دراسة مختصرة لأزمة أوروبا واليورو

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 4875 - 2015 / 7 / 23 - 23:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

نشأ اليورو كعملة حسابية عام 1999 وله تاريخ نقدي طويل ليس هذا موضعه، ولكنه ولد كعملة فعلية موحدة لمعظم دول غرب وشمال اوروبا ماعدا انجلترا والدانمرك والسويد في يناير 2002 . حينها توقعنا كاقتصاديين خيرا لهذه العملة وتوقعنا ان تنافس الدولار كعملة احتياطي، بل ان عددا كبيرا من الدول وعلى رأسها الصين استبدلت جزءا من احتياطيها النقدي من الدولار الى اليورو.
ومنذ نحو عشر سنوات بدا ان قرار التوجه صوب اليورو قرارا صائبا حيث ارتفع اليورو أمام الدولار الى حوالي 1.24 ، أما الان فإنهما على وشك ان يكونا متساويان . وهذا يمثل خسارة كبيرة لكل من راهن على اليورو بالكامل.

أما بالنسبة لسبب تفاؤلنا باليورو وقتها فهو المعايير الصارمة التي وضعها البنك المركزي الأوروبي ECB للدول الجديدة الراغبة في الانضمام وآلية تحديد سعر عملات الدول الأعضاء والمسماة بال ERM.

ولكن بمرور الوقت ثبت أن المعايير والرقابة النقدية وحدها غير كافية لتحقيق الاستقرار المنشود في أوروبا خاصة مع بداية عام 2007 ودخول عدد كبير من دول اوروبا الشرقية مثل سلوفينيا واستونيا ولاتفيا وغيرها الى عضوية الاتحاد الأوروبي واستبدال عملتها المحلية باليورو بينما فضلت دولا اخرى الاحتفاظ بعملتها مثل رومانيا وكرواتيا والمجر وقامت دول اخرى بربط عملتها باليورو بنسبة محدودة مثل بلغاريا. وللعلم فإن اليونان كانت من اوائل الدول التي التحقت بالاتحاد الأوروبي وذلك عام 1981 كما قامت باستبدال الدرخما باليورو عام 2001.

مع انضمام كل هذه الدول تبين ان أكبر خطأ وقع فيه الاتحاد الأوروبي وهو ما ادى الى أزمته الحالية مع اليونان هو تركيزه الكبير على مراقبة السياسة النقدية للدول الأعضاء وعدم اهتمامه بوجود أي تنسيق أو رقابة للسياسة المالية.

وكما المحنا في مقالات سابقة فإن السياسة النقدية تركز اساساً على كمية النقود المتداولة وأسعار الفائدة خاصة تلك المتعلقة بالاقتراض، أما السياسة المالية فإنها باختصار شديد تركز على معدلات الضرائب المختلفة التي تفرضها الحكومة لتمويل النفقات والخدمات العامة التي تمولها.
وفي حال عدم كفاية ايرادات الحكومة لتغطية هذه النفقات والوعود التي تقدمها لمواطنيها وقت الانتخابات فإنها تلجأ الى الاقتراض أو ما نسميه بسياسة التمويل بالعجز أي طباعة النقود دون أي غطاء إنتاجي.

وكما أسلفنا فإن السياسة النقدية لمنطقة اليورو تتسم بالدقة والصرامة ويشرف عليها البنك المركزي الأوروبي. أما السياسة المالية فقد ترك تحديدها للدول الأعضاء وليس هناك أي جهة مركزية في منطقة اليورو للرقابة عليها وهو ما مكن اليونان من التوسع في الانفاق وزيادة العجز المالي ومن ثم اضطرارها للاقتراض لتغطية هذا العجز من كافة البنوك الأوروبية والIMF دون حسيب أو رقيب حتى وصل مجموع ديونها الى حوالي 320 بليون يورو وهو ما يعادل 180 % من مجموع الناتج المحلي الإجمالي لليونان وهي واحدة من أعلى النسب في العالم. وكونها عضواً في منطقة اليورو فقد كانت تقترض بنفس اسعار الفائدة التي تقترض بها الحكومة الألمانية رغم الفارق الكبير بين الاقتصادين الألماني واليوناني. وللعلم فإن اليونان لا يزيد تعدادها عن 12 مليون نسمة.

وظلت الديون في تزايد حتى اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008 والتي بدأت بأزمة الديون العقارية في امريكا وانتهت بانهيار عدد كبير من البنوك وشركات السمسرة والأوراق المالية والتامين الامريكية والعالمية وأنفض مهرجان إقراض اليونان بلا حدود.
وحيث أن الأخيرة كانت تقترض أيضاً لسداد اقساط ديونها أي الاستدانة من أجل سداد مستحقات الديون القائمة فقد اضطرت اليونان الى الإعلان في عام 2009 عن عجزها عن سداد هذه المستحقات واعترفت لأول مرة بأنها كانت تخفي حقيقة حجم ديونها وأنها تتجه الى الإفلاس بعد امتناع المؤسسات المالية الاوربية والعالمية عن تقديم المزيد من القروض لها.
وللحفاظ على اليونان من الافلاس وافقت دول منطقة اليورو على تقديم قروض إنقاذ" Bailout" بلغ حجمها حوالي 200 بليون يورو عبر الخمس سنوات الماضية مقابل شروط وسياسات مالية تقشفية صعبة اضطررت اليونان إلى القبول بها أملا في أن تؤدي تحسين أوضاعها المالية والاقتصادية.

