انغماس الصوفية في الفتن السياسية


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4839 - 2015 / 6 / 16 - 17:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية
الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً
انغماس الصوفية في الفتن السياسية .
1 ــ وقد دفع بعضهم ضريبة الوصول بالتصوف فغرقوا في بحر الفتن وأسهموا في المؤامرات السياسية وأصابهم ضررها . والشيخ خضر العدوى ـ الذي وصل بادعاء الكشف فاعتقده الظاهر بيبرس فعلا نفوذه عنده ـ مثل لأولئك الوصوليين، فقد هدد بنفوذه بقية الأمراء المماليك في دولة الظاهر بيبرس ، حتى أنه تنقص نائب السلطنة في حضرة بيبرس وقال له ( كأنك تشفق على السلطان وعلى أولاده كما فعل قطز بأولاد الملك المعز) وفى قوله إشارة للسلطان بأن نائب السلطنة سيستحوذ على السلطة من ابن الظاهر بيبرس بعد موته كما فعل قطز سابقاً . وكانت للشيخ خضر انحرافاته مع النساء والصبيان اشتهر بها دون علم الظاهر بيبرس فاتفق خصومه على إعلام الظاهر بيبرس بها وأحضروا الشهود فأقروا واعتقل خضر واستراح الأمراء ..
واشترك ابن الميلق الشاذلي في كتابة محضر ضد برقوق أثناء فتنة برقوق مع منطاش ، وكان برقوق قد اعتقد صلاحه وولايته وولاه القضاء، إلا أن ابن ميلق تنكّر لبرقوق في محنته ، حين تغلب منطاش عليه ، وكتب ابن الميلق الشاذلى في المحضر ما يؤدى للحكم على برقوق بالقتل. فلما عاد برقوق للسلطة أهان ابن ميلق، ( وانقلب اعتقاده فيه بغضاَ ) والواقع أن أولئك الوصوليين من القضاة كانوا ـ في الغالب ـ أدوات في الفتنة لدى المتغلبين من المماليك استخدموهم في كتابة المحاضر بالعزل أو الولاية أو القتل وذلك لاعتبارهم ممثلين للشرع السنى ويكون الحكم على يدهم شرعياً , وتلك جنايتهم على الشرع السنى الذي يدعون الانتساب إليه , وكابن ميلق كان ابن جماعة الذي تعاون مع المظفر بيبرس الجاشنكير حين عزل الناصر محمد فلما عاد الناصر عزل ابن جماعة ووبخ الآخرين ..
ومثله الباعوني الذي مدح منطاش وغض من برقوق ولما انتصر برقوق اعتذر إليه حتى عفا عنه . وتنكر الباعوني أيضاً للجميل مع فرج بن برقوق فكان ممن قام في خلعه ليتولى قضاء الديار المصرية . وفي عصر الناصر فرج كانت نكبة الصوفي الزعيفراني بعد أن راج أمره في أوائل سلطنة فرج ( وعظّمه كثير من الأتراك ( المماليك ) لعلمه بالحرف ثم سُعى به عند السلطان بأنه يمدح الأمير نوروز ويختلط بحاشيته (وهم ثائرون على السلطان) وأنه كان يذم السلطان ويهجوه وأنه نظم قصيدة يتنبأ فيها لجمال الدين الاستادار بأنه يمتلك مصر هو وولده، فقطع الناصر فرج لسانه وعقدين من أصابعه ، ولم يستطع الظهور في أيام المؤيد شيخ بعد مقتل الناصر فرج فانقطع كمداً حتى مات سنة 830 .
2ـ وكان السلاطين يخشون ـ غالبا ـ المتصوفة الأعاجم فالظاهر ططر عزل ابن العجمي من الحسبة وولى البساطي مكانه لأنه نقل عن ابن العجمي (كلام فيه فضول) ذلك أنه مهروا في المؤامرات وقد دبر أحدهم مؤامرة في عهود برسباي ضد ابن الكويز كاتب السر واتهم بأنه يريد إقامة ابن المؤيد شيخ في السلطنة في ورقة ألقيت إلى السلطان برسباي الذي تحرى الأمر واكتشف تدبير الصوفي ونفاه إلى الصعيد ..
وتكررت هذه المؤامرة ضد (الأمير) جقمق الداودار قبل أن يتسلطن حيث اتهم بتهمة خطيرة وهى اتصاله بالأمير قرا يوسف عدو الدولة فيما عرف بفتنة (على الدربندي) وكان كاتب الخطاب أعجمياً صوفياً بمدرسة العنتابي ، واكتشف الحقيقة وبرئت ساحة جقمق عند السلطان، وغُرّق ابن الدربندي في النيل وألزم الأعاجم في الخوانق خاصة بالعودة إلى بلادهم فضجوا ومازالوا يستعطفون السلطان إلى أن أهمل أمرهم ..
ولقد تزايد نفوذ الشيخ حسن العجمى في دولة الأشرف برسباي حتى كان يدخل على السلطان في خلواته بغير إذن ويقف فوق الأمراء ، وبذل له الأكابر الأموال خشية منه ، فثقل على أهل الدولة لأخذه الأموال منهم ولسوء أثره فيهم عند السلطان ، إلى أن زالت دولة الأشرف برسباي وتولى جقمق السلطنة فضربه وسجنه وصادره ونفاه .
ومع ذلك فإن جقمق نفسه لم يتحرر كثيراً ـ كسلفه برسباي ـ من تصديق أعوان السوء فقد نفى شمس الدين ابن العطار أحد الصوفية بخانقاه شيخون وكان من خيار الناس ومن أعيان الحنفية وذلك بوشاية شمس الدين الكاتب وكان واسطة سوء عند السلطان .
3ـ واستخدم أولئك الأدعياء مناماتهم الكاذبة واستغلوها في التبشير للسلطنة كما سبق. ويكفي أن برقوق استغل منامات الشيخ الروبي في قتل السلطان القلاووني الصغير , ومع ذلك فإن أولئك الصوفية كان إخلاصهم للسلطان القائم . وسبق أن ابن ميلق تنكر لبرقوق وتعاون مع عدوه منطاش . وسار على نهج ابن ميلق آخرون في فتنة يلبغا التي أسفرت عن نفي برقوق واعتقاله في الكرك فتناساه أصدقاؤه من الأولياء الصوفية وتعاونوا مع يلبغا المتغلب على الأمر حتى أن يلبغا حين توجه لمحاربة برقوق تنبأ بزوال مملكته ونصرة أصحاب يلبغا وأن النبي عليه السلام قال في المنام أنه أرسل خالد بن الوليد ليكسر أصحاب برقوق ، ورأى آخر النبي عليه السلام يقول ليلبغا أنت سيف الله (... وصار جماعة من الناس يقولون رأينا كذا وكذا .. ويحكون أنهم رأوا في منامهم ما يدل على زوال ملك برقوق ونصرة يلبغا ) . ولم تجد هذه الحرب الدعائية النفسية شيئاً إذ كانت محلية وبعيدة عن أرض المعركة التي انتهت بانتصار برقوق، إلا أنها مع ذلك بقيت دليلاً على تعاونهم مع السلطان القائم وتنكرهم للسابق صاحب الفضل إذا سقط ..
4ـ وتطور استعمال المنامات فاتخذت في الفتن دورا ايجابيا لا مساعدا ، وذلك بتغذية الطموح لدى الأمير فيثور وقد تنتهي بذلك حياته ، كما حدث سنة 809 حين أثّرت المنامات على الأمير جكم نائب السلطنة في حلب فاعتقد صحتها وأعلن نفسه سلطانا باسم الملك العادل وأطاعه نواب الشام وانتهى الأمر بمقتله . وبالمنامات قتل جاني بك الصوفي الذي أحدث فتنة لأنهم أشاعوا أنه لابد أن (يتسلطن ولو بعد حين) فلم يهدأ برسباي إلا بعد قتله . ومع أن قتله كان تكذيبا عمليا لتلك المنامات ، إلا أن بعضهم أوّل منامه للأشرف برسباي بما يفيد صحته ولو على حساب أبرياء ، فقد رأى أحدهم أن البدوى كان يطفئ نارا دون جدوى ، وأوّلت بفتنة تطفئ، فشاع بعد ذلك لأن السلطان ظفر باثنين أو ثلاثة يريدون الفتك به ونجاه الله تعالى منهم ..
وبعد موت برسباي فُهِمَ عن الأمير قرقماس طموحه للسلطنة( فتقرب اليه عدة من الّذين يوهمون جهلة الناس أنهم أولياء الله ولهم إطلاع على الغيب ،وصاروا يعدونه بأنه لابد له من السلطنة، وتخبره جماعة أخرى بمنامات تدل على ذلك) وبعد تولى جقمق السلطنة بتأييد قرقماس نفسه ثار عليه بتأثير المنامات الصوفية وانتهى الأمر بمقتله .
ومثله ( كان جانم نائب الشام يطمع في السلطنة مما أوحى اليه الكذابون من أقوال الفقراء ورؤية المنامات فتحقق المسكين أنه لابد له من السلطنة فكان في ذلك نهايته) والظاهر تمربغا بشره بعض الصالحون بأنه سيلي السلطنة في سنة 872 وكان الأمر كذلك في زعمهم.
5ـ وكان من الطبيعي أن يخشى أولوا الأمر من أصحاب المنامات والمنجمين .. فقد اشتهر أحدهم بالصلاح وبلغ السلطان جقمق أنه يبشر بعض الأمراء بالسلطنة فقبض عليه وسجنه بالمقشرة .
وكان تأثرهم واضحاً ففي تاريخ البقاعي "أن المنجمين توقعوا فساد الأمر فتشجع الجند بذلك". وكان ذلك بعد وفاة خشقدم , إذ كانت المنامات تأتي عادة في فترة الإضطرابات السياسية إثر موت السلطان.
6ـ وكانت أصابع أولياء الصوفية وراء غالب الفتن فقد( أُمسك شرف الدين بن الدمامسي وحبس بالقلعة بسبب أنه افتعل عليه أنه كان سبب مخامرة يلبغا المجنون , ) . ( المخامرة بمعنى المؤامرة ).
وكان ابن النقاش خطيب جامع ابن طولون قد ( خالط الأمراء وحصل له كائنة فأخرجت عنه الخطابة وقاسى مالا خير فيه ولقد تمشيخ ابن النقاش بعد أبيه وقد دفن بحوش الصوفية البيبرسية) . وفي قتنة على باي ـ الذي حاول قتل برقوق ـ( سِمَّر أعجمى) أى قُتل صوفى أعجمى بالصلب على جمل بالمسامير ، والسبب أن ذلك الأعجمى كان شيخا للأمير على باى ، و( كان على باي يقول له يا أبي فما استفاد منه إلا التوسيط) . وأثناء صراع السلطان حسن مع ضرغتمش قبض على جماعة من الأعاجم الصوفية بمدرسة ضرغتمش لأنهم ساعدوه ونهبت المدرسة الضرغتمشية ، وضرب الناصر فرج صوفياً أعجمياً لأنه آوى عنده بعض المماليك الهاربين ،وحين زينت القاهرة لنبأ انتصار الناصر فرج بن برقوق على المماليك الخارجين عليه في الشام أنكر صوفي صحة هذا النبأ فعُزر وشهر بالقاهرة . والتعزير عقوبة بالتعذيب والضرب.
7ـ وفي نهاية العصر المملوكي أيقن بعض الصوفية أن بامكانهم الاحتفاظ بمكانتهم لدى العامة والمماليك مع عدم الزج بأنفسهم في الفتن السياسية، خاصة وقد بلغ الاعتقاد في الأولياء مداه. فكان الخواص يقول :( إذا جاءكم أمير يطلب الصحبة فقولوا له نحن في غنية عن الحاجة إليك وليس لنا قدرة على القيام بحق صحبتك ولا على مشاركتك في الشدائد والمصائب التي ربما تطرأ لك في الدنيا والآخرة) .
8 ـ وكان لبعض المماليك اهتمامات صوفية استخدمها في طموحها السياسي كما قيل عن الأمير سودون الفقية وعن أستاذه لاجين الجركسي الذي كان (أعجوبة في دعوى العلم والمعرفة مع عدمها ولقب كبير الجراكسة واعتقد الكثيرون أنه لابد أن يلي السلطنة .
9 ـ واتخذت بعض ثورات المماليك الوجه الصوفي السائد في العصر المملوكي لدى طائفة الاتحادية وقد ادعى كثير منهم النبوة والشطحات فقلدهم بعض الأمراء المماليك الثائرين مثل أقس القفاجائي الذي أدعى النبوة فاعتقله الظاهر بيبرس وأمر بتسميره
هذا .. وإذا كان أولئك الأولياء قد تغلغلوا في الفتن المملوكية حتى أثروا على مصائر ومجرى حياة بعض المماليك أنفسهم فإن بعض الصوفية استطاع بنفوذه الصوفي وبمعزل عن السلطنة المملوكية أن يكون مصدر تهديد لتلك السلطة، كالشيخ زين الدين ابن أخي الشيخ الصوفي الشهير عدي بن مسافر.. وقد انقطع زين الدين في زاويته (على هيئة الملوك وأنعم عليه بإمرة دمشق، ثم نقل إلى إمرة صفدن وترك الإمرة ، وتردد إليه الأكراد وحملوا له الأموال، وأرادوا أن يخرج بهم على السلطان ، فاشتروا الخيل والسلاح ، ووعد رجاله بنيابات البلاد واختلفت الأخبار ، بشأنهم فقيل أنهم يريدون سلطنة مصر وقيل يريدون ملك اليمن فقلق السلطان الناصر محمد بن قلاوون لأمرهم ), وانتهى الأمر باعتقالهم وتفريق الأكراد (ولو لم يتدارك لأوشك أن يكون لهم نوبة) على حد قول المقريزي.
دور المؤسسات الصوفية في الفتن : ـ
أنشئت تلك المؤسسات لأغراض دينية وثقافية ولم يكن لها أن تشارك سياسيا في الخير أو الشر لولا انغماس أصحابها في الحياة السياسية ..
1 ـ والواقع أن تلك المؤسسات استغلها البعض مسرحا للفتن حتى أن بعضها تعرض للنهب حين يهزم من بداخلها كالمدرسة الضرغتمشية حين هزم الأمير في صراعه مع السلطان حسن .
وشارك العوام في عمليات النهب بعد التحقق طبعاً من وقوع الهزيمة للمنهوب كما حدث في صراع الأميرين قوصون وأيدغش فنهبوا خانقاه قوصون وجامعه ، ومع شهرة خانقاه سرياقوس وغناها فقد نجت من غارات العربان الذين اكتفوا بقطع الطريق على زائريها وذلك لأن خانقاه سرياقوس كانت محطة حربية حتى لقد لجأ إليها المقر الزيني أبو بكر هربا من عرب بني حرام . واستخدم بعض المماليك الأعراب في الفتن فأسهموا في النهب ( فصاروا ينهبون الترب ومزارات الصالحين) ( ودخل أقبروي الداودار على مشهد السيدة نفيسة ) فلما بلغ ذلك خصمه قانصوه أحضر العربان (فأقاموا بالجامع) .
2 ـ واتخذت تلك المؤسسات مكانا للإختفاء، فاقبروي الداودار سالف الذكر حينما اختفى ( كسبوا بسببه عدة أماكن ودور بالخانقاه حتى هجموا هناك على الجوامع والزوايا) وعندما فشل قانصوه اتجه بأصحابه نحو خانقاه سرياقوس .
3 ـ وكانت الترب أماكن صالحة للفتن بمسالكها وزواياها ، فعندما قتل المنصور لاجين بيد طغجي وكرجي وفشلت مؤامرتهما في السلطنة هرب كرجي إلى القبور فقتل هناك واختفى بعض أعوانهما في زاوية تقي الدين العجمي ، وبفشل السلطان العادل طومان باي اختفى حتى قبض عليه عند زاوية الشيخ خلف قاا ااااالل.
وفي سنة 767 حاول الأمير يلبغا أن يزيح خصمه الأمير طنبغا الطويل فأقام في تربة منكوتمر المارديني ومنها بعث لمنافسه يوجهه لدمشق نائبا للسلطنة فرفض، فغضب وأكد عليه بأن أرسل اليه عدة من الأمراء على أن يقبضوا عليه إن لم يمض للشامن فأصر على الرفضن واستمال اليه بعض الرسل. وفر آخرون إلى يلبغا في التربة فركب من فوره إلى القلعة واستعد وعمل كميناً هزم به طيبغا الطويل الذي اختفى في خانقاه بيبرس حتى قبض عليه .
ولقد لعبت تربة يلبغا نفسه دورا آخر في فتنة الأتابك الجاي اليوسفي مع السلطان سنة 775 ، فقد استمال السلطان اليه الأمير عز الدين أيبك أحد أخصاء الجاي اليوسفي ووعده بإمرة طبلخانة فتوجه إلى تربة أستاذه يلبغا وبات بها وبعث إلى المماليك اليلبغوية، فانسحبوا من عند الجاي اليوسفي ، وأتوه في تربة يلبغا، فصعد بهم للسلطان فتلاشى أمر الجاي اليوسفي، وحاولوا القبض عليه بين الترب، فهرب إلى أن مات غريقاً .
وفي الحرب بين بركة برقوق ركزت كل طائفة من أصحاب برقوق على تربة من الترب فيما ببن القلعة وقبة النصر ليرموا من أعلاها أصحاب بركة . وعندما دهم يلبغا الناصري برقوق بعث يلبغا بعض أعوانه إلى تربة شيخ الشيوخ ولكنهم انهزموا فرجعوا إلى قبة النصر ،. وفشلت ثورة الأمير يشبك فاختفى في تربة الست سمرا وأخبر بمكانه بعض الصوفية فأحاط به الجند في التربة حتى اعتقلوه . وقد غيب الناصر فرج بتخطيط من وزيره ابن غراب فكثر القيل و القال بسبب ذلك وقيل أنه خرج من باب القرافة .
وبتولي خشقدم السلطنة حدثت بعض الإضطرابات واعتقل بعض الأمراء فصار أعوانهم وتوجهوا للأمير الكبير جرباش المحمدي وهو مقيم بتربة الظاهر برقوق حيث كان مأتم ابنه وذلك ليحاربوا به السلطان فاختفى منهم، ولكنهم ظفروا به ولقبوه بالملك الناصر، فأركبوه غصباً من تربة الظاهر برقوق، وانتهت الفتنة بتسلل جرياش واعتذاره للسلطان , ويرى أبو المحاسن أن ذلك من عدم تدبيرهم (فإن الصواب كان جلوسه بالتربة المذكورة إلى أن يستفحل أمرهم) مما يدل على أهمية استغلال المؤسسات الصوفية كمسرح هام في الإضطرابات السياسية. وحين واجه قايتباي تهديدات العثمانيين سنة 896 (توجه إلى قبة يشبك الداودار فجلس هناك وأرسل خلف القضاة الأربعة) وشكي لهم متاعبه المالية وتهديد العثمانيين له وجشع المماليك الجلبان( وأقسم بالله أن الخزائن قد نفدت وقصد أن يفرض على الأملاك والأوقاف أجر سنة كاملة يستعين بها على خروج تجريدة لحرب العثمانيين) .
لقد استفاد الصوفية بكونهم جزءاً من النظام العسكري الحاكم ودفعوا مقابل ذلك حين انغمسوا في الفتن الخاسرة بأشخاصهم ومؤسساتهم .
فى الشفاعة عند الحكام والنفوذ الشعبي عند المحكوم
1 ـ كان الصوفي إذا اشتهر أمره وعرف بين الأمراء والسلاطين قصده الناس للشفاعة به عند الحكام. و شفاعة الصوفية تكفير بسيط عما اقترفوه من مساعدة الظلمة وتأييد الظلم ، على أن هذه الشفاعة لم يستفد بها السواد الأعظم من الناس إذ اقتصر أثرها على الأتباع والمريدين ولم تؤثر بحال في جبل الظلم الذي ساعد الصوفية في إرساء قواعده، هذا في الوقت الذي استغل فيه الأولياء الشفاعة لصالحهم في زيادة نفوذهم الشعبي وأخذ الأموال عليها وجعلوا منها مجالاً للتزايد الكرامات ..
2- وعنى بعض الصوفية بوضع القواعد للشفاعة لحصرها في أضيق مجال ممكن وتفخيم القيام بها في نفس الوقت عند جموع الناس . فالصوفي يخرج للشفاعة ماشيا على طهارة ظاهرة وباطنة ، وإذا علم بالقرائن عدم قبول شفاعته فلا يتصدر لها ، بل إن المتبولي وضع شرطاً مستحيل التنفيذ للشافع حين قال :" من لم يقدر على قتل الظلمة بالحال أو عزلهم لا يصح له دوام قبول الشفاعة عندهم." ، وبرر الدشطوطي والشعراني تعاونهم مع الظلمة ونفاقهم له بأنه بغرض الشفاعة .
3- ومن ناحية أخرى جنى بعضهم الأموال نظير شفاعته واشتهر أبو العباس الشاطر بمساومته مع صاحب الحاجة مقابل أن يشفع له ، وكان ابن جامع البحيري(يأخذ على الشفاعات حتى حصل شيئاً كثيراً)
ورأى الشعراني شيخاً يساوم امرأة عجوز على الشفاعة في ابنها ، بل إن بعضهم استغل الشفاعة في أكل أموال الناس بالباطل حيث كان يأخذ الأموال ولا يقضى الحاجة " وأكثر من ذلك كانت الشفاعة متنفساً لحقد بعض الأشرار من الصوفية كالسفطى الذي (عظم اختصاصه بالظاهر جقمق فهرع الناس لباب وانثالت عليه الدنيا بسبب ذلك ودخل في قضايا فأنهاها حتى أنه كان ليصمم على منع الشيء ثم يسهله بسفارته ويلزم فعل الشيء فينقضه بشفاعته .. وظهرت سيئاته فتحاشى الناس المجيء إليه ) .
4- وبينما استفاد الصوفية من الشفاعة في الغير مادياً وشعبياً وتسلطوا بها على الناس حرصوا في نفس الوقت على أن يكون لأتباعهم فيها القسط الأكبر فجعل الخواص من الأدب الذي يلتزم به الأمير مع شيخه: ( أن يوفى جميع ما كان وعد به الشيخ مثل ولايته من الوصية بأصحاب الشيخ لا يطلب منهم أن يزنوا شيئاً من المغارم إكراماً للشيخ ." وحذر الخواص الأمير من عاقبة ذلك. .
5- وبالغت كتب المناقب الصوفية في وصف شفاعات الأولياء وإن كان لذلك أصل تاريخي اعترفت به مصادر التاريخ،فيقول السخاوى عن شمس الدين الحنفي ( انتفع الناس بشفاعاته ورسائله وعظمه الملوك ) .
وفي مناقب الحنفي تفاصيل أسطورية عن شفاعات الحنفي منها أن السلطان ططر قال له : يا سيدي بالله سألتك بالله لا تقطع عنى رسالتك في شفاعة أبداً فإني والله أفرح بذلك وأنى إذا جاءتنى شفاعة سيدي اطمأن قلبي وخاطري . وفيها أن المؤرخ ابن حجر عزل فأرسل الحنفي خادمته للسلطان فتشفعت فيه حتى أرجعه السلطان إلى مناصبه ، وغير ذلك .
وقد جعل الشعراني من المنن كثرة شفاعاته وقبولها على صغر سنه، وأنه شفع عند الغوري وطومان باى . وأسند الشفاعة لكثير من شيوخه الأولياء ، ونقل ذلك عنه المؤرخون بعده ، واعترف ببعضها المؤرخون في عصره ، على أن كتب التاريخ الصادقة اعترفت بشفاعات بعض الأولياء ، ورددت شفاعة بعضهم في ابن عمير الثائر العربي في الصعيد وقد قبل الأشرف برسباى الشفاعة فيه ، وكانت زاوية الشيخ نصر المنبجى ملاذاً للمستجيرين من المماليك والوزراء .
6- ومن الطبيعي أن تصول كرامات الصوفية في ميدان الشفاعة اعتماداً على ذلك الأصل التاريخي ، ورددت المراجع اقتتال الناس عليهم للتبرك بهم وتقبيل أيديهم والخضوع لهم تجسيداً لنفورهم الشعبي وذلك قصدهم الأصلي في الشفاعة .