كذب المثقفون ولو صدقوا!


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4837 - 2015 / 6 / 14 - 21:08
المحور: الادب والفن     

"لكنها تدور"
كذب المثقفون ولو صدقوا
د.خالد سالم
لا أنتوي تعريف المثقف، لكنه هو الكامن في خُلد الغالبية، فهو ببساطة الشخص المطلع الذي له تأثير في الرأي العام من خلال ما له من اعداد وتأهيل وأدوات تجعله يضلطع بدور حُذروفي في طبقته أو مجتمعه. هذا دون الخوض في تعريف غريمشي أو محمد مزالي، أو غيرهما من الشرق أو الغرب. وما يعنينا في هذا الصدد هو المثقف في الضفة الجنوبية لبحر الروم، الضفة المنتهكة والمنهكة جراء ما حدث ويحدث لها منذ سقوط بغداد، في القرن الثالث عشر، وبعدها غرناطة، في نهاية الخامس عشر، إذ لم تقم لها قائمة. هذت يعني لا أبغي الخوض في التنظير حول المثقف.
لا أخوض في دور المثقف الغربي فالكل يعرفه منذ أن ظهر اللفظ وتعريفه في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر، وما أسداه للمجتمعات الغربية من خدمات سامقة على طريق التغيير وتقويم الطغاة في بلدانهم. ما يشغلني هو المشتغل بثقافة حرف الضاد في السنوات الأخيرة، السنوات التي سبقت ثورات الربيع العربي وما تلاها من دهس لهذه الثورات ولحقوق وحريات المواطنين بمبررات لا يعجز الحكام عن اختلاقها تماشيًا مع اللحظة، فتارة لمحاربة العدو، وتارة لمحاربة الإرهاب والمؤامرات الخارجية، انتهاءً بالقضاء على الإرهاب ومن أجل الإستقرار الذي يأبى أن يطل علينا طوال العقود الستة الأخيرة.
إن دور المثقف يراه الأعشى وحاد النظر على سواء، فلم يصوب حاكمًا ولم يأخذ بيد مجتمع نحو النور، بل شارك معظم المثقفين في سياسات التعتيم وقام باستخدام ريش النعام للتهوية على سدة الحكم لطغاة المنطقة، دون أن يُعدموا الحجج والمبررات. وإذا احصينا المثقفين الذين وقفوا في وجه المستبدين في السنوات الأخيرة فلا يكاد يتعدون أصابع اليدين.
وربما كان الروائي صنع الله إبراهيم الذي رفض تسلم جائزة من نظام مبارك في مطلع الألفية آخر مثقف يتحدى سلطة باطشة. هناك حالات معروفة بمقاومتها وتحديها لما يحدث، لكن تهافت الغالبية على ما يلقيه إليهم الطغاة من سقط متاع جلي للجميع. وكان صنع الله إبراهيم المثالي قد أعلن أنه رفض تسلم الجائزة "من يد نظام تلوثت أيديه بدماء الشعب". وكان الرفض على خشبة مسرح دار الأوبر المصرية بينما وقف وزير الثقافة سنتئذ، فاروق حسني، وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة حينها، الدكتور جابر عصفور، ليسلماه إياها! كان الحدث بمثابة فضيحة تناقلتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية.
مع سرعة الحركة والحراك الذي حل بالمنطقة في السنوات الأخيرة، يدرك المراقب أن المثقفين غيروا جلودهم أسرع من الأفاعي، واصبحوا بمثابة عود خلة في يد السلطة التنفيذية لتنظف بها أسنانها النتنة من بقايا لحوم المواطنين وعذاباتهم. والمؤلم أنهم يعرضون خدماتهم على السلطة مقابل فتات ومصالح ضيقة تُهال عليهم من خزائن الشعب في أشكال مبتذلة وتحت مسميات ومبررات لا حصر لها.
وفي هذا السياق ومع حالة الاختانق التي تعيشها الجميع لا نستطيع أن نلوم المواطن العادي على انسحاقه، إذا كانت غالبية المثقفين تنازلت، مجانًا، عن مساحات سياسية وإعلامية كثيرة، لتوافق على البقاء الأبدي في دور صديق البطل وحمل الفوطة له مبتسمًا من أجل أن يسمحوا له بالظهورفي الساحة. أما من نالهم غضب الاستبداد فقد حُجموا وعُتمت شاشة المرناة تجاههم في محاولة من السلطة كي ينساهم العامة ولا يطل على الشاشة سوى المطبلاتية، دون أن تدري السلطة أن النخاسين قد يبيعونهم ويقفزون من المركب إذا اقتضت الضرورة.
ترتبط في ذهني صورة هذا النوع من المثقفين الانتهازيين بسمكة طفيلية يطلق عليها اللَّشَك أو قملة الدرفيل، ريمورا، تلتصق بالأسماك أو الحيوانات البحرية لتوفر على نفسها مجهود الحركة وتعيش على بقايا الكبار، رغم قوتها وطولها الذي يقترب من المتر في عمر النمو. وهناك صورة أخرى يأتي بها المثقف المطبلاتي، الطفيلي، إلى الذهن تتمثل في طائر الزقزاق الذي يعيش على ضفاف نهر النيل وهو أكثر طفيلية من سمكة البحر إذ كلما التهم التمساح من تناول فريسته ينام على الشاطئ ويفتح فمه ليقوم الزقزاق بتنظيف أسنانه من البقايات والطفيليات دون أن يفكر التمساح في ابتلاعه، فالعلاقة عضوية بينهما، منفعة متبادلة، تفكرنا بالعلاقة بين هذا النوع من المثقف الذي يتولى تلميع صورة المستبد وتبرير فظائعه ودمويته.
لقد لجأ السياسي المستبد إلى تعهير المثقف طوال تاريخنا المجيد فالصُّرَّةُ وعطايا الذهب والدنانير تحتل فصلاً كبيرًا في تاريخنا المجيد وفي حياتنا منذ الخلافة إلى يومنا. اذكروا المتنبي وكافور الاخشيدي ومن شابههما على مر قرون العروبة والإسلام، مرورًا بالعثمانيين والحقبة النفطية في الخليج العربي وأطراف الجزيرة العربية.
أعتقد أن المثقف لم يستطع أن يجاري الأحداث التي شهدها بلد في حجم مصر منذ أحداث ثورة يناير 2011 إلى اليوم، واستطاع الساسة أن يحركوا غالبيتهم ويطوعوها تماشيًا مع مصالحهم. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع ما حدث ويحدث في دروب السياسة فإن الوجوه لم تتغير، فهي نفسها في غالبيتها هي المسيطرة منذ عصر طويل العمر مبارك إلى اليوم. لم تتغير ولم تغير خطابها في خطوطه الرئيسة.
أذكر في هذا السياق واقعة ذات معنى في هذا الصدد حدثت في المؤتمر الذي أقامه وزير الثقافة سنتئذ، المثقف الرائع الدكتور شاكر عبد الحميد، في أبريل 2012 بمناسبة الذكرى الأولى للثورة. كان من بين المشاركين زميل من جامعة إسبانية وصحفي متخصص في الشؤون العربية، وبعد أن انتهى المؤتمر جمعنا لقاء على ضفاف نيل القاهرة الجميلة في الليل، واجمع الاثنان، بعد أن زارا ميدان التحرير والشوارع المحيطة، بأن الهوة كبيرة بين المثقفين الذين استمتعوا إلى مداخلاتهم في المؤتمر والشارع المصري. وأصرا على أن هؤلاء المؤتمرين لم يستطعوا فهم الواقع الجديد لهذا فإن التغيير سيكون صعبًا. كنا لا نزال في غمرة الأحداث والتفاؤل يخيم على أرض الكنانة رغم أن الأفق ينذر بسيطرة الإسلام السياسي بعد قليل.
أعتقد أن تخاذل المثقفين كان أحد الأسباب التي أدت إلى الثنائية الحالية التي تتنازع الحكم في بر مصر، فإذا ما قارنا دوهم بدور المثقفين في أوروبا وأميركا اللاتينية في لحظات التغيير لأدركنا فساد البضاعة التي لدينا. وهنا أحيل إلى نكتة مرة نقلت إليّ من صديق عن آخر، روائي كبير له وجوده في الساحة العربية كلها، إذ قال لي الأول إن صديقك هذا التقى جمال مبارك في اجتماع مع مثقفين، بينما كان يسوق نفسه في سني حكم والده الأخيرة، وعندما عاد قال له إن جمال مبارك رجل مثقف. ما السبب؟ لقد طلب مني أعمالي! كان هذاالروائي من معارض التوريث لكنه غير رأيه بعد تلك الواقعة، وجاء الشعب المصري بما لا تشتهي السفن، لكن هذا الروائي لا يزال يطبل لمن بيدهم الأمر مثل كثيرين من أدعياء الثقافة.
وهناك حكاية أخرى، نقلها لي صديق شاعر مشرقي، عن آخر من أولئك الذين ملأوا الدنيا ضجيجًا بنوعية شعره المميزة والقريبة من لغة الشعب وسيره الذاتية، إذ دعاهم حاكم عربي على حفل عشاء في قصره بعد الانتهاء من مؤتمر كبير في بلد مغاربي. وفي تلك الاثناء حمل شمعدانًا من الفضة في حقيبته "لأنه من مال الشعب" وما كان لذلك الملك أن يستمع به. إنهم لا يعدمون المبررات لأفعالهم الشنعاء وتطفلهم على السلطة. امتطاؤهم وتعهيرهم للثقافة لا حد له.
أمثلة النميمة وتهافت المثقفين وتطفلهم على عالم السياسة كثيرة سأكتفي منها بحكاية أحدهم، دائم الحلم بمنصب في عالم السياسة، رغم أنه أستاذ جامعة كان ينتظر منه الكثير. أذكر أنه عندما عاد من دراسة الدكتوراه في الخارج طرق أبواب الدكاكين السياسية، الأحزاب، عارضًا الانضمام إليها شرط أن يعينوه وزيرًا للثقافة في حالة فوز أيّ منها في الانتخابات. عاد ذلك المثقف الشاب من مغامرته بخفي حنين، إذ وضع مسؤولو الأحزاب أذنًا من طين وأخرى من عجين.
تدرك أنظمة الضفة الجنوبية لحر الروم لهفة المثقف على الاقتراب منها والتطفل عليها، ولهذا فإنها تستخدمهم ثم تلقي بهم إلى غياهب النسيان. كم مثقفًا استفادت منهم الأنظمة ثم تواروا وعُتمت شاشات المرناة في وجوههم؟
تعيش المنطقة العربية، ومعها هويتنا وثقافتنا، لحظة حرجة، ربما لم تتكرر منذ سقوط الأندلس، لحظة إما أن نكون أو لا نكون، ومن يستطيع حمل المشعل في هذا الظلام الدامس هو المثقف البعيد عن تعهير الثقافة وامتطائها من أجل تنظيف أسنان التمساح والالتصاق بالحيتان ليعتاش من سقط متاعها وفضلاتها.