ولكن السياسات التقشفية طوال الخمس سنوات الماضية ادت الى انكماش الاقتصاد اليوناني بشكل عنيف بسبب قلة الاستثمارات العامة وانخفاض الموارد السيادية للحكومة باعتبارها أكبر منفق في اي اقتصاد وبالتالي عجزها عن خلق وظائف جديدة مما ادى الى ارتفاع نسبة البطالة الى 25% وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي.
وهذا يعني فشل السياسات التي وضعها صندوق الانقاذ الخاص بمنطقة اليورو وهو الصندوق الذي تساهم فيه كل الدول الأعضاء في انقاذ اليونان من أزمته الاقتصادية.

والآن فإن حزب سيريزا اليساري بقيادة اليكس تسبرس والذي فاز بتشكيل الحكومة اليونانية منذ نحو سبعة أشهر جاء الى الحكم بوعد انهاء الإجراءات التقشفية حتى يعود الاقتصاد الى النمو من جديد وتخف معاناة الشعب اليوناني ولكن العناد الألماني المسيطر على منطقة اليورو نجح في افشال حكومة تسبرس في مسعاها لإنهاء الإجراءات التقشفية.

ومقابل أن تبقى اليونان كعضو في الاتحاد الأوربي ومنطقة اليورو وحصولها على قروض جديدة من البنك المركزي الأوربي، قبلت حكومة تسبرس والبرلمان اليوناني بحزمة جديدة من الاجراءات التقشفية. ولا أحد يعرف ما هو الجديد في هذا!

وبغض النظر عما سيحدث فإن عددا كبيرا من الاقتصاديين والكاتب واحد منهم لا يرون ان الاجراءات التقشفية التي تصمم عليها المانيا ورفضها لمقترحات صندوق النقد الدولي بتخفيض ديون اليونان يمكنها اصلاح حال اليونان وتحقيق نوع من النمو الاقتصادي المستدام ومن ثم فإن أزمة اليونان مرشحة للانفجار من جديد وأن الأمر سينتهي بخروج الأخيرة من منطقة اليورو.

والسؤال الأكبر الذي يتجادل الاقتصاديون حوله هذه الأيام يدور حول مستقبل اوروبا الموحد وعملة اليورو.
وفي هذا يمكننا القول انه من المرجح بقوة ان يدخل الاتحاد الأوروبي في أزمات جديدة من نوع الأزمة اليونانية.
وربما أزمات سياسية بين اعضائه وذلك لأسباب عديدة منها:

• زيادة اعداد الدول المنضمة للاتحاد بشكل سريع وفوق قدرة الهيئات المركزية للاتحاد على السيطرة والتنسيق بين الاعضاء، فالاتحاد الأوروبي الذي بدا بستة اعضاء وصل عدد أعضائه الآن الى 28 دولة.

• عدم التجانس الكبير بين الدول الأعضاء من الناحية الاقتصادية والسياسية والثقافية والعرقية فدول الشمال مثل المانيا ولكسمبورج وبلجيكا وهولندا والدنمرك والسويد تتمتع بمستويات دخل مرتفعة جدا مقابل اعضاء آخرين مثل مالطا ولاتفيا واليونان وقبرص وليتوانيا .... الخ وهذا يعني حدوث حركة نزوح طبيعي تجاه الشمال عند اندلاع اي ازمات اقتصادية في دول الجنوب خاصة مع تمتع مواطني الاتحاد الأوروبي بحرية الحركة والتنقل ولن يكون هذا مقبولا من دول الشمال بالطبع.

• وكما المحنا سابقاً فإن اختلاف السياسات المالية للدول الأعضاء سيكون دائما سبباً قوياً لحدوث مشاكل مشابهة لمشكلة اليونان حيث تتشابه الأوضاع المالية لدول مثل اسبانيا والبرتغال وإيطاليا والتي تزيد فيها نسبة الديون الى الناتج المحلي عن 100 %.

• من المشاكل الأخرى التي تواجه الاتحاد الاوربي تنامي قوة الاحزاب اليمينية ذات التوجهات القومية المتطرفة والتي بدأت تحتل مقاعد أكثر داخل البرلمان الأوروبي. وهذه الأحزاب تنادي بغلق الحدود أمام مواطني الدول الأعضاء ذات الدخل المنخفض وبعضها يطالب بالخروج من الاتحاد. كما أن حكومات بعض الاعضاء الكبار مثل بريطانيا بزعامة ديفيد كاميرون بدأت تبتز الاتحاد من خلال التهديد باستفتاء البريطانيين حول البقاء في الاتحاد أو الخروج منه وذلك للحصول على تنازلات من الاتحاد الأوروبي تتعلق بشروط التجارة بين بريطانيا والاتحاد ونظام التأشيرات وغيرها.

ولكل ما سبق فإن مستقبل الاتحاد الأوروبي واليورو نفسه يرشح بعدم الاستقرار وبطء النمو الاقتصادي وضعف اليورو. ولثقل وزن اوروبا السياسي والاقتصادي فإن كل التطورات والتوقعات التي ذكرناها لا تعني اخبارا سارة للدول الاخرى وللنمو الاقتصادي العالمي.


محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري