطومتي القيم. بمعنى اخر، هل هناك قيم انسانية تتوافق عليها الثقافات والحضارات المختلفة، مقابل قيم وممارسات خاصة بكل ثقافة ومجتمع ولا ينبغي للحضارات السائدة والقوية في اي زمن ما ان تحاول تغييرها؟ الإجابة على هذا السؤال النظري تبدو سهلة ومباشرة، لكن التعقيد يأتي دوما في الحالات والامثلة التطبيقية حيث تختفي الحدود التي تكون واضحة عند النقاش النظري، وكما يوضح مثال الختان التطبيقي. تزداد حدة المسألة وتشابكها عندما تُتهم القيم التي حملها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنها قيم غربية، تركز على حقوق الحريات الفردية مقابل الحقوق العامة للمجتمعات والشعوب.
بعيدا عن مثال "ختان الإناث" هناك قائمة طويلة من الافكار والقيم والممارسات التي يدافع عنها منظرو "الخصوصية الثقافية" بكونها خاصة بمجتمعات معينة، ويجب ان لا تخضع لأية منظومات قيم قادمة من خارج السياق الثقافي المحلي الخاص بتلك المجتمعات. اطروحة "الخصوصية الثقافية" تظل حاضرة بقولة بكونها الاطروحة الاثيرة لمجاميع عريضة من المنظرين والمثقفين الذين ينطلقون من ارضيات مختلفة واحيانا متناقضة لكنهم يلتقون على ارضيتها. على مربع "الخصوصية الثقافية" يلتقي اصحاب الاديولوجيات الدينية والتقليدية والمحافظة، كما يلتقي اعداء "الغربنة" سواء قدموا من خلفيات يسارية راديكالية ام غيرها. وهناك، اي في نفس المربع يلتقي الجميع مع مثقفي ومنظري الدفاع عن الوضع القائم سواء اكان اجتماعيا ام اقتصاديا ام سياسياً. يتحد هؤلاء جميعا ضد "القيم الوافدة" في دفاع مستميت عن "التقاليد" وما هو قائم، وهي عملية رجعية في جوهرها ومناقضة لمنطق وواقع الحداثة والتحديث الذي تعيشه تلك المجتمعات جميعا، والتي تعتد بخصوصياتها الثقافية. تصبح هذه الاخيرة قيدا يكبل اي مشروعات تقدمية، وفي وضع كالذي نعيشه حيث سيطرة الاعلام المشبع بمكونات الخصوصيات الثقافية، يؤول المجتمع بأسره الى حال كاريكاتوري متشتت بين مظاهر حداثة رثة، وخصوصيات ثقافية تحبط المجتمع وتشل حركته.
تاريخيا وفي قلب جدل الحداثة وما حولها ثارت معركة لم تهدأ حول مفهوم "التقدم" (progress). وبحسب الحداثة الكلاسيكية تسير المجتمعات من اشكال تقليدية وما قبل حديثة في بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، الى اشكال حديثة ووفق مسار خيطي. في البنية التقليدية وما قبل الحديثة تقوم العلاقات على الولاءات الغريزية، ويتكلس الاقتصاد على نحو بدائي وغالبا زراعي، وتظل السياسة استبدادية غير تشاركية، وتكون للاديان والغيبيات السيطرة الثقافية على الفضاء العام. كلما تقدمت المجتمعات وفق المسار الخيطي، تبعا لنظرية الحداثة، تتخفف من كل تلك الاثقال، حيث تتحول ولاءات الافراد فيها الى الاوطان والدول، وتخفت الاثنيات والطوائف، ويصير الاقتصاد انتاجيا وصناعيا، والسياسة تقترب من المشاركة الديموقراطية، كما تنحسر وطأة الاديان والغيبيات على الفضاء العام. خلال هذه السيرورة طويلة المدى يُعاد تعريف الفرد من: "من انت" (بمعنى الى اي قبيلة اوطائفة او دين تنتمي)، الى "ماذا تعمل" (بمعنى ما هي مهنتك او انتاجك او اضافتك الحقيقية للمجتمع، بغض النظر عن اصلك). هناك تفاصيل اخرى كثيرة مرتبطة بهذا الجدل لا تحتملها وقفة سريعة كهذه. لكن ما يتوجب التأمل فيه هو النقد الشرس الذي تعرضت له فكرة الحداثة وما تستبطنه وتعلنه من حتميات تاريخية تفترض انتقال المجتمعات والبلدان من مرحلة متأخرة معينة الى اخرى متقدمة، وبشكل خيطي، على مدرج التقدم. كل المجتمعات تسير على هذا المدرج ولو بسرعات متفاوتة، ومآلها النهائي هو الحداثة والتحديث الليبرالي تحديدا لأنه ليس هناك اي مستقبل عملي وحقيقي آخر للبشر، كما نظر فرانسيس فوكوياما بعد انهيار الشيوعية.
جزء من النقد الشرس لفكرة "التقدم" يقوم على ضرورة احترام "الخصوصيات الثقافية" للمجتمعات، وعدم الخضوع للمنطق الحداثي الذي يفرض عليها تبني قيم "غربية" وغريبة عنها، بالإضافة الى الاقرار بأن ما يناسب مجتمعا ما وينجح فيه ليس بالضرورة مناسبا للمجتمعات الاخرى وحتمية نجاحه فيها. في الشكل العام يبدو هذا النقد موضوعيا وصائبا، لكن في التطبيقات العملية واليات استغلاله كما شهدها العالم خلال القرن الماضي على الاقل، نقرأ قصة ثانية تماماً. اطروحة "الخصوصية الثقافية" براقة ومغرية لكنها توفر مسوغا فعالا لتفادي الانخراط في عمليات الانفتاح السياسي والثقافي والاجتماعي. وهي اطروحة تفترض ان الحداثة سوف تقوم بمسح كل الخصوصيات الثقافية وتسوية الارض الاجتماعية عولميا، وإزالة كل المميزات بين الشعوب. هذه الفرضية المُتوهمة هي عمليا ما يمنح فكرة "الخصوصية الثقافية" قوتها الاضافية، رغم انها فرضية هشة ولا علاقة لها بالواقع. لا إزالة الفروقات الثقافية بين الشعوب والجماعات مطلوبة ولا هي ممكنة اصلا. لننظر الى الفرق بين الثقافتين الفرنسية والامريكية مثلا، وكلاهما يقع في قلب الحداثة الغربية. لكن التنظير للخصوصية الثقافية يأتي في الغالب من تلك الدوائر التي تدافع عن "الوضع القائم" وما يمنحه من مكتسبات لنخب محددة. فمثلا ثمة قراءات تقول ان الديموقراطية لا تناسب المجتمعات العربية او غير الغربية لأنها تتناقض مع خصوصياتها الثقافية، او فكرة الدولة المدنية العلمانية القائمة على فصل السلطات لا تناسب هذا المجتمع او ذاك، لانها غربية ولا تتوائم مع المجتمعات غير الغربية. او ان فكرة حقوق الانسان برمتها ورغممكوناتها المختلفة، التي تدافع عن حريات الافراد وتساوي بينهم، لا تناسب المجتمعات غير الغربية. على هذه الاطروحات العتيدة تعتاش كل الممارسات التي تحبط المجتمعات، ويتوسدها مثقفو ومنظرو الدفاع عن الوضع القائم، ويتظلل بها الاستبداد دوماً.