«سيريزا» اليونانيّ والعودة إلى الجذور


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 4871 - 2015 / 7 / 19 - 12:57
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     




مضى الشعب اليونانيّ، أمس، قُدُماً، على خُطى شعوب أميركا اللاتينيَّة، وصَنَعَ - بقيادة ائتلاف اليسار الراديكاليّ (سيريزا) - تاريخاً حقيقيّاً؛ ليس له وحده، ولا لأوروبّا حسب، وإنَّما أيضاً للعالم كلّه؛ فقال: لا لليبراليّة؛ لا للرأسماليّة المتوحِّشة؛ لا لديكتاتوريّة الشركات متعدّدة الجنسيّة المتستِّرة بخطاب ديمقراطيّ زائف؛ لا للبنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ وسائر القَتَلَة الاقتصاديين. وقال، بالمقابل: نعم للديمقراطيّة الحقيقيّة؛ الديمقراطيَّة التي تعبِّر عن مصالح الأغلبيّة الشعبيّة (وليس الأقليّة الثريّة)، والتي تعزّز الاستقلال (وليست تلك التي تنتقصه)، وتصنع التحرّر الوطنيّ (وليست تلك التي ترسِّخ قواعد التبعيّة).

اليونان، دفعتْ، أمس، عجلة التاريخ، خطوةً كبيرة إلى الأمام، وفتحتْ كوّةً واسعة في أفق التاريخ، نحو المستقبل الوضّاء، للشعوب التوّاقة للحريّة والتقدّم الاجتماعيّ والتحرّر الوطنيّ والتنمية المتمحورة على المصالح الوطنيّة. وأثبتت أنَّ التاريخ لم يتوقّف في محطّة الليبراليّة المتوحّشة إلا ليستردّ أنفاسه ثمّ يواصل سيره مِنْ جديد، وليس ليقيم هناك إلى الأبد.

لقد أعادت اليونان، أمس، بوصلة الصراع إلى اتّجاهها الصحيح؛ حيث يكون نضال الشعوب، مشتركاً، ضدّ المراكز الرأسماليّة الدوليّة، وضدّ الإمبرياليّة، والاستغلال والقهر، وضدّ حواشي النظام الرأسماليّ الدوليّ وتوابعه، مِنْ صهاينة ورجعيين وأنظمة تابعة.

فعلت اليونان ذلك كلّه، بأصوات شعبها الصغير (لكن الحرّ، والعريق بنضاله وحضارته)؛ في حين تُستباح منطقتنا العربيّة، بأسرها، مِنْ قطعان الوهّابيين المتوحّشين، وقطعان المستوطنين الصهاينة الذين لا يقلّون عنهم توحّشاً (هما، في الحقيقة، وجهان لعمله واحدة)، وحلفائهم من الليبراليين والرجعيين والتوابع، ورعاتهم الإمبرياليين، في محاولةٍ مستميتةٍ مِنْ هؤلاء جميعاً لأن يصنعوا مِنْ هذه المنطقة قاطرة خلفيّة للتاريخ تشدّه إلى الوراء؛ الأمر الذي يستلزم، بالضرورة، تحويل مصر وسوريا والعراق وتونس إلى نُسَخٍ بائسة من الصومال والسعوديَّة وإمارة طالبان السابقة.

لذلك، ليس غريباً أنْ يجد الذين يتصدّون للمشروع الظلاميّ التدميريّ أنفسهم في حلفٍ (موضوعيّ، على الأقلّ) مع الشعوب والاتّجاهات التي تستقلّ القاطرة التي تسير في المقدّمة؛ شعوب أميركا اللاتينيّة واليونان التي تستعدّ شعوب اسبانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال للالتحاق بها.

وليس غريباً، أيضاً، أنْ يجد أطراف المشروع الظلاميّ التدميريّ (المسمّى «الربيع العربيّ»)، ومؤيّدوه، وداعموه، أنفسهم، في حلفٍ (موضوعيّ، على الأقلّ) مع المراكز الرأسماليّة الدوليّة ومع الصهيونيّة؛ فيقفون معها في خندقٍ واحد ضدّ كلّ تمثّلات الطرف الآخر، ويحشدون ضدّها كلَّ جهودهم وطاقاتهم.

انظروا إلى أطراف المشروع الظلاميّ التدميريّ في منطقتنا، وستجدونهم غير مسرورين البتّة بما حدث أمس في اليونان، وقبل ذلك في أميركا اللاتينيّة!

لماذا؟

لأن هذا يكشفهم، ويفضح حقيقة اصطفافاتهم وارتباطاتهم، ويكشف زيف دعاواهم وشعاراتهم؛ وبالمحصِّلة، يعدِّل التوازنات الدوليَّة لتصبح في غير صالحهم، ويدفع عجلة التاريخ بالاتّجاه المعاكس للاتّجاه الذي يحاولون دفعها نحوه.

ما صنعته اليونان، أمس، لا يقلّ أهميّة عمّا صنعه طلبة معهد البوليتكنيك في أثينا عام 1974، عندما أسقطوا، بثورتهم الظافرة، الديكتاتوريّة العسكريّة المرتبطة بالإمبرياليّة الأميركيّة التي كانت تحكم بلادهم عنوة. آنذاك، كانت شعارات الطلبة هي: «خبز، تعليم، حريّة»، وأمس، انطلقت انتفاضة الشعب اليوناني العظيم مِنْ وحي تلك الشعارات نفسها تقريباً.

تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ أليكسيس تسيبراس، رئيس الوزراء اليونانيّ الحاليّ وزعيم سيريزا، وُلِد في العاصمة أثينا عام 1974، بعد أيّام من سقوط الطغمة العسكريّة التي كانت تحكم بلاده. وقد بدأ نشاطه السياسي عندما كان طالباً في المرحلة الثانويّة حيث قاد احتجاجات زملائه ضدّ سياسات اليمين التعليميّة. وخلال حفل تنصيبه رئيساً للوزراء، رفض تسيبراس أداء القسم الدستوريّ لوجود شقٍّ دينيٍّ فيه، وقال إنَّ ذلك يخالف مبادئه.

مَنْ يتّخذ موقفاً شجاعاً ومبدئيّاً كهذا، من الطبيعيّ أنْ يتحدَّى حيتان رأس المال وأدواته ووسائله.. حتَّى النهاية، ويتصدَّى لابتزازهم وإرهابهم وضغوطهم.

أمَّا «ائتلاف اليسار الراديكاليّ» (سيريزا) التي تعني باليونانيَّة «نحو الجذور»، فهو مكوَّن مِنْ عددٍ من الأحزاب اليساريّة اليونانيّة. وتحتلّ الحركة الشيوعيَّة اليونانيَّة المرتبة الثانية فيه بعد حزب تسيبراس.

وهكذا، لا نملك إلا أنْ نقول للحيارى والمضلَّلين والمتوَّهين، مِنْ أبناء جلدتنا الذين صدّقوا بروباغندا نهاية التاريخ وأفول اليسار وانتهاء صلاحيَّة الحلول الاشتراكيَّة:

إلى اليسار دُرْ؛ أو فأنَّكم إلى الهاوية سائرون.. بخلاف كلّ الأمم الأخرى.

ونختم باستعادة مقولة روزا لكسمبورغ البليغة، التي قالتها في مطالع القرن الماضي:

إمّا الاشتراكيّة أو فالهمجيَّة.