: المماليك يقيمون للصوفية العمائر الدينية


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4843 - 2015 / 6 / 20 - 16:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية
الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً
المماليك يقيمون للصوفية العمائر الدينية
مدخل:ـ
قبض الصوفية ثمن تحالفهم مع السلطة المملوكية على شكل نفوذ سياسي عرضنا له , بالإضافة للمؤسسات الصوفية التي أقامها المماليك لهم تجسيدا حيا للتحالف بين الفريقين على حساب الشعب المحكوم. ومن الطبيعي أن تعبر تلك العمائر عن دين التصوف ففيها مورست طقوس التصوف وحفلات الرقص والسماع وأقام فيها أرباب المتصوفة وجماعاتهم .ومؤسسات التصوف تعبر بصدق عن مدلول (المعابد) . فالمعبد يقام في كل ناحية يحمل اسم الإله أو الولي المقدس في ناحيته ويضم في ردهاته الكهنة والرهبان ، وأؤلئك ينعمون برعاية الحاكم المسيطر ويأكلون من الأوقاف ويعملون من ناحيتهم على إخضاع الشعب لسلطة الحاكم ، والشعب يقبل عن طيب خاطر توجيهاتهم ويقدم لهم النذور والقرابين ويعتقد في نفوذهم السماوي فهم عنده جواز المرور للجنة .وهذا كله مخالف للاسلام . ولا يقتصر الأمر على كون تلك المؤسسات الصوفية معابد لتقديس الآلهة الصوفية ، بل لأنها كانت ثمنا لتعاون الصوفية مع المماليك ( الظالمين ) فإن إنشاء تلك ( المعابد ) كان بالظلم وبالمال الحرام السُّحت .وهذا يحتاج بعض التقصيل .
ملاحظات حول إقامة المؤسسات الصوفية
1ـ هناك ارتباط بين شدة الظلم المملوكي وكثرة إنشاء المعابد الصوفية ، وقد لفت ذلك نظر المؤرخين في العصر المملوكي يقول أبو المحاسن ــ وهو شاهد على عصره ــ عن سلاطين المماليك : ( وأعجب من ظلمهم إنشاؤهم المدارس والربط من هذا المال القبيح ) .
ويقول باحث معاصر هو لين بول ( ولعل أغرب ما يروى في تاريخ الشرق هو اقتران الفساد والانحلال والوحشية بذلك السمو في الحضارة المادية والغيرة على الفن الذي نلمسه في سلاطين الممالك ) .
ويقول عن المماليك البحرية (ومن عجب أن يقوم هؤلاء القوم بالعمارة من خلال حياتهم المليئة بالحروب والمؤامرات ) .
ولم يفطن أولئك إلى أن سر الغرابة يكمن في التصوف الذي أحل الظلم للمماليك طالما يكفرون عن ظلمهم بالاعتقاد في شفاعة المتصوفة وأنهم أصحاب الجاه عند الله كما يعتقدون.
2ـ ولم يتخلف الظلم عن ملاحقة حركة البناء لكل منشأة صوفية .. فاستخدم المماليك العسف والسخرة في بناء تلك المؤسسات الدينية مع خبث المال الذي أقيمت به .
فقد ورد في عقد الجمان أن بعض القبط أشاروا على الناصر فرج أن يأخذ رخام خانقاه جمال الاستادار (وهو ظالم سابق ) وكان جمال الاستادار قد سلب ذلك الرخام من بيوت متعددة صادرها وقت سلطته .. إلا أن كاتب السر تعهد للسلطان أن يصير خانقاه جمال الاستادار ملكاً له وان يمحو عنها اسم الاستادار وفعل ذلك بمعونة القضاة الصوفية .
ولم يكن الناصر فرج أقل ظلماً من جمال الاستادار فقد ( نودي في القاهرة ألا يعمر أحد من خلق الله إلى أن تتم عمائر السلطان فرج) ومنع بيع المؤونة (فحصل بذلك ضرر كثير للناس) .
وأصبحت عادة مملوكية أن يقترن إنشاء المؤسسة الصوفية بسرقة ما أقامه السابقون وغصب الرخام من البيوت ..فلما بنى المؤيد شيخ جامعه ( حصل للناس بسببه غاية الضرر لأجل الرخام ، وصار المؤيد يكبس الحارات التي بها بيوت المباشرين وأعيان الناس بسبب الرخام ، وكان والي القاهرة يهجم على الناس في بيوتها ومعه المرخمون (صناع الرخام) فيقلع رخام الناس طوعاً أو كرهاً . وأخرب دوراً كثيرة ثم قلع باب مدرسة السلطان حسن التي في القبو وجعله على جامعه وأخذ التنور الكبير النحاس منها أيضا ... وأخذ العمود السماقي من جامع قوصون... ونقلت أشياء كثيرة من أعتاب ورخام من مساجد بمصر العتيقة) .
وعلق ابن إياس على ذلك بقوله "فكان كما قيل في المعنى : ـ
بنى جامعاً لله من غير حله فجاء بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كد فرجها فليتلكِ لا تزني ولا تتصدقي ..
وهو نفس التعليق الذي أورده أبو المحاسن على زين الدين الاستادار الذي (استولى على معاش الفقراء وأرباب التكسب وصار هو يأخذها ثم يبيعها بأضعاف أضعافها، حتى جمع من هذا المبلغ الخبيث أموالا كثيرة وعمر منها الجوامع والمساجد والسبل) ويقول فيه أبو المحاسن : فهو كما قال الشاعر :
بنى جامعا لله من غير ماله
فكان بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كد فرجها
لكِ الويل لا تزني ولا تتصدق .
وذلك يدل على وجود الإنكار في العصر المملوكي وإن لم يستطع أحد تفسير السبب في الجمع بين الظلم وبناء المؤسسات الدينية .
ويذكر أن زين الدين الاستادار هذا اشتهر بالاثنين معاً : الظلم وكثرة العمائر يقول فيه أبو المحاسن أنه (حسَن للسلطان أخذ جميع الرزق ( أى الأوقاف الخيرية ) التي على وجوه البر والصدقة . وبضواحي القاهرة ، وبتأثيره على السلطان عم البلاء غالب المسلمين حتى الجوامع والمساجد والفقهاء والفقراء وغير ذلك . ولما أثرى وكثر ماله من هذه الأنواع أخذ في عمارة الأربطة والجوامع والمساجد ، فعمّر جامعه بالقرب من داره بين الصورين عند باب سعادة ، ثم جامعه الذي بخط بولاق على النيل ، ثم جامعه الذي يخط الحبانية على بركة الفيل ، وفي غير القاهرة عدة أملاك وسبل ومساجد تفوت على الحصر , كل ذلك وهو مستمر على ما هو عليه وزيادة إلى أن كانت نكبته ) ..
وقد بنى الأمير أقبغا المدرسة الأقبغاوية وجعل فيها صوفية . يقول فيها المقريزي ( وهى مدرسة مظلمة ليس عليها من بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادة شيء البتة) وذلك لأن أقبغا ـ حسبما يصفه المقريزي ـ ( كان من الظلم والطمع والتعاظم على جانب كبير) . وقد سخر في عمارة مدرسته كل صانع بالقاهرة ومصر : (وأقام بها أعواناً لم يُر أظلم منهم ، كانوا يضربون العمال ، وحمل لها الأصناف من الناس، فكانت بين غصب وسرقة . ومع ذلك فإنه ما نزلها قط إلا وضرب فيها من الصناع عدة ضرباً مؤلماً , ويعبر ذلك الضرب زيادة على شدة عسف مملوكه الذي أقامه شاهداً بها ... فلما تمت جمع بها القضاة والفقراء ـ يعني الصوفية) .
وقاسى العمال الفقراء من السخرة والضرب في بناء تلك المنشئات الدينية كما نلمح من النص السابق، حتى أن شدة الأمير قان بردى الأشرف في تسخيرهم دفعت المؤرخ المملوكي الارستقراطى أبا المحاسن إلى الاحتجاج الذي نحسه من النص التالي ( ابتدأ الأمير سيف الدين قان بردى الأشرف في عمارة تربة عظيمة عند الريدانية (العباسية ) وشرع في ذلك أيام يسيرة ، ومع هذا ظلم في تلك الأيام الظلم الزائد وعسف الصناع وأبادهم بالضرب وباستعمالهم بغير أجرة ، فما عفّ ولا كفّ ، إلى أن أخذه الله أخذ عزيز مقتدر .
3- واقترنت سيئات أخرى بالظلم مثل الرشوى فوصف يونس الداودارى بأنه ( كان يحب المال، ويأخذ الرشوة ، وعمّر مدرسة وخانقاه ورباطاً وزاوية وتربة وأحواض سبيل بالديار المصرية والشامية ) .
وبعضها إقترن بالشذوذ الجنسى الذى كان منتشراً بفعل الصوفية، وأدمنه بعض أرباب الدولة ، ومنهم السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، حتى يقال في حوادث سنة 735 ( وفيها كثر شغف السلطان (الناصر محمد) بمملوكه الطنبغا الماردينى شغفاً زائداً فأحب أن ينشئ له جامعاً) .. وهكذا ارتبط الشذوذ الجنسى بإنشاء جامع الماردينى المشهور، وارتبط بالطبع بالظلم فقد وصف المقريزي أصناف الظلم التي واكبت إنشاء ذلك الجامع .
4- وأسهم الظلم بطريق غير مباشر في ازدهار العمائر الدينية والوقف عليها .. ذلك أن المصادرات كانت أبرز سمات الانتقام من المهزوم أو الحصول على الأموال من الأغنياء والمباشرين فتحايل المماليك ـ سلاطين وأمراء ـ على تحصين أموالهم من المصادرة بعد وفاتهم بالبناء والوقف عليها وجعل ورثتهم متمتعين بعائد الوقف مشاركين فيه ، فكان أن استشرى الوقف على الأراضي الزراعية المصرية وأقيمت مؤسسات دينية تتعيش من ذلك الوقف . ومع ذلك فقد احتال الغالب على سلب أوقاف عدوه المغلوب بتشجيع القضاة المتصوفة، إذ كان يتم استبدال الوقف ـ على الورق ، أو يغّير كتاب الوقف على المؤسسة الدينية كما ذكرنا في حادثة الناصر فرج وخانقاه جمال الاستادار ..
5ـ وفي نهاية العصر المملوكي حيث ساد التصوف ارتفعت القباب على الأضرحة فاضطر الشعراني لأن يقول في رسالته (للمغترين) من صوفية القرن العاشر عن السلف الصالح (ولم يكن أحدهم يبنى على قبره قبة ولا يعمل له مقصورة ولا يزخرف له حائطاً ولا يجعل له في طبقات قبته قمرية خلاف ما حدث من بعض متصوفة زماننا وربما كان ذلك من مال بعض الظلمة .. فقد قالوا : كم من ضريح يزار وصاحبه في النار) . أي أن الظلمة أسهموا في بناء أضرحة لأشياخ هم على قيد الحياة ..
6- ومن الطبيعي أن يهتم الواقف على المؤسسة الصوفية بإلزام الصوفية فيها بالدعاء له للتكفير عن ظلمه وفي اعتقاده أن ذلك كفيل بالغفران له مهما ظلم . وقد ورد في وثيقة وقف الغوري (ويتولى شيخهم الدعاء فيحمد الله سبحانه وتعالى ثم يصلي كثيراً على نبيه ويهدي ثواب القراءة إلى حضرته الشريفة ثم في صحيفة مولانا السلطان .. ثم في صحيفة نجله وصحيفة كريمته المرحومة خوند الصغرى) .
7- على أن بعض المماليك ـ من معتقدي الصوفية ـ أقاموا لهم المؤسسات من واقع تقديسهم للمتصوفة ورغبة في الحصول على شفاعتهم في الآخرة حسب الاعتقاد السائد في العصر المملوكي . فالظاهر بيبرس بنى لشيخه خضر زاوية بالقاهرة وزاوية بالحبشة وزاوية على الخليج .
وأحب عز الدين الأقرم الفقراء فبنى لهم ( الربط والخوانق والزوايا والمدارس والمساجد والجوامع)
وعمّرت خوند مُغل للشيخ مدين ( مدرسة وزاوية ومدفنا ، وغرمت عليها أموالاً كثيرة في الرخام والأحجار والذهب واللازوارد والأخشاب وأوقفت عليها أوقافا. ) .
وكان يونس النوروزي ( كثير الإكرام للفقهاء والفقراء، وعمّر مدرسة وخانقاه ورباطاً وزاوية وتربة وسبيلا ) . ( وكان الأمير يحي بن عبد الرزاق براً بالفقراء ( أى الصوفية ) فعمّر عدة مدارس وجوامع وربط ) وأقام شيخون الخانقاه الشيخونية لشيخه أكمل الدين البابرتي ..
وموعدنا مع تفصيل أكثر لأثر التصوف المعمارى فى مصر المملوكية .