تل أبيض وما بعدها


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4853 - 2015 / 7 / 1 - 21:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

ليسا طرفين، عرب وكرد، هما من يتنازعان السيطرة على المناطق الشمالية في محافظة الرقة، المحاذية للحدود السورية التركية. خلافا لما توحيه سجالات دائرة عربية كردية، ثمة بالأحرى ثلاثة أطراف، بل أربعة، بل خمسة.
الطرف الثالث ذو التأثير الحاسم على سير الأمور في المنطقة هو الأميركيون. وهذا ليس فقط عبر ضربات جوية مركزة استهدفت بصورة متكررة في الأسابيع الأخيرة مقرات لداعش في تل أبيض والمناطق المجاورة، ولكن خصوصا ما يرجح حدوثه من تفاهمات سياسية غير معلومة بين الأميركيين وبين القوات الكردية المهاجمة على الأرض. لا يحتاج إلى نباهة خاصة تقدير أن هناك تنسيقا بين المهاجمين بسلاح الطيران وبين المهاجمين على الأرض. مقابل ماذا؟ أي ثمن؟ أية وعود من الطرف القائد الأميركي للطرف الكردي؟ ليس معلوما. لكن يمكن أن يكون بينها خلق تواصل أرضي بين كانتوني عين العرب/كوباني والجزيرة، مناطق الكثافة الكردية في أقصى الشمال الشرقي السوري. هذا كلام يتواتر يوميا في أقوال وتعليقات ناشطين كرد، وليس تخمينا ذاتيا. وهو مضمن على كل حال في تصور "روجافا"، أي "كردستان الغربية". معلوم أن مناطق الأكثرية الكردية غرب حلب (عفرين) وشرقها (عين العرب/كوباني) ثم في محافظة الحسكة شرقا مفصولة عن بعضها بمناطق أكثرية عربية. تصور روجافا يشرع لإنشاء كوريدور مفتوح بين هذه المناطق ويوجبه.
وتوحي وقائع متواترة على الأرض بأن الأمور تسير في هذا الاتجاه فعلا. لا يلزم أن يكون هناك تهجير نسقي لسكان عرب من قراهم وبلداتهم (وقع شيء من ذلك في غير قرية، ونهبت أملاك وأهين سكان)، لكن فرض سيطرة عسكرية وسياسية على الأرض والتحكم بتحركات السكان يتجاوب مع هذا الطموح.
لكن هل يضمن الأميركيون فعلا مشروعا كهذا، سيقتضي من كل بلد تطهيرا عرقيا ضد عرب المنطقة، يشرع نفسه منذ الآن بتاريخ الحكم البعثي واضطهاده للكرد؟ هذا ليس مؤكدا. إذ قلما كان الأميركيون معنيين جديا بضمان وعود قطعوها في ظروف خاصة لأية جماعة. حين تقع مذابح صغيرة أو كبيرة، وفرص وقوعها تزداد اليوم، قد يكتفي الأميركيون بالتبرؤ ونفض اليد: إنهم محليون يقتلون محليين! منهج الأميركيين في المنطقة منذ عقود هو منهج "إدارة الأزمات"، وهو منهج يغفل تماما قضايا العدالة وحقوق السكان، وكان دوما منبع أزمات أكبر من التي صمم لإدراتها.
الطرف الرابع المحتمل هو تركيا. اليوم تبدو السلطات التركية مرتبكة حيال الوضع الناشئ مؤخرا على حدود البلد الجنوبية، وهذا بفعل الانتخابات الأخيرة التي قصرت من يد حكومة حزب العالة والتنمية في حرية التصرف، وربما تؤول إلى خروجه من الحكم. تركيا لم تفعل شيئا لضرب داعش أو النيل منها في المناطق الأقرب إلى حدودها، بل كان الدواعش يعالجون جرحاهم في مشافي جنوب البلد على نحو لا يمكن إلا يكون معلوما لسلطات أنقرة. والأصل المرجح لهذا المسلك الضال إلى أبعد حد أن تركيا تنظر إلى مناطق الحدود في منطقة الجزيرة السورية من زاوية إضعاف القوى الكردية، تماما مثلما تنظر قوى معارضة تركية إلى الشأن السوري من منظور معارضتها لحكومة العدالة والتنمية. كانت حكومة أردوعان صدرت إلى سورية المنهج التركي القديم في التعامل مع كرد تركيا، الحرب والإخضاع، فحرضت ودعمت مجموعات من مقاتلي "الجيش الحر" العرب ضد الكرد في 2012. وأسوأ ما في هذا المنهج السيئ أنه لم يعد معتمدا في تركيا نفسها، وأن سورية عوملت بالتالي كبيئة أدنى، كدار للحرب لا للسياسة. ويبدو اليوم أنه أياً تكن الحكومة التركية التي قد تتشكل في الأيام والأسابيع القليلة القادمة فإن تركية إما ستفاقم الأزمة الكبيرة، الدموية احتمالا، التي تتجمع عناصرها في منطقة الجزيرة السورية، أو في أحسن حال لن تكون مؤثرة فيها. "حزب الشعوب الديمقراطي" الذي يعرض في تركيا وجها تركيا يعرض في سورية وجها كرديا. في حديثه لقناة حزب الله التلفزيونية حيّا صلاح الدين دمرتاش، زعيم الحزب، مقاومة "شعبنا" في "كوباني وروجا والمحمودية"، ولم يقل كلمة واحدة عن بشار الأسد وعن الاحتلال الإيراني، ولم يجد ما يقوله لمليوني سوري لاجئين في تركية. وبينما سياسة الحزب في تركيا متمركزة اجتماعيا، تبدو حيال سورية متمركزة إثنيا. هنا أيضا يجري تصدير سياسة قديمة إلى سورية، سياسة الهوية، وليس السياسة الاجتماعية التحررية، وهو ما يضمر نظرة تمييزية وكولونيالية إلى البلد الجار. والأصل في التصدير هنا أيضا أنه تفكير الجماعة، والمعارضة التركية ككل، حيال سورية متمحور حول معارضة سياسة الحزب الحاكم. سورية نفسها غير مرئية. ويجد الجماعة أنفسهم اليوم لا يعرفون شيئا تقريبا عن البلد الجار (طلبوا ممن يعرفون إعداد ورقة مختصرة تتضمن أساسيات الاقع السوري)، فيستبطنون المنظور الطبيعي لمن لا يعرف: منطق الهويات وسياستها. يفاقم من ذلك أيضا أن غير قليل من مقاتلي "وحدات حماية الشعب" وقادتها هم من كرد تركيا. هذا ظاهر لزوار عين العرب/ كوباني، وأكده فهيم طاشتكين في مقالة له نشرت مؤخرا في راديكال التركية (نشرت "الحياة" ترجمة عربية لها يوم 17 حزيران الجاري)، تقول إن 500 كردي تركي قتلوا في سورية في القتال ضد داعش؟ لا بد أن عدد المقاتلين الكلي أكبر بأضعاف كي يكون عدد الضحايا 500.
أما من طرف خامس؟ أين داعش نفسها؟ ليس مفاجئا في تصوري الانهيار السهل لسلطة داعش في تل أبيض أو أي مكان. المنظمة الإرهابية قوية فقط في مواجهة سكان عزل أو مجموعات مقاتلة فوضوية وضعيفة التماسك، أكثر مما هي ضعيفة السلاح. ونقطة ضعف داعش أنها بلا سند شعبي، ولذلك بالذات تحكم بالإرهاب المشهدي وبغرس الرعب في النفوس. لم تكد داعش تخوض معركة حقيقة واحدة. قوات الجيش العراقي انهزمت أمامها دون حرب، والنظام السوري أخلى تدمر لها دون حرب. والحل البسيط في مواجهة داعش هو قوى منظمة، حسنة التسلح، ولها سند شعبي على الأرض، الأمر الذي لا يستطيع لا النظام الأسدي ولا شبيهه العراقي، ولا أي قصف أميركي من الجو تحقيقه.
لكن أليست مشكلة الأكثرية العربية في المنطقة أنها، بالأحرى، ليست طرفا، وأن وقوعها تحت سيطرة داعش بعد وقت قصير من خروجهم من سيطرة النظام، وقتل وتغييب وتهجير أبرز ناشطيها، حرمها من أن تكون طرفا متماسكا يمسك بزمام مصيره؟ هناك مقاتلون عرب ضد داعش طوال الوقت، يشاركون المجموعات الكردية القتال، لكنهم بلا سند، وعلاقتهم بالشريك الكردي تفتقر إلى الثقة.
يحوز الطرف الكردي بالمقابل نقاط قوة مهمة. الأولى هي الدعم الأميركي. الثانية هي قضية القتال ضد داعش، القوة الإجرامية التي لا يتعاطف معها أحد. والثالثة هي "العقيدة العسكرية التي توحّد هذه القوات الكردية خلف هدف واحد وهو دحر داعش وتحرير المناطق التي يسيطر عليها في ما يسمى كوردستان العراق أو كوردستان سوريا"، حسب جبار ياور، أمين عام قوات البشمركة في العراق (النهار، 17/6/2015). هذه العقيدة العسكرية ذاتها تقوم على شعور قومي صاعد، غذاه الحرمان من دولة والتمييز المديد ضد الكرد في أربعة بلدان.
انحدر شخصيا من هذه المنطقة التي لم يقع قط صراع عنيف بين سكانها. كانت منهوبة ومحتقرة من الحكم الأسدي، وكان ينظر إلى الأكثرية العربية بمنطق شبه استشراقي، وأجهزة النظام الأمنية تتعامل مع السكان كأعداء أجانب، وتشتبه دونما أساس بولائهم لنظام صدام في العراق. والمنطقة تبدو مقبلة على أوضاع أكثر كارثية مما عرفت منذ سيطرت عليها داعش قبل عام ونصف. يدفع الثمن السكان الأشد فقرا والأدنى حماية، ينتقلون من سيطرة متحكمين إلى متحكمين إلى متحكمين.
وتشحن النفوس باستعدادت تبدو متوافقة مع التهجير والإبادة، لا مع الاعتراض عليها والوقوف في وجهها.