عناصر مفهوم التحول الإشتراكي*


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 4852 - 2015 / 6 / 30 - 23:43
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     


إعداد: رشيد غويلب


منذ عدة سنوات عاد مصطلح "التحول" ثانية ليحتل موقع الصدارة في المناقشات. وكان قد استخدم قبل قرابة مئة عام، من قبل نيكولاي بوخارين لتوصيف الانتقال إلى الاشتراكية / الشيوعية في التجربة السوفيتية.

واستخدم المصطلح بعد نصف قرن لتوصيف فترات انتقال ما بين مراحل التطور في اطار الرأسمالية، وبعدها استخدم للدلالة على الانتقال من انظمة مستبدة إلى ديمقراطيات تمثيلية كما في بلدان مثل اسبانيا، البرتغال، وبلدان امريكا اللاتينية، او شرق أسيا، وبعد عام 1989 وظف المصطلح لتوصيف انهيار تجربة الاشتراكية السوفيتية، وتمت دراسة ضم جمهورية المانيا الديمقراطية الى جمهورية المانيا الاتحادية تحت هذا المنظور. وفي البحث التاريخي لتاريخ اوربا خصوصا والعالم، تم ايضا معالجة "التحولات الكبيرة"(1) نظريا . وفي السنوات الأخيرة، تغير مدلول المصطلح مرة أخرى ليعني تسليط الضوء على اشكاليات جديدة. فقد كان عنوان منتدى دافوس الاقتصادي العالمي لعام 2012 "التحول الكبير: رسم نماذج جديدة"، وحظي التحول وحوكمته بمركز الاهتمام بالارتباط مع فكرة الانتقال إلى مجتمع مستدام. وكان اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في عام 2007 / 2008 مناسبة لبلورة مفاهيم تتعلق بكيفية الخروج من الازمة من خلال إعادة تنظيم بيئي للمجتمع. ودخلت هذه المفاهيم برنامج حزب الخضر الأوربي وحزب الخضر الالماني. والتقطت مؤسسات رائدة مفاهيم التحول التي تحملها الصفقة الخضراء الجديدة . والأفكار المركزية في مدلولات ومفاهيم التحول التي يجري التركيز عليها تتعلق باضفاء بعد بيئي على أنماط الإنتاج، وإعادة الإنتاج، والاستهلاك وعلى نمط الحياة وذلك باستخدام المؤسسات الأساسية للحداثة الرأسمالية.

ودخل مصطلح التحول ايضا برامج اليسار، ووظف للتعبير في اطار التوجه نحو التغلب على الرأسمالية ولا يعتبر حزب اليسار الأوربي نفسه كتحالف لأحزاب " تحول" يسارية فقط، بل صاغ مفهومه لما يمثله بالشكل التالي : "ان حزب اليسار الأوربي ناقد للرأسمالية: أي انه مناهض للرأسمالية ويهدف إلى تحويل المجتمعات إلى ما بعد حكم الرأسمالية"، وفي البيان التأسيسي لحزب اليسار الأوربي في عام 2004 نقرأ: "نحن نفهم دور ومهمة اليسار السياسي في أوروبا كمساهمة لتشكيل تحالف اجتماعي وسياسي واسع من أجل تغيير سياسي جذري، وذلك من خلال تطوير بدائ? ومقترحات ملموسة لهذا التحول الضروري في المجتمعات الرأسمالية الحالية".

ولكن حتى الآن، لا يمثل "التحول" بالنسبة لليسار مفهوما استراتيجيا، كما يوجد في هذا المجال نقص جوهري في التأسيس النظري. واستخدام مصطلح "التحول" هو يعبر عن رفض للتركيز الاجتماعي الديمقراطي التقليدي، وكذلك الشيوعي، على ثنائية الاصلاح والثورة اكثر مما يمثل بحد ذاته مقاربة مستقلة وفعّالة. وفيما يلي خلاصة مكثفة لعناصر تحول اشتراكي محتمل بالاستناد لما توصل أليه معهد التحليل الاجتماعي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ التابع لحزب اليسار ألألماني:

ما بعد الاصلاح او الثورة – منطق رأس المال ومنطق المجتمع

تحددت ملامح تشكيل الحركة الاشتراكية منذ بداياتها الأولى قبل 200 عام، بالتناقض بين المقاربتين الاصلاحية والثورية، كما شكّل الدور الذي ينبغي أن تلعبه الدولة في التحول المنشود قضية أخرى يدور عليها الخلاف والنزاع.

وتشكّل نشوء وتطور الحداثة الرأسمالية بعملية مزدوجة، فمن جهة ينطبق ما جاء به ماركس وانجلس في "البيان الشيوعي": البرجوازية خلقت لنفسها "عالما على صورتها" (ماركس/انجلس 1974، 466 ) عالم على كل شيء فيه أن يصبح سلعة، ويكون فيه الاستغلال "العاري والمباشر" والوقح والوحشي (نفس المصدر 465 ) للانسان والطبيعة هو المبدأ السائد، وتتغلغل هيمنة الربح ومنطق الرأسمال في المجتمع وتجعله يخضع لهما . وما التدمير النهائي للغابات ونهب الطاقة، والموارد المعدنية لكوكبنا، واغراقه بالنفايات وتسميمه إلا نتيجة لهذه العملية.
ومن ناحية اخرى تم اطلاق انتاجية غير معروفة سابقا، سببها الرئيس لم يكن التوسع غير المقيد للاستغلال الرأسمالي، بل المقاومة التي وقفت بوجه ذلك! فتجارة اصحاب المصالح تصبح منتجة حقا فقط عندما لا يتفوق المنافسون على بعضهم البعض عبر مجرد استنزاف وتدمير العمل والطبيعة والمجتمعات السابقة والقضاء على ثقافاتها. ان إنتاجية المشاريع الرأسمالية الحديثة لا تكشف عن كل قدراتها على المدى البعيد إلاّ عندما يدافع العمال عن أنفسهم، ويطالبون بحصتهم من الثروة الاجتماعية، وعندما لا تعود تتوفر المواد الخام والطاقة بالمجان تقريبا، وعندما تفرض مجتمعات قوية الضمان الاجتماعي والمشاركة والرعاية الاجتماعية، وعندما تضمن هذه المجتمعات قيام دولة دستورية وتطبيق الديمقراطية الدنيا بحدودها الدنيا.
فمن خلال النضال والصراع الاجتماعيين تتحقق سيادة "المنطق الإجتماعي"، و"المنطق البيئي"، "المنطق الديمقراطي"، ومنطق حضارة حرة لا تهيمن عليها الأسواق واستغلال الرأسمال . وستنتج عن ذلك "حركة مزدوجة"، حسب تعبير كارل بولاني.
فهذه "الحركة المزدوجة" غير العفوية تشمل المواجهة بين الذين يدعون إلى "الإدارة الذاتية للمجتمع"، وأولئك الذين يبحثون عن اقامة مجتمع سوق يضبط نفسه ذاتيا عبر تطبيق متطرف
.(دعه يمر)

الديمقراطية الإقتصادية

منذ انطلاق حركة التعاونيات الأولى في القرن التاسع عشر، تقف الديمقراطية الإقتصادية في مركز مفاهيم التحول الاشتراكي. سواء كانت منتظمة في اطار شبكات لتعاونيات مستقلة،على الأغلب، وكومونات أم مجالس، أو كتخطيط مجتمعي - كان الهدف دائما، ربط حق تقرير مصير العمال بتشكيل الجمعيات على صعيد المجتمع والتضامن. وفي القرن العشرين جرت عدة محاولات للتطبيق العملي لهذا الهدف.
ويجب أن تستند استراتيجيات التحول الاجتماعي الإيكولوجية الى إعادة توزيع السلطة والملكية والثروة من القطاع الخاص إلى القطاع العام، ومن أعلى إلى أسفل. ان عناصر مهمة في مثل هذه الاستراتيجية تشمل حسب ما ورد في بحوث وكتابات عدد من منظري التحول الاجتماعي والاقتصادي الايكولوجي، هي
" الإدارة المخططة على نطاق عالمي للمواد الأولية والموارد ووضع حدود كمية والديمقراطية الاقتصادية والتخطيط التشاركي اللامركزي واللامركزية، واعطاء صلاحيات أكبر للبلديات، ووضع حد للعولمة وأشكال مختلفة من التشريك ومن الملكية وتوسيع نطاق الخدمات العامة، وإعادة التوزيع على النطاق العالمي وسياسات صناعية و ,و"انتقال عادل"، وتشريك وظائف الاستثمار وإعادة توزيع تقسيم العمل الاجتماعي والجنساني (الجندر)،... والانتقال إلى اقتصاد اشتراكي - أخضر (بيئي) يتجاوز النمو".
وستكون المهمة الرئيسة، تحقيق الربط بين دمقرطة الاقتصاد واعادة توجيه القدرة على الأبتكار لشركات ديمقراطية. وان التحسين الفوري لحالة الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، واحداث تغيير جوهري في علاقات القوى وايجاد وتطوير أشكالا جديدة من التنشئة الاجتماعية هي ثلاثة جوانب لمثل هذه السياسة.

التحول المزدوج والاشتراكية

ان تحولا مجتمعيا يقوم على مقاربات الصفقة الخضراء الليبرالية، وتجذير هذه المقاربات من اليسار، يهدف، كمرحلة اولى، إلى تشكيلة رأسمالية -برجوازية- رأسمالية أخرى، تتشكل بصورة اكثر ديمقراطية مما هي عليه الآن؛ تشكيلة لا تبدي مقاومة للخطوات الرامية إلى تجديد دولة الرفاه، ومنفتحة لإعادة تنظيم المجتمع ايكولوجيا، وللبحث عن طرائق جديدة لحل المشاكل العالمية الشاملة عن طريق السلام والتعاون .
ومن خلال القيام بذلك، ستمتد وتتوسع في ذات الوقت مجالات ومؤسسات جديدة، تؤشر الى "تجاوز الراسمالية"، وحسب الباحث اليساري الألماني ديتر كلاين، هذه هي "الفكرة الآساسية التي يقوم عليه مفهوم التحول المزدوج لإوروبا".

وبدلا من المعادلة العامة للرأسمال نقد - بضاعة - نقد (M-C-M) ويهدف هذا التحول إلى توسيع المجال العام للمجتمع المعاصر- التنظيم والضبط الديمقراطيين للاقتصاد، والمشاركة في القرار في الشركات والبلديات، في مجال عام غني ومتنوع، ونظام تعليمي، وقطاع صحي، ونظام ضمان اجتماعي موسع وفي متناول الجميع. وهذه هي الأسس الشيوعية، غير المعترف بها في الغالب، في الحداثة الرأسمالية، ستحل معادلة الجمعية الحرة والتضامنية: الأفراد، الذين سيقومون عن طريق مساهمتهم التضامنية لتطوير الجميع، بتطوير ذواتهم (I-S-I) وهي تجسيد لتوصيف ماركس وانجلس للمجتمع الشيوعي - مجتمع "يكون فيه التطور الحر للأفراد شرطا للتطور الحر للجميع" 1974.482. (ماركس/انجلس 482 / الطبعة الألمانية 1974 )


بعض الدلالات الإستراتجية

ان سياسة تحول واقعية جذرية، حسب روزا لوكسمبورغ، هي تلك التي تهدف في المقام الأول الى تعزيز إمكانات العاملين والأجراء، والمواطنات والمواطنين لتقرير مصيرهم، وتطوير وتشجيع عمليات، تعلمهم لكيفية المشاركة اجتماعيا، وعبر ذلك تغيير انفسهم . ويقف مثل هذا التحول بالضد من مصالح سلطة الكتلة الحاكمة، التي تسيطر كطغمة، على أهم مجالات التفاعل الاجتماعي مع الطبيعة ( الطاقة والنقل والزراعة)، كما يقوم بذلك المجّمع الصناعي العسكري والأمني وكذلك صناعة التكنولوجيا المتقدمة، في ظل هيمنة رأس المال المالي . ويقابله نمط امبري?لي للانتاج والحياة يقوم على استغلال الجنوب العالمي والطبيعة، وفي الاتحاد الأوربي يرتبط هذا النمط بهيمنة نموذج التصدير الألماني.

لقد احدثت الأزمة الكبيرة لرأسمالية سوق المال تصدعات وانكسارات في الكتلة الحاكمة، الامر الذي يدفع إلى ظهور مفاهيم بديلة، ومعها ينفتح فضاء جديد لسياسة يسارية، إذ يمكن أن تقود تغييرات جزئية في احداث يمكنها أن تجعل من الممكن القيام بتغييرات جوهرية في اتجاه التطور تساعد على نشوء ظروف لقيام تحالف اجتماعي- ثقافي للطبقة الوسطى - الدنيا، مصحوبا بتشكيل سياسي ذي بصمة يسارية واضحة، وسيكون من الممكن البدء بمشاريع تحول أولية، مثل السعي لإعادة تمليك امدادات الطاقة للبلديات، تعاونيات الطاقة. وفي مشاريع التحول في مصادر ?لطاقة هناك توجهات احتكارية مركزة وفق أجندة الشركات الكبرى القائمة، مع وجود نية لتوسيع ديمقراطية الطاقة. وهنا تكتسب كيفية التغيير، بواسطة هكذا مشاريع، اهمية أكبر من ماهية الهدف الذي يمكن الوصول إلية.

ان النقاط المرجعية لسياسة يسارية تكون معقدة في زمن الأزمة، فهي تشمل "تغيّرات في حياة الناس وعيشهم المشترك ...، والتي من شأنها دوما تحسين ظروف حياة الذين لهم وضع ضعيف بصورة عامة وهش اجتماعيا، وتعزيز موقعهم في المجتمع، وفي الوقت نفسه توسيع مساحة تقرير مصير للأفراد، واعادة انتاج المجتمع والإنسانية. وأخيرا وليس آخرا، ينبغي التغلب على التمييز الجنساني الملموس . فإن الظروف القائمة تقوم بتشظية وتفكيك وحدة وتماسك الفئات والطبقات الاجتماعية التابعة. وهذا هو بالتحديد الشرط المسبق للحكم، والجواب ليس في نفي الملاالح المختلفة والتمايزات الثقافية، فهناك ضرورة لاقران مصالح خاصة بتأسيس منظمات وشبكات مستقلة، وانطلاقا منها يمكن الدخول في شراكة مع مجاميع وكتل طبقية أخرى، إذ ان "الكثرة المتعددة" لا تتجمع سوية من تلقاء نفسها، فمكونات "موزائيك اليسار" ليست موجودة دائما، وإنما ينبغي اعادة تجميعها باستمرار. والمصاعب التي تواجه احزاب اليسار الجذري بهذا الخصوص كبيرة جدا.

وفي النهاية، فان استراتيجية مزدوجة، ذات شقين، فقط يمكن ان تثبت نجاحها. وهذه تنطوي، من جهة، على تنظيم هجومي من اليسار ومن الأسفل لقوى متكافئة تمتلك بصورة متساوية جذورا اجتماعية وثقافية. ومن جهة أخرى، فإن على اليسار المساهمة في تعميق الشقوق في المعسكر الحاكم لتصبح اختراقات حقيقية . وما لم توجد محاولة للعثور على حلفاء داخل الكتلة الحاكمة لا يمكن أن يكون هناك تحول الناجح، إذ سوف سيتم اعاقته بوسائل اقتصادية، وستدفع درجة عالية من عدم الاستقرار أجزاء كبيرة من السكان إلى براثن الجماعات اليمينية، وسيكون بالت?لي الفشل السياسي لا مفر منه.
ان مفهوم التحول المتضمن للعناصر التي جرى توضيحها حتى الآن، يمكن أن يكون قادراً على الدفع إلى أمام عملية خلق يسار بمستوى التحدي الذي تمثله الأزمة الكبرى لرأسمالية الأسواق المالية، والحضارة القائمة اليوم. وسوف نتعلم ونحن نتقدم من اجل تغيير نمط الانتاج الشامل ونمط الحياة، للسلطة ولعلاقات الملكية، وصولا الى مجتمع اشتراكي تضامني، ينتهي فيه استغلال الانسان والطبيعة. وان تغيير نمط تفكيرنا هو جزء من هذا التقدم.

*- اعدت هذه المادة عن مقالة بنفس العنوان لـ "ميشائيل بريه": فيلسوف الماني.
وباحث في معهد التحليل االجتماعي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ.
.
1 - اشارة إلى كتاب "التحول الكبير" لكارل بوالني، االاقتصادي واالنثروبولوجي من
اصل هنغاري، والذي يتناول بالبحث التغييرات السياسية واالقتصادية التي مهدت
ورافقت االنتقال إلى اقتصاد السوق في اوروبا.