كليات القمة: طبقية التخصصات واهدار الممكن


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 4889 - 2015 / 8 / 7 - 12:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

نشرت جريدة الاهرام في عددها الصادر يوم 6 سبتمبر 1991 مقال لي بعنوان "التخصص العلمي في مصر بين المطلوب والممكن". وهو العنوان الذي اختاره المسئول عن صفحة قضايا وآراء بدلا من العنوان الأصلي وهو "طبقية التخصصات واهدار الممكن". واليوم، وبعد مرور حوالي ربع قرن، أجد نفسي مدفوعا لكتابة مقال آخر يستخدم العنوان القديم ولكنه يأتي بمنظور جديد لظاهرة "كليات القمة". وما دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو ظهور نتائج المرحلة الأولى من مراحل تنْسيق الثانْوية العامة المصرية لعام 2015. وتضمنت هذه النتائج الحد الأدنى للقبول في كليات الطب 98.3%، وكليات طب الاسنان 98، وكليات الصيدلة 97.1%، وكليات الهندسة 94%. وهي الكليات التي تشكل مع كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ما يعرف بـ "كليات القمة".

"كليات القمة" تعبير شاع استخدامه على الرغم مما ينطوي عليه من دلالات سيئة ومما يؤدي اليه من تداعيات غير مرغوبة. فالتسليم بصحته يعني، ضمنيا، انه هناك "كليات القاع"، وان ما يدرس في كليات القمة من مقررات دراسية (او نظم علمية Disciplines) هو بالضرورة أرقى مما يدرس في الكليات الأخرى، او كليات القاع. وبالطبع هذه نتيجة فاسدة لا تتفق مع ما تتمتع به مكونات "عالم النظم العلمية" من مساواة مطلقة على الرغم اختلافها في الموضوع الذي تهتم بدراسته، وفي طرق البحث التي يتبناها كل نظام علمي. و"عالم النظم العلمية" هذا هو العالم الذي يتكون من كافة النظم العلمية البحت منها والتطبيقي. فالنظم العلمية البحتة هي تلك التي تعني، في المقام الأول، بإنتاج المعرفة، اي بزيادة معرفتنا بأحوال المادة الصماء، مثل الفيزياء والكيمياء، او بطبيعة المادة الحية، مثل البيولوجي والفيسيولوجي، او بتغيرات المجتمع البشرى، مثل الأنثروبولوجيا. اما النظم العلمية التطبيقية فهي تلك المعنية باستخدام ما أنتجته النظم العلمية البحتة من معرفة في حل المشاكل العملية. وفي هذا العالم لَا فَضْلَ لِنظام علمي عَلَى نظام علمي آخر ففيه تتساوى الرؤوس، ويتم التعامل مع كل قاطنيه على قدم المساواة. فكل من هذه النظم العلمية له مجاله المحدد الذي يعمل فيه ولا يجد أي غضاضة في الاستعانة بالنظم الأخرى ان استدعت الحالة. فعلى سبيل المثال يستعين علماء الكمبيوتر باللغويين لبناء المنظومات القادرة على فهم لغة الانسان.

ولأسباب تنظيمية، في الغالب، أنشئت مؤسسات تعليمية وبحثية تكون كل منها مسئولة عن مجموعة من النظم العلمية. وهكذا شهدنا، على سبيل المثال، ظهور كلية العلوم كمؤسسة مسئولة عن نظم علمية بحتة مثل الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وعلوم الحياة، وظهور كلية الهندسة لتكون مسؤولة عن مجموعة من النظم العلمية التطبيقية من قبيل هندسة البرمجيات وتصميم سيارات وهندسة الجهد العالي. وبالمثل ظهرت كلية الطب البشري لتعني بنظم علمية تطبيقية مثل طب وجراحة العيون، والطب الشرعي والسموم الاكلينيكية، والامراض الباطنة وفروعها، والجراحة وفروعها، وأمراض النسا والتوليد. وهكذا، وعلى ضوء "مبدأ المساواة"، يصبح القول بان "كلية ما أفضل، او أرقى، من كلية أخرى" قول عبثي فلكل كلية مجالها الخاص ولكل منها نصيب في انتاج جانب من المعرفة البشرية يتكامل مع بقية الجوانب.

الا ان أخطر تداعيات مفهوم "كليات القمة" هو ما يحدثه من تشوهات في تكوين "رأس المال الفكري القومي" National Intellectual Capital الذي يعرفه الباحثون " بأنه "مجموع الموارد غير المادية التي يمتلكها أفراد ومؤسسات دولة ما وتسهم إسهاما إيجابيا في تقدمها على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي". وتأخذ "الموارد غير المادية" اشكالا عديدة من اهمها "مجموع ما يمتلكه أفراد هذه الدولة من معارف ومهارات في مختلف المجالات". وهو الشكل الذي تطلق عليه ادبيات الاقتصاد اسم "رأس المال الإنساني" للأمة. ويقتضي تكوين رأس مال انساني يمكن استثماره في الارتقاء بمستوي رفاه المجتمع توزيع عادل ومتوازن للموارد البشرية المتاحة على مختلف النظم العلمية البحتة والتطبيقية. فاستحواذ النظم العلمية البحتة بأفضل العناصر البشرية سيفضي الى تكوين راس مال انساني قادر على انتاج المعرفة ولكنه عاجز عن استخدامها في حل مشاكل المجتمع. فامتلاك امة ما لأعظم علماء الكيمياء سيكون غير مجدي مالم يوجد "علماء التطبيق" القادرون على استخدام ما ينتجه هؤلاء من معرفة في تحسين أحوال الواقع. وبالمثل يؤدي استحواذ النظم العلمية التطبيقية بأفضل العناصر البشرية الى تكوين راس مال عاجز يعتمد على ما تنتجه الأمم الأخرى من معارف. فعلى سبيل المثال لا يستطيع أفضل علماء الفارماكولوجي (علم الادوية) انشاء مصنع دواء معين ما لم يحصلوا على براءة اختراعه، او المعرفة المتعلقة بالدواء التي انتجها "علماء الاكتشاف". ان راس المال الإنساني الفاعل والفعال الذي يسهم في رفاه المجتمع هو كالطائر الذي لا يمكنه الطيران دون استخدام جناحيه: جناح النظم العلمية البحتة (او الأساسية) وجناح النظم العلمية التطبيقية.


وتبين نتائج المرحلة الأولى من مراحل تنْسيق الثانْوية العامة المصرية استحواذ كليات النظم العلمية التطبيقية، كليات الطب وكليات طب الاسنان وكليات الصيدلة وكليات الهندسة وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، على أفضل العناصر الطلابية. هذا إذا افترضنا ان المجموع الحاصل عليه طالب الثانوية العامة مؤشرا لذكائه، وهو افتراض غير صحيح. وأيا كان رأينا في مصداقية المؤشر المستخدم تظل القضية هي قضية التوزيع غير العادل للموارد البشرية علي النظم العلمية الأساسية والتطبيقية. فبينما تستحوذ الكليات المعنية بالنظم العلمية التطبيقية على أفضل العناصر تعاني بقية الكليات من نقص حاد في تلك العناصر. وتكون النتيجة رأس مال انساني مشوه تضخمت فيه الجوانب التطبيقية وتضاءلت فيه الجوانب القادرة على انتاج المعرفة. وبعبارة اخري تمتلك الامة الالاف من المهندسين الاكفاء والأطباء المهرة والصيادلة المجتهدين ولكنهم، في غيبة منتجي المعرفة المحلين (علماء الاكتشاف)، يعتمدون اعتماد شبه كلي على ما ينتجه الآخرون من معارف.

ان تطوير نظام القبول في الجامعات المصرية ليصبح قادرا علي التوزيع العادل والمتوازن للموارد البشرية على النظم العلمية البحتة والتطبيقية أصبح امرا لا يحتمل التأجيل. فاليوم أصبحت "الموارد غير المادية"، وعلى رأسها "رأس المال الإنساني"، هي المحرك الرئيسي للاقتصاد والبوابة الرسمية لرفاه مجتمعات القرن الواحد والعشرين.