تلخيص كتاب: نظرة ثانية إلى القومية العربية


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 4832 - 2015 / 6 / 9 - 15:40
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

غازي الصوراني
9 / 6 / 2015

تلخيص كتاب: نظـرة ثـانية إلى القوميـة العربيـة
( تأليف المفكر الشيوعي الراحل د.فؤاد مرسي )

مقــدمــة:
في كتابه "نظرة ثانية إلى القومية العربية" يقول المفكر الماركسي العربي، المناضل الراحل د.فؤاد مرسي "أن الوطن العربي في أزمة مستحكمة. وهي أزمة بمعنى معين هو أن أغلب ما جرى ويجري في هذا الوطن منذ هزيمة 1967 يعارض حركة التاريخ. وحركة التاريخ في هذه المنطقة إنما تتمثل في حركة القومية العربية التي مهما يكن الرأي فيها فهي في النهاية من صنع التاريخ.
فالقومية العربية حركة تاريخية تعبر في الواقع عن حتمية تاريخية موضوعية هي حتمية انتصار حركة التحرر الوطني العربية على أعدائها مهما يطل الزمن. لكن هذه الحتمية التاريخية لا تصنع نفسها بنفسها، وإنما تحتاج لنضال البشر الواعي كي تتحقق.
وها نحن نعود في خضم الأزمة المستحكمة إلى القضية القومية لنلقى نظرة ثانية عليها_ نظرة متأنية مدققة متعمقة تعيد إلينا اليقين بحتمية التاريخ".
وفي هذا السياق، أشير إلى أن الفكرة الوحدوية القومية العربية التي عبر عنها القائد الراحل جمال عبد الناصر مثلت هدفاً مركزياً للجماهير الشعبية العربية منذ منتصف القرن الماضي، ولكن بصورة عفوية انفعالية طموحة للخلاص من الاستعمار والدولة الصهيونية ، دون أن تمتلك المقومات الاقتصادية والاجتماعية النهضوية الثورية التي تعزز بلورة الفكرة القومية التقدمية العربية الوحدوية القادرة على ازاحة الأنظمة أو التجزئة القطرية عموماً والأنظمة الرجعية على وجه الخصوص، إلى جانب عجز الحركات القومية (حزب البعث وحركة القوميين العرب) بسبب منطلقاتها الشوفينيه اليمينية المعادية –في سنواتها الأولى- للشيوعية والفكر الماركسي عن بلورة الرؤى والبرامج القديمة الديمقراطية التقدمية الوحدوية ، المعبرة عن جماهير العمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين، وظلت أسيرة لأفكارها المثالية المعبرة عن مصالح البورجوازية وفق المنظور الناصري آنذاك .
ولكن ، على الرغم من ذلك ، فإن كل من حزب البعث وحركة القوميين العرب شكلتا ظاهرة متميزة في التاريخ السياسي العربي الحديث، لكنها ظاهرة لم تكتمل أو تحقق مشروعها النهضوي القومي للأسباب التي أشرنا إليها ، بالإضافة إلى أسباب موضوعية لا تنحصر في الدور الاستعماري والامبريالي والصهيوني فحسب، بل أيضاً في عمق تبعية وتخلف النظام العربي الذي عزز استمرار واحتجاز تطور مجتمعاتنا العربية عبر تحالف شخوص وأدوات النظام الحاكم أو الطبقة السائدة من القوى الرجعية والبيروقراطية والبرجوازية الكومبرادوريه الرثة مع العدو الامبريالي الصهيوني، ومن ثم تكريس مظاهر التبعية والخضوع السياسي والاقتصادي لحساب التحالف الامبريالي الصهيوني، خاصة بعد اتفاقية "كامب ديفيد" وما تلاها في "أوسلو" "ووادي عربة" وصولاً إلى كل أشكال التطبيع مع دولة العدو الإسرائيلي في ظل السيطرة غير المسبوقة لنظام العولمة الأمريكي على ثروات ومقدرات شعوبنا العربية، الأمر الذي يفرض على كافة القوى الطليعية اليسارية الديمقراطية العربية عموماً ، النضال المشترك من أجل إعادة وإحياء الفكر القومي العربي بمضمون يساري تقدمي إنساني وديمقراطي وبلورة إطاره التنظيمي لنشر وتفعيل الفكرة القومية النهضوية التقدمية الديمقراطية، كفكرة توحيدية لكل شعوبنا العربية واستنهاضها لمقاومة كل أشكال السيطرة الامبريالية الصهيونية وأدواتها الطبقية والسياسية في النظام العربي عبر نضال تحرري وطني وقومي ديمقراطي من قلب الصراع الطبقي لتحقيق الثورة الوطنية والقومية الديمقراطية من منظور ماركسي ، باعتبارها استمرار لثورة التحرر الوطني ضد الوجود الامبريالي الصهيوني من جهة واستمراراً لسيرورة الثورة الاشتراكية من جهة ثانية ، انطلاقا من العلاقة الجدلية بين الثورة الوطنية/القومية الديمقراطية و الثورة الاشتراكية .
فالثورة الوطنية الديمقراطية تهدف إلى استكمال التحرر الوطني في الميدان الاقتصادي الاجتماعي، كما وترمي إلى القيام بتحولات طبقية /اجتماعية ثورية تضمن إنهاء كل أشكال التبعية للامبريالية وإنهاء هيمنة الكومبرادور والرأسمالية الطفيلية واقتصاد السوق في المجتمع لحساب اقتصاد التسيير الذاتي والتعاوني والقطاع العام والمختلط ، وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة وهذا يعني أن مهامها :
1. تفكيك وإزاحة سيطرة البنية الاقتصادية التابعة و البنية الاقتصادية الكومبرادورية ، والغاء سيطرة اقتصاد السوق في الميدان الاقتصادي .
2. تفكيك وإزاحة البنى اليمينية الليبرالية وبنى الإسلام السياسي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإزالة هيمنتها في البناء الفوقي، بما يؤدي إلى إنهاء كل مظاهر الطائفية والمذهبية واستعادة وحدة الشعب وفق عقد اجتماعي ديمقراطي ثوري، وهذا يعني إعادة هيكلة وبناء مؤسسات الدولة قانونيا وسياسيا وثقافيا بصورة ديمقراطية بما يتطابق مع المصالح الطبقية لجماهير الفقراء والكادحين في سياق العمل الدؤوب لإلغاء كافة مظاهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي .
3. اعتماد تطبيق مبادىء التنمية المستقلة المعتمدة على الذات في كل قطر عربي ارتباطا بمبدأ الاعتماد الجماعي العربي.
وانطلاقا من وعينا بان مفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية هو مفهوم علمي يرتبط - ارتباطا وثيقا -بتناقضات الصراع الطبقي والصراع الوطني ، فهي ثورة تحرر وطني مناضلة ومقاومة للوجود الامبريالي الصهيوني من اجل اجتثاثه من بلادنا.. وهي في نفس الزمان والمكان ثورة ديمقراطية ضد أنظمة الاستبداد والاستغلال والتبعية تستهدف اسقاطها ومواصلة النضال من اجل استكمال التحرر والسيادة الوطنية في الاقتصاد والسياسة والثقافة وكافة قضايا المجتمع برؤية طبقية تستهدف أساسا مصالح الشرائح الفقيرة وكل الكادحين المضطهدين ، وبرؤية تنموية تقوم على مبدأ التنمية المستقلة والاعتماد على الذات ، فالثورة الوطنية أو الشعبية الديمقراطية - في أوضاعنا العربية الراهنة -هي الثورة التي تلتزم برؤية وبرامج تجسد مصالح وأهداف العمال والفلاحين الفقراء وكافة الشرائح الجماهيرية الفقيرة والمضطهدة، بقيادة الحزب الماركسي الثوري لضمان انجاز المهام الديمقراطية السياسية والاجتماعية والتنموية الاقتصادية وتكريس أسسها وبنيتها التحتية وقاعدتها الإنتاجية ، وفي هذه المرحلة سيتمتع المجتمع بالمعاني الحقيقية للمساواة وتطبيق مفهوم المواطنة والديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي طالما أن الجماهير الشعبية تشارك بشكل ديمقراطي ثوري ملموس من خلال مندوبيها في هذه العملية ، بما يمكنها أن تتولى بشكل مباشر – عبر الدور الطليعي للحزب الماركسي الثوري في إطار الائتلاف الجبهاوي التقدمي الاشتراكي- إدارة شئون المجتمع عموما وبما يؤكد على مراكمة عوامل التطور النهضوي للبنية المادية التحتية في جميع القطاعات الإنتاجية (خاصة قطاعات الصناعة والزراعة والاقتصاد والتقدم التكنولوجي وقطاع الخدمات ) بما يعزز تنمية وتوافق البنية الفوقية مع البنية التحتية ، حيث سيكون التوسع المستمر في الإنتاج وتحقيق العدالة في التوزيع كفيلين بالقضاء على القاعدة المادية للراسمالية والاقتصاد الحر ولكل أشكال المنافسة والخوف والعوز تمهيدا للانتقال إلى المجتمع الاشتراكي.
ووفق هذه الرؤية فان الثورة الوطنية الديمقراطية، هي باختصار ثورة وطنية وطبقية مناضلة ضد كل أشكال التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد ، وضد كافة قوى اليمين الليبرالي أو الإسلام السياسي ، فهي ثورة تستهدف تحقيق الاستقلال الوطني والسيادة الكاملة على الأرض والموارد والتوزيع العادل للثروة والدخل ، وهي أيضاً ثورة ضد القوى البورجوازية وكل مظاهر الاستبداد والإفقار والاستغلال الرأسمالي ، وبالتالي فان قيادة الثورة يجب ان تتولاها الطبقات الشعبية الفقيرة من العمال والفلاحين الفقراء بقيادة أحزاب يسارية ماركسية ثورية، بما يضمن تطبيق أسس ومفاهيم الحداثة والتنوير العقلاني والديمقراطية والتقدم وفتح سبل التطور الصناعي والاقتصادي وفق قواعد التخطيط والتنمية المستقلة وتكافؤ الفرص وتحديد الحد الأدنى للدخل الذي يضمن تأمين احتياجات أسرة العامل ، وتحديد الحد الأعلى للدخل بما لا يزيد عن خمسة أضعاف دخل العامل المنتج إلى جانب تطوير الأوضاع الصحية والتأمينات الاجتماعية والثقافية والرفاه للجماهير الشعبية وتحقيق مباديء واليات العدالة الاجتماعية الثورية .
بهذا التوجه في الرؤية والبرامج ، فان الثورة الوطنية الديمقراطية تستهدف القيام بتحولات نوعية عريضة، ديمقراطية ثورية في كافة مجتمعاتنا العربية ، تحقق انهاء البنية الطبقية الرأسمالية وادواتها الطبقية بكل تلاوينها ومسمياتها ومصادرة ثرواتها واسقاط انظمتها التابعة المتخلفة المستبدة في كل بلداننا العربية، ضمن خطة تستهدف بناء الاقتصاد الوطني ،وتحقيق التنمية المستقلة من خلال : إقامة التعاونيات ، وتطوير وتوسيع الصناعة الوطنية والزراعة المكثفة والتجارة الداخلية مع دور مركزي للدولة بالنسبة لأولويات التجارة الخارجية ، بما يضمن توفير أسس بناء البنية الفوقية للنظام الثوري الديمقراطي الجديد بالقطيعة مع البنية الامبريالية والطبقية اليمينية السابقة عبر تحطيم العلاقات ما قبل الرأسمالية، وتصفية التخلف الاجتماعي الثقافي جنبا إلى جنب مع خطط محو الأمية ، وتطوير الصحة والتأمين الصحي المجاني للفقراء إلى جانب العلم والثقافة الوطنية ببعديهما القومي والإنساني، وبناء الجيش الوطني والمؤسسات الأخرى التي تخدم أغراض الدولة الوطنية الديمقراطية .
فإذا كنا نتفق على أن رفيقنا المفكر الماركسي الثوري الشهيد مهدي عامل ، قد قدم نظرية للثورة ، فإن من واجب المثقفين الماركسيين - وكافة الأحزاب الشيوعية واليسارية العربية – في هذه المرحلة التفاعل والتواصل المعرفي مع أفكاره ومقولات نظريته الثورية ، وإغنائها والإضافة عليها عبر دراسة وتحليل وتفكيك واقعنا الاجتماعي والسياسي في إطار الصراع الطبقي الداخلي ، والصراع ضد الوجود الامبريالي الصهيوني في بلادنا، عبر انطلاقنا من الفكرة المركزية التي أكد عليها المفكر الراحل مهدي في الترابط بين التحرر الوطني والصراع الطبقي من جهة ، وعبر انطلاقنا من الوحدة الجدلية بين الماركسية والرؤية القومية التحررية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية من جهة ثانية ، الأمر الذي يستوجب تداعي جميع أحزاب وفصائل اليسار الماركسي ، إلى البحث الجاد على قاعدة الحوار، من أجل مراجعة ونقد تجاربها السابقة وتجديد وتطوير أحزابها والاتفاق على الرؤى السياسية والمجتمعية ، وعلى الأهداف والأسس الفكرية والتنظيمية التوحيدية المشتركة فيما بينها لكي تستعيد مصداقيتها ودورها الطليعي ، بما يسمح بأن تتحوّل إلى قوّة قادرة عبر بناء وتفعيل البديل الشعبي الديمقراطي التقدمي- في كل قطر عربي-على مجابهة الاستقطاب اليميني ، وتأسيس مقدرتها على تفعيل الحالة الثورية العربية وصيرورتها الراهنة، وتحقيق أهدافها للخلاص من كل أشكال ومظاهر وأدوات الاستغلال الطبقي والاستبداد، واثقين من انتصارها، خاصة وأن أسباب الانتفاضة الثورية لن تتلاشى أو تزول، بل ستتراكم مجدداً- بعد أن تكتشف زيف الليبراليين وقوى الإسلام السياسي لتنتج حالة ثورية نوعية، تقودها جماهير العمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين وفي طليعتهم أحزاب وقوى اليسار الماركسي الثوري جنبا إلى جنب مع القوى الديمقراطية المدنية ، العلمانية الوطنية والقومية لكي تحقق الأهداف التي انطلقت الانتفاضات الشعبية من أجلها .
أخيراً ...إن الثورة الوطنية/ الشعبية الديمقراطية في كل قطر عربي -عبر علاقتها الجدلية بالبعد القومي- يمكن أن ترتكز إلى تحالف واسع من القوى السياسية الملتزمة بهذه الرؤية ، إلى جانب التحالف الشعبي الذي يضم إلى جانب العمال والفلاحين الفقراء، الشريحة الفقيرة من البورجوازية الصغيرة (حيث لا وجود للبورجوازية الوطنية في بلادنا ، وإن وجدت فهي مرتبطة بالبورجوازية الكومبرادورية الكبيرة) ...وهنا بالضبط فان الثورة الوطنية أو الشعبية الديمقراطية هي مرحلة انتقالية صوب الاشتراكية . وبالتالي فان القوى الديمقراطية اليسارية في البلدان العربية ، يجب أن تتوحد أو تأتلف في إطار جبهوي في هذه اللحظة وتكرس كل جهودها من أجل مراكمة توسعها ونضالها في أوساط جماهيرها – في كل قطر عربي - ضد الامبريالية وتوابعها أنظمة الاستبداد والتخلف على طريق استمرار النضال لاستكمال مهمات وأهداف الثورة الوطنية الديمقراطية من أجل إقامة مجتمع اشتراكي خال من الاستغلال، قائم على مبادىء ومفاهيم الحداثة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والعلمانية والإنسانية على طريق تحقيق مهمات وأهداف الثورة الوطنية القومية التحررية الديمقراطية على طريق بناء مجتمع عربي اشتراكي موحد.
إن قراءتنا لهذه الدراسة لا تستهدف الإسهام في تعميق الوعي بالفكرة التوحيدية القومية وفق الرؤية والمنهجية الماركسية فحسب بل تستهدف أيضاً، إعادة بناء الأحزاب والقوى اليسارية العربية وتفعيل دورها التحرري والديمقراطي الطليعي في بلدانها، انطلاقاً من المحددات السياسية والفكرية والتنظيمية للرؤية الماركسية، الكفيلة وحدها بخوض النضال التحرري والديمقراطي القومي لتغيير وتجاوز أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد ، وتحقيق أهداف الجماهير الشعبية العربية في الحرية والتحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في مجتمع عربي ديمقراطي موحد.
أصدقائي الاعزاء...
