مفهوم الوطنية في الأنظمة الشمولية العربية


حميد بعلوان
الحوار المتمدن - العدد: 4894 - 2015 / 8 / 12 - 01:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كم قرأنا في المدرسة عن الوطنية وحب الوطن، وكم سمعنا من شعارات تتغنى بالوطنية والقومية العربية، من قبيل:

- "أحبك يا وطني"
- "وطني الغالي لك إجلالي "
- "حب الوطن من الإيمان" وغيرها من الشعارات الكثيرة التي نفتخر ونحن صغار بترديدها ...

يحرص المدرسون في الدول العربية على تلقين هذه العبارات للتلاميذ في سن مبكرة .. والغرض أن يفتخر الجميع بترديد تلك الشعارات طوال الوقت حتى وإن لم يفهم أحد معناها بالضبط .. المهم أن يقتنعوا أن أسمى سلوك يقوم به المواطن هو التعبير عن حبه لوطنه.

لقد نجحت الأنظمة الشمولية في الوطن العربي باستخدامها لهذا الأسلوب في تحريف مفهوم "الوطنية"، واختزاله في مجرد التفاخر بالانتماء للدولة والرغبة في الحفاظ على ثقافتها والتغني بشعاراتها.

هذا الفهم الغير السليم لمعنى "الوطنية" تستغله الأنظمة الشمولية في الدول العربية للحفاظ على سُلطتها إلى أجل غير مسمى.

الوطنية في جوهرها ليست مجرد التفاخر بالمظاهر، وحب الشعارات بل تنبثق أساسا من حب الوطن .. وحب الوطن ليس شيئا آخر غير حب المواطنين الذين نتشارك معهم هذه الأرض، لأن الإنسان لا يمكن أن يحب الصخور الجامدة ولا الأشجار المنتصبة ولا أقمشة مُلونة ترفرف فوق أعمدة..!! لأن الحب الحقيقي يكون للناس فقط وليس لأشياء جامد لا روح فيها .. !

قد نعجب بجمال الأزهار وألوان الطبيعة، لكن هذا لا يعني أبدا أننا نُحبها .. ما دامت مجرد أشياء لا إحساس متبادل معها، لأن الحب هو ذلك الإحساس الجميل الذي يجمع الناس، فيجعل الإنسان يتمنى كل الخير لمن يُحبهم، فيَهْتَم لحالهم ويَسْعد لسعادتهم ويُضحي لأجلهم، إذن لا يمكن الفصل بين حب الوطن وحب المواطنـــيـــن.

الأنظمة الشمولية الاستبدادية ليس في مصلحتها أن يسود حب الوطن بمعناه الحقيقي في الدول التي تطغى عليها، لأنها تحكم وفق قاعدة : " فَـــرّقْ تَـسُــد "، والحب بطبيعته يُوَحد الناس، وهذا ما لا يخدم مصالح الطغاة المُتجبرين. لأن غرضهم هو أن يكون كل مواطن شرطيا أو جسوسا على بقية المواطنين، حتى يقوم بالتبليغ بالمعارضين الراديكاليين، وهذا يتنافى كُليا مع قيمة المواطنة وحب الوطن، الذي قلنا أنه يتمثل في حب المواطنين الآخرين والتضحية لأجلهم.

لقد نجحت الأنظمة الشمولية في الدول العربية في خلق شعوب أصبح النفاق الوطني عادت في حياتها اليومية، فأصبحنا نَجد أفلاما تليفزيونية تُمجد الاغتيال السياسي، وتَصف السّفاحين الذين يرتكبون تلك الجرائم السياسية بالمناضلين الوطنين، حتى وإن كانوا يرتكبون جرائمهم ضد مواطنين ينتمون لنفس بلدهم .. !!

إن ما يجب أن نُربي عليه أبنائنا ليس تلك القيم المزيف التي يُمرّرها إلينا إعلام الطغاة، بل على القيم الإنسانية السّامية والنبيلة.

من يحب الوطن يجتهد في عمله ليقدم أفضل ما لديه للآخرين ويكفيه فخرًا أن الناس تُحبه لأنه اجتهد في عمله لأجلهم .. وليس من يستغل منصبه لافتراس الآخرين، كما يفعل أرباب الحافلات ممن يَستغلون الأعياد والمناسبات لرفع ثمن التذاكر، غير آبهين بحال البسطاء الذين سيُحرمون مِن زيارة أقاربهم وأحبائهم.

من يُحب الوطن لا يحتكر السلع ثم يستغل الفُرص ليَزيد الأسعار، دون أن يهتم لأمر من لا يتحصل قوت يومه إلا بشق الأنفس.

الشرطي الذي يحب الوطن لا يعتدي على المواطنين أو يستفزهم للحصول على الرشوة أو بالاعتقال التعسفي، وإلا كيف نسمي الشرطة "أمْنًا" إن لم يأمن الناس شَرّها؟!

الموظف الذي يُحب الوطن لا يذهب للمسجد ويبقى هناك مدة طويلة تاركًا مكان عمله ينتظر فيه المواطنين لساعات وساعات، لأن الصلاة يُمكن أدائها في أي مكان وليس المسجد فقط، كما أنها تأخذ فقط دقائق وجيزة وليس ساعات.

المطلوب إذن ليس هو الإعجاب بالراية الحمراء التي يضعها البعض في أماكن العمل، بل أن تُذكرهم هذه الراية بحُب الآخرين ومراعاة مصالحهم وشعورهم .. لأن حب الوطن لا يعني شيئا آخر غير محبة الناس الذي نتشارك معهم هذا الوطن.