ما بعد انهيار الإطار الوطني للصراع السوري


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4876 - 2015 / 7 / 24 - 00:46
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات أخذ ينهار الإطار الوطني للصراع السوري على نحو متسارع، فلم يعد صراعا بين سوريين. وما بدأ كثورة شعبية، تحول إلى صراع إقليمي ودولي، تشارك فيه بصورة مباشرة قليلا أو كثيرا دول مثل إيران وروسيا، ومثل تركيا والسعوية وقطر، ومثل الأردن والإمارات، ومثل إسرائيل والولايات المتحدة، حتى قبل أن تتدخل الأخيرة عسكريا، عبر قيادة تحالف دولي ومحلي ضد داعش. وفضلا عن الدول، وكأداة للدول أحيانا، تدفقت على البلد المنكود منظمات ما دون الدولة من حركات جهادية سنية شيعية وقوميين كرد، من بلدان قريبة وبعيدة.
الواقعة التي يتكثف فيها انهيار الإطار الوطني ليست اغتيال خلية الأزمة في 18 تموز 2012 في دمشق، على أهمية الواقعة ودلالتها على انتصار الحزب الإيراني في مراتب الحكم الأسدي، بل هي توقف المظاهرات السلمية في الوقت نفسه بعد أن كانت بؤرها الأسبوعية وصلت إلى أعلى عدد لها في حزيران 2012، بعد أكثر من 15 شهرا من الثورة، ونحو تسعة شهور من الظهور المؤثر لمكون عسكري لها. كان النظام أخذ يستخدم سلاح الطيران بكثافة، وفي آب من العام نفسه سيقصف حتى طوابير الخبز أمام الأفران في مناطق حلب وحماه.
ما حصل، تاليا، هو انكفاء الداخل الاجتماعي السوري عن الفضاءات العامة التي انتزعها بمشقة وبكلفة باهظة، مقابل تدفق قوي من الخارج بشري ومالي، ووقوع النظام ذاته تحت السيطرة الخارجية الإيرانية. ومنذ أن كف الصراع عن كونه سوريا، صار إقليميا ودوليا، من حيث محركاته، ومن حيث وزن الفاعلين الأكبر فيه، ومن حيث تسوياته المحتملة. وهذا، بالمناسبة، سبب كاف للاعترض على الكلام عن حرب أهلية سورية. ليس لأنها ليست حربا أو ليست "أهلية"، ولكن لأنها بالقطع ليست مجرد حرب سورية- سورية. لعلها كانت حربا بين سوريين بين خريف 2011 وصيف 2012، لكن لم تعد كذلك منذ ذلك الحين.
كان هذا تحولا نوعيا بالغ الجسامة، نحتاج إلى إدراك مغزاه من أجل وضوح التحليل، إن لم يكن من أجل سداد العمل أيضا. فمنذ أن تدول صراعنا، صار انتصار الثورة السورية مشروطا بثورات في الدولة المتدخلة، وإلا سحقت الثورة، وسحقت سورية ذاتها، بفعل تلاطم القوى المتدفقة من الخارج التي تتعارض في أشياء، لكن يبدو أنه يوحدها ما يترواح بين اللامبالاة والعداء لأولئك السوريين الذي خرجوا محتجين بأجسادهم طوال 15 شهرا. يوحدها أيضا أن أياً منها لا يظهر الحد الأدنى من الانزعاج من وجود قوى أجنبية أخرى، مخاصمة لها، في الداخل السوري، أو تطرح ضرورة انسحاب القوى الأجنبية كلها من البلد. بالعكس، يبدو الأعداء مثل أميركا وإيران (قبل الاتفاق النووي)، ومثل إسرائيل وحزب الله، مرتاحون لهذه التطور. السر في ذلك على الأرجح أن إجماع هؤلاء الأعداء المفترضين على على العداء لمنظمات الجهادية السنية التي لا مركز دوليا يحركها يفوق العداء فيما بينهم. فإذا كانت إيران والتابع الأسدي مرتاحين جدا لوجود العدو الجهادي السني في شكل داعش والقاعدة، فلأن عينهما على الشراكة مع الغرب، وعلى شرعية غربية للاحتلال الإيراني وللوكيل الأسدي الذي صار بشريا واستراتيجيا تحت الإمرة الإيرانية، على نحو لا رجعة منظورة عنه. أما في الحالة الإسرائيلية، فيبدو أن الرغبة بمزيد من استنزاف إيران وتابعها اللبناني، وبتدمير أوسع لسورية، تحرك سياسات الدولة التي لها تأثر بالغ على سياسات إدارة أوباما.
والمشكلة أنه بينما صار شرط التحول السوري هو تحول ثوري أوسع، ليس هناك مقومات جدية لموجة ثورية أوسع. الواقع أن سورية ذاتها كانت الأرض التي أخمدت فيها مقومات للثورة كانت غير كبيرة أساسا، وجرى تحويل البلد إلى معرض لمساوئ التمرد على أوضاع التمييز والطغيان، وهذا بعد أن كان مسلسل الثورات حفز تحركات في بلدان مثل الجزائر والأردن والسعودية وكردستان العراق والسودان، وحتى الولايات المتحدة (حركة احتلال وول ستريت).
سورية تسحق لأن فرص ثورة أوسع في الإقليم والعالم ضئيلة، ومن أجل أن تصير هذه الفرص أشد ضآلة. سحق سورية مكتوب في تدويل الصراع السوري، ما دام السوريون غير قادرين على رد هجوم الدول وأشباه الدول وما دون الدول على بلدهم، وما دام ذلك المجال المتدخل لا يواجَه بتمردات أو احتجاجات. بل إن الواقع أسوأ في هذا الشأن، بقدر ما هو بالغ الغرابة في آن: بخصوص سورية يبدو الثوريون السابقون في مثل درجة سوء من لم يكونوا ثوريين يوما، بل أسوأ: اعترضوا على التدخل الذي يعاقب المجرم الأكبر على إحدى جرائمه الكبرى، المذبحة الكيماوية، ولم يحركوا ساكنا على تدخل يواجه كيانا إجراميا، داعش، في رقبته جرائم أدنى بكثير، والمتدخل الامبريالي هو المتدخل الامبريالي نفسه! ولا يكاد يذكر لأكثرهم كلام إيجابي عن كفاح السوريين لا في طور الثورة السلمي ولا في طورها المسلح، لا في طورها السوري- السوري، ولا في طور تدويلها. صارت المواقف أسوأ في الأطوار الثانية، لكنها كات سيئة حتى في الأطوار الأولى.
وخلاصة هذه المناقشة أن انهيار سورية الحالي مكتوب في تدويل الصراع السوري بقدر يفوق قدرة السوريين على المقاومة، وبقدر لا يلقى مقاومة في البلدان المتدخلة والعالم. هذا بينما نحن أصلا في المنطقة الأكثر تدويلا في العالم، وكانت سورية في ظل الحكم الأسدي دوما مثال الدولة الخارجية التي تغلق الملعب الداخلي وتتفرغ للعب أدوار إقليمية برضى الأقوياء في الأقليم، ولطالما وجدت نفسها مرتاحة في عالم منظمات ما دون الدولة (في لبنان والعراق وفلسطين وتركيا) وعالم الدول القوية، أكثر مما في عالم الدول المعادلة لها.
في النهاية لا ينبغي أن تكون ثورة واسعة أو موجة ثورية في الإقليم أو في العالم شيئا مثيرا للسخرية. قبل خمس سنوات كانت احتمال قيام ثورة في سورية، وفي خمسة بلدان عربية أخرى، أمرا غير متصور. وغير المتصور هذا هو بالضبط ما وقع.
وعلى كل حال فكرة ثورة أوسع هي وحدها ما يمكن أن تبث الحياة في كفاح السوريين، وتكرم تحطيم بلداهم، وتدرجه في حركة تحرر عالمية أوسع.
يبقى إسهام السوريون، وقد تعولموا كمجتمع عبر شتاتهم في العالم وعبر "زيارة" العالم لهم في بلدهم المشتت، هو الأساس في تكريم عنائهم: الشراكة مع قوى العدالة والحرية في العالم، والثورة في عوالمنا الخاصة، الثقافية والاجتماعية، والشخصية.