لعل الدرس الأساسي من قراءة هذه الدراسة للمفكر والقائد الشيوعي الراحل الرفيق د.فؤاد مرسي، هو أنه إذا كانت المرحلة الرأسمالية قد فشلت في قيام الأمة العربية الواحدة، فإن هذا الهدف التاريخي لن يتحقق إلا في ظل الاشتراكية، وبالتالي فإن جدلية التطور سوف تلقي على عاتق الاشتراكيين الماركسيين العرب مهمة استكمال بناء الأمة العربية. فهذه المهمة مثلها مثل بقية مهام الثورة الوطنية الديمقراطية العربية قد عجزت الرأسمالية عن إنجازها.

غازي الصوراني
9/حزيران/2015


تلخيص كتاب: نظـرة ثـانية إلى القوميـة العربيـة
( تأليف المفكر الشيوعي الراحل د.فؤاد مرسي )

أولاً: الأمة العربية كظاهرة تاريخية:
لا غرابة فيما تشهده الساحة العربية من دراسات شتي حول الظاهرة القومية. فمن المألوف أنه عند منعطفات التاريخ وفي لحظات الأزمة كثيراً ما تشعر الجماعات البشرية أيا تكن طبيعة تشكيلاتها بحاجتها الغريزية إلى مراجعة الذات وتأكيد الهوية.
فالأمل معلق عندئذ بإثبات الوجود والقدرة على الاستمرار. وَتْعُبر الأمة العربية حالياً لحظة من لحظات الأزمة تلك، وإنما يحدوها هذا الأمل في تجاوزها. لذلك لم تزعجنا المحاولات العديدة التي شهدتها الساحة العربية في ظل الحقبة النفطية لإعادة النظر في الهوية العربية. وهي محاولات قد انطلقت للحق قبل ذلك وفي أعقاب الهزيمة العربية عام 1967.
• ففريق نفى وجود الأمة العربية أصلاً واكتفى بواقع وجود أمم عربية عديدة بعدد الأقطار العربية.
• وفريق ذهب إلى وجود أمة عربية قد تشكلت بالفعل من زمن الفتوحات الإسلامية لكنها تمزقت فيما بعد بفعل العدوانات الخارجية وبخاصة في المرحلة الامبريالية.
• وفريق راح يؤكد على اللغة الواحدة لينفي وجود الأمة العربية مكتفياً بقيام ثقافة عربية تجمع كل العرب.
• وفريق رفض فكرة الأمة العربية بالمرة ورفض أي فكرة قومية على أساس أنه لا توجد سوى أمة واحدة هي الأمة الإسلامية.
وللحق أيضاً فلقد وجدت هذه الفرق جميعاً من قبل الحقبة النفطية، غير أن الأحداث العنيفة التي توالت منذ هزيمة 1967 قد أمدتها كلها بقوة دفع جديدة، بحيث تبلور في النهاية، وأشد من أي وقت مضى، تياران متعارضان كل التعارض ومتصارعان. فمن جانب وقف أنصار فكرة الأمة العربية على تفاوت منطلقاتهم حريصين على تأكيد الهوية العربية استناداً إلى خلط من الاعتبارات المثالية والمادية معاً. ومن جانب آخر استند أعداء فكرة الأمة العربية إلى واقع الحقبة النفطية التي أدت عملياً إلى اندماج الأقطار العربية أكثر من ذي قبل في الرأسمالية العالمية، بالمقارنة بتفكك الروابط والعلاقات العربية وتضاؤل أهميتها بالنسبة لكل قطر عربي على حدة. حتى لقد آثرت الأغلبية الساحقة من النظم العربية السير الحثيث في طريق ما يمكن تسميته بالتكامل الدولي وفضلته على السير في طريق التكامل القومي.
وبذلك تميزت الحقبة النفطية بشكل صارخ بتكريس وتعميق واقع التجزئة العربية في تكذيب أليم ومرير لكل الآمال التي عقدت عليها في بدايتها.
وما زلنا نتساءل حتى الآن هل العرب أمة. وهل كان العرب منذ الفتح الإسلامي أمة؟ أم أنهم أصبحوا الآن أمة؟ أم أنهم سوف يكونون في المستقبل أمة؟ ومن هنا تبدو الرؤية التاريخية أدق وأصوب في توجيه النظر إلى الهوية العربية الراهنة.

الظاهرة القومية قديمة جـداً:
فمن المؤكد أن المجتمعات العربية الراهنة وبخاصة في شبه الجزيرة قد تشكلت عبر تاريخ طويل. ولا شك أنه عبر هذا التاريخ قد لعبت العشيرة ثم القبلية دوراً حاسماً إلى وقت قريب.
كانت العشيرة جماعة بشرية جمعتها رابطة الدم أصلاً بالإضافة إلى رابطة الأرض حيث كان يعمل الجميع معاً. عندما اتحدت العشائر كونت القبائل. أي أن هذه القبائل هي جماعات بشرية أكبر جمعتها رابطة الدم واللغة المشتركة والأرض المشتركة. وكانت الملكية مشتركة للقبيلة. فقد كان المجتمع هو المجتمع البدائي المشترك.
ومن مجموعات معينة من القبائل المختلفة تكونت جماعات بشرية لم تعد تجمعها رابطة الدم. وإنما جمعتها رابطة اللغة والأرض فصارت أقواماً . هنا قامت الجماعات القومية منذ أقدم العصور. قامت في ظل المجتمع العبودي ووجدت في المجتمع الإقطاعي. بل إنها كانت الشكل النموذجي للجماعة البشرية فيهما. انقطعت صلة الدم، وحل محلها أساس مشترك من اللغة والثقافة والأرض. وكانت قاعدتها المادية هي الاقتصاد الطبيعي حيث كانت الزراعة والصيد والرعي أهم الأنشطة فيه.
في ظل العبودية والإقطاع اذن وجدت جماعات ذات طبيعة قومية مرتبطة بوشائج اللغة والثقافة والأرض بدلاً من رابطة الدم. لكنها لم تشكل مجتمعات مستقرة، فقد كانت أوضاع العبودية والإقطاع لا تسمح، بعد، بقيام مجتمع اقتصادي على نطاق بلد بأكمله يسمح بدوره بقيام علاقات وثيقة وثابتة بين أفراد. ولقد قامت التجارة ووجدت الأسواق. لكنها ظلت ذات طبيعة محلية. ظلت ضيقة ومحصورة تماماً. وكانت عاجزة عن القضاء على التشتت الاقتصادي والسياسي السائد قبل انتشار الأوضاع الرأسمالية.
ويدل التاريخ على أن النظام القبلي لم يندثر تماماً بظهور الجماعات القومية المتميزة. كما يدل أيضاً على أن ظهور الرأسمالية لم يلغ وجود الجماعات القومية في بلاد كثيرة وإن اتخذت سمات جديدة من سمات الرأسمالية الصاعدة.
ومع تطور الرأسمالية والقضاء المطرد على التفكك الاقتصادي وظهور السوق الداخلية الواحدة تحولت الجماعات القومية إلى أمم. فالأمة ليست أي جماعة قومية، لكنها جماعة قومية تشكلت تاريخياً على نفس الأرض. وتتكلم نفس اللغة. ولديها وعي بالانتماء إلى نفس الجماعة. هي جماعة تاريخية صارت مجتمعاً ثابتاً من البشر. والفضل في هذا الثبات راجع إلى عوامل اقتصادية عميقة تمثلت في النهاية في وحدة الحياة الاقتصادية فيما بين أبناء الأمة. فالاقتصاد والعلاقات الاقتصادية تجمع بين الناس الموجودين على أرض واحدة ولهم لغة مشتركة في كيان واحد يصبح هو الأمة. ويتشكل في مجرى التطور الاقتصادي المشترك نوع من الوحدة النفسية أو المزاج النفساني المشترك لمجموع السكان. وهو مزاج يتجلى في التقاليد التاريخية للأمة وفي السمات المميزة لثقافتها وأسلوب حياتها. ويصبح لكل أمة سماتها وخصائصها القومية التي تميزها عن غيرها من الأمم. ومن هنا برزت المسألة القومية كأساس لقيام الدولة الحديثة: الأمة الدولة. ولقد تشكلت هذه الجماعة القومية الجديدة تاريخياً مع مولد العلاقات الرأسمالية في الاقتصاد والسياسة.
في ظل الرأسمالية أيضاً ارتبط تطور الأمم بقانون النمو غير المتكافئ. وقد ترتب على ذلك وقوع القهر والسيطرة من جانب الأمم الأقوى اقتصادياً وعسكرياً على الأمم الأضعف منها. ومن هنا ظهرت المسألة القومية بوصفها قضية تحرر الأمم المقهورة وتصفية الاضطهاد القومي. بحيث إنه في المرحلة الإمبريالية لم تعد القضية القومية قضية أقليات تقطن داخل حدود دولة معينة تسودها أغلبية قومية أخرى، وإنما أصبحت قضية قومية ضد القومية الخارجية الاستعمارية، أي قضية نضال الأمة المقهورة ضد القهر الاستعماري.
ولقد كشفت الرأسمالية في تطورها عن اتجاهين متناقضين فيما يتعلق بتطور القومية. فمن جانب يستيقظ الوعي القومي وتظهر الحركات القومية ويجري النضال ضد القهر القومي وتتكون الدولة القومية. من جانب آخر تتطور العلاقات بين مختلف الأمم والدول القومية وتسقط حدود التجزئة القومية ويظهر اقتصاد عالمي وسوق عالمية. ساد الاتجاه الأول في فترة نشوء وازدهار الرأسمالية، وساد الاتجاه الثاني في مرحلة الإمبريالية واقترن بحركات التحرر القومي للأمم المقهورة. ومع أن الأمم هي نتاج وشكل لا مفر منهما للطور الرأسمالي من تطور المجتمعات البشرية. فإن الأمة لا تنتهي بنهاية الرأسمالية وإنما تحل محل الأمة الرأسمالية أمة اشتراكية. مما يعني أن ظاهرة الأمم مطروحة للبقاء طويلاً.

تخـلف تكويـن الأمة العربيـة:
الأمم هي تطور تاريخي للجماعات القومية. ولقد تحددت ملامح كل أمة من خلال التطور الرأسمالي وما حمله معه من اقتصاد وسياسة وفكر، ولأن التطور الرأسمالي قد تأخر في المجتمعات العربية فقد تخلف تكوين الأمة العربية.
لاشك أن لأوضاع النكسة التي أصابت الوطن العربي فضلاً معيناً هو أنها ضاعفت من قدرة العرب على إدراك التناقضات من حولهم. وإذا كانت العملية القومية أي عملية تشكيل الأمة العربية، تشق طريقها بصعوبة بالغة حتى الآن، إذ أن الشعوب العربية في أقطارها المختلفة مازالت تناضل ضد بقايا القهر الاستعماري ومن أجل إقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض فلسطين، فإن الاتجاه لتكوين الدولة القومية فد بدأ في أوربا مثلاً في القرن السادس عشر، ثم سادت الظاهرة القومية فيها ابتداء من القرن التاسع عشر.
وفي العالم كله كان انتصار الرأسمالية الحاسم على الإقطاع مقترنا بانتصار الحركات القومية أيضاً. وأساس هذه الحركات موجود من الناحية الاقتصادية في الإنتاج لا في التبادل. فعندما يتفوق الإنتاج السلعي، أي الإنتاج من أجل السوق، على غيره من أشكال الإنتاج، وعندما تصبح له الغلبة عليها، فإنه يتطلب قيام الطبقة أو الفئات الرأسمالية الصاعدة بالاستيلاء أو بالسيطرة على السوق الداخلية التي تتداول السلع المنتجة، كما يتطلب في الوقت نفسه توحيد الأراضي التي يتكلم سكانها لغة واحدة في دولة واحدة وإزالة كل حاجز من شأنه أن يحد من تطور تلك اللغة ورسوخها في الأدب والثقافة.
وهنا يبرز الدور الحاسم للغة في تحول الجماعة القومية إلى أمة، فاللغة وسيلة كبرى لاتصال الناس بعضهم ببعض وتواصلهم باستمرار. كما أن وحدة اللغة بالإضافة إلى حرية النمو الاقتصادي هما أهم الشروط لقيام مبادلات تجارية حرة شاملة لكل الأرض تتوافق مع طبيعة الرأسمالية الزاحفة، وهما كذلك شرط لتكتل الناس وتجمعهم تجمعاً حراً واسعاً داخل كل طبقة من الطبقات. وأخيراً فإنهما شرط لإقامة علاقة وثيقة بين السوق وبين كل صاحب عمل كبير أو صغير، أي بين كل بائع وكل مشتر.
فلماذا إذن لم تتطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العربية في القرون القليلة الماضية إلى نظام رأسمالي على الرغم مما عرفته تلك الأوضاع من تبادل سلعي عريق في التاريخ؟ إن السبب الواضح لنا هو عدم تفوق الإنتاج السلعي وعدم سيادته. كان هناك اقتصاد سلعي، بعض المنتجات السلعية، وتجارة داخلية وخارجية واسعة النطاق. لكن الإنتاج السلعي، الإنتاج من أجل السوق لم يتفوق على غيره من أشكال الإنتاج الطبيعي، أي الإنتاج من أجل الاستهلاك. كما أنه لم يستطيع أن يقوم بتصفية الأسواق المفتتة الضيقة لحساب سوق داخلية موحدة تكون هي بدورها أساسا لتطوير أكبر لفنون الإنتاج وتنظيماته. فإنه بتكوين هذه السوق الداخلية الموحدة الواسعة تتهيأ الظروف لقيام السوق القومية، فالسوق هي المدرسة الأولى التي تتعلم فيها الرأسمالية الناشئة دروس الوطنية والقومية.
ولماذا لم يتفوق الإنتاج السلعي حتى الآن في العالم العربي؟ الواقع أن الوطن العربي قد سقط في غيبوبة حضارية في ظل الفتح العثماني الذي أحكم قبضته على العرب من بداية القرن السادس عشر. وفي نهاية الحكم العثماني كانت الدعوة في نهاية الأمر مجرد دعوة للاستقلال الذاتي الثقافي. ولم تلبث أن تحددت هذه الدعوة في بداية القرن العشرين بالوقوف في وجه كل من الاستبداد الشرقي والاستعمار الغربي. وعندئذ اختلطت الدعوة القومية بالدعوة لاستقلال كل قطر عربي على حدة. حتى لقد نشأت جامعة الدول العربية تسليما بهذا المبدأ المتخلف وهو أنها جامعة لأقطار عربية مستقلة وحرمت من عضويتها الأقطار التي لم تكن قد ظفرت بعد استقلالها.
إن استيقاظ الحركات القومية، أعني انطلاق الحركات القومية ذات الطبيعة الرأسمالية والاتجاه لإنشاء دول مستقلة من الناحية القومية ظاهرة حديثة. وهي حديثة تماماً في العالم العربي. فالأمة كما قلنا مقولة تاريخية تنتمي إلى عصر محدد هو عصر الرأسمالية الصاعدة. فإن عملية اقتلاع الإقطاع ونمو الرأسمالية هي في الوقت نفسه عملية تشكيل الجماعات القومية في صورة أمم. ولقد كان الوطن العربي حتى سنوات قليلة مجتمعاً قبلياً أو شبه قبلي، لم تتحول قبائله بعد إلى شعوب تنتمي إلى أوطان قطرية بحيث إنها لم تكن قد نجحت بعد في الارتفاع إلى مستوى التوحيد القطري، وإذا كانت الأقطار العربية جميعاً قد كسبت استقلالها السياسي فيما عدا فلسطين، وإذا كانت قد طورت اقتصادها أخيراً على أسس رأسمالية لا شك فيها، فإنها مازالت مجتمعات رأسمالية ذات طبيعة مشوهة. بل إن تطورها الرأسمالي الواسع النطاق لم يصب في مجرى تطوير أسواقها الداخلية المفتتة بقدر ما زاد من روابطها بالسوق الرأسمالية العالمية. وعجزت حتى الآن عن تشكيل اقتصاد عربي مشترك بوصفه المقوم الحاسم لوجود أمة عربية واحدة.
لقد تخلفت عملية تكوين السوق القومية الواحدة، وتخلفت القضية القومية العربية بأسرها باختصار، لقد تخلفت الجماعات القومية العربية عن التحول إلى أمة عربية في ظل التطور الرأسمالي الحالي.

تخـلف التطـور الرأسمالي العربي:
يتهكم الكتاب الغربيون على العرب بأنهم قبائل تحت أعلام وطنية. يقولون إن المنطق كان يقضي بأن يكون العرب في حقبة النفط أقوى مما كانوا قبلها، لكن الواقع يؤكد أنهم أصبحوا في غاية الضعف، فبقايا القبائل لم يصبحوا بعد أمة واحدة.
وصحيح أن العرب لم يشكلوا بعد أمة واحدة. لكن إرادة التوحيد القومي والنزعة القومية عند الشعوب المقهورة ظاهرة إيجابية وتقدمية، إذ تنطