بريماكوف


اسحاق الشيخ يعقوب
الحوار المتمدن - العدد: 4871 - 2015 / 7 / 19 - 13:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



إنه من نوادر الشخصيات المدهشة التي ما أن تكون في حضورها إلا وتكون مستويًا في جاذبيّة رجل موسوعي المعارف في الثقافة والسياسة وإكاديمي فذ مُلمّ بأوضاع العرب اكثر من العرب ومطلع على دقائق علاقات خواص أحوالهم الداخلية والخارجية في متناقضاتها ومنازعاتها ويقف مع القضية الفلسطينية ويرى ان اسرائيل مخلب قط في يد الامبرالية الأمريكية(!)
وله علاقات طيبة مع ياسر عرفات وعبدالناصر وحافظ الاسد والكثير من المثقفين العرب، ويدرك اشياء دقيقة عن المملكة العربية السعودية، فأتعثّر وأنا أسمعه دون إلمامي بما يقول وما كان لي إلا ان اهزّ رأسي وأنا مأخوذ في نبرات رجولية بُحّة صوته وهو يحدثني بلغة عربّية طليقة واثقة(!)
قامته قصيرة وجذعة مملوء وله جبهة واسعة وحواجب كثّة تنحني على عينين ملمومتين بصيرتين في نظراتها الواخزة وهي تشعّ وخزاً في ألقها من تحت نظارة طبّية مبوّبة بإطار نحاسيّ رقيق ناعم، وله أنف ملموم ينحني برفق على شارب فضي شُذّبت أطرافه بعناية وشفته البنّية المكنوزة تنم عن جدّية رجل يجابه في جدّية مغالية الحياة.. رقبته قصيرة وأكتافه عريضة يحرّك ذراعية بلطف وكفّه المترفة تضج بدفء الود والمحبّة(!) في أوائل الستينات كنت في موسكو أشارك في ندوة عالمية تبحث في قضايا الشباب، وفي فندق (...) لا اذكر اسمه طلّ عليّ مساءً رئيس رابطة الطلاب السعوديين (حسن سنان)، وفي يده مجلة لا اذكر اسمها وراح يترجم لي مقالاً كتب باسم بريماكوف وكان المقال يُشير: أن احداً من شركة النفط أرامكو ورجال الـCIA يقومون سراً بتجهيز بعض المثقفين من الطائفة الشيعية لاستخدامهم قواعد احتياطية وفي حالات معينة دقيقة ضد النظام الملكي في السعودية اخذت المجلّة، وفي الصباح طلبت من مرافقي السوفياتي رغبتي في لقاء يفغيني بريماكوف وكان ان ذهبت في اليوم التالي الى مقر لجنة (السلم والتضامن) على ما اذكر وكان في انتظاري يفغيني بريماكوف صافحته بحرارة وشيء من «الخشية» إلا ان تواضعه وحسن استقباله لي وأريحيّته النابهة بدّدت كل خشية عندي(!) وأبديت رغبتي في ان اطرح عليه بعض الاسئلة حيال مقالته المتعلقة بالسعودية فأبدى استغرابه قائلاً: أي مقال تعني لم اكتب مقالاً عن السعودّية، مددتُ إليه المجلة وأنا اشير بأصبعي الى المقال ابتسم وقال هذا المقال الذي تعنيه كتبه ابني (...) فتشاكل لقب «بريماكوف» عندي بين الأب وابنه(!)
قلت وأنا أبدي إعجابي: «ولد الوز عوّام» فانشرح وجهه أيم انشراح وتلاصفت بهجة الأبوّة تجاه الابن في دفء نظرات عينيه (!) وقال ما معناه أتدري: البحث في الحلقات الضعيفة هناك يكون الاختراق (...) والحلقات الضعيفة دائماً تكون عند الاقليات القومية والطائفية المذهبية المضطهدة قومياً أو عرقياً أو مذهبياً دينياً وهو ما تجد لها إذناً صاغية ونفسيّة متجاوبة مع اهداف تحقيق نفوذ وسيطرة المستعمر على المنطقة برمتها وتكريس نهبها، إن الاضطهاد والقمع وفوضى النهب والفساد والاستغلال في هذه المجتمعات بالضبط يجد المستعمر وأجهزة مخابراته ضالتهم في هذه الحلقات الضعيفة للنفوذ عبرها واختراقها وتكوين احتياطيات بشرية يمكن استخدامهما لاحقاً استعمارياً عند الضرورة (!)، وقال سوف ارتب لك لقاءً مع ابني (...)، إلا ان اللقاء لم يتم لأن سفري بعد يومين، ان ذاكرة هذا الشريط يضغط ذاكرتي بالألم وأنا اسمع رحيل هذا الانسان الأممي العظيم يفغيني بريماكوف عن عمر يناهز (85) سنة، وقد كان للراحل الكبير تقييمات ونبوءات سياسية ثاقبة وكان يؤكد انه لا يمكن للعالم بأسرة ان يكون بقطب واحد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومثول الحرب الباردة، اذ راحت الولايات المتحدة تُفتّل عضلاتها كونها وحدها القطب الواحد الأحد على صعيد العالم(!)
إلا أن أول ما تنبأ به يفغيني بريماكوف ان العالم على طريق التشكل الى عدة اقطاب وكان أن اصبحت روسيا قطباً بجانب الولايات المتحدة الامريكية والصين والهند والبرازيل وأحسب أيضاً ان يفغيني بريماكوف اكثر من عظّ اصابع الندم وعصرته الحسرة غِبَّ سقـوط الاتحاد السوفياتي وكان عفيف اليد واللسان واثق النبل والتواضع في حياتــه رحم الله يفغيني بريماكوف وأسكنه فسيــح جناته وألهــم أهلــه وبنيــه وأصدقائــه ومُريديــه الصبر والسلوان(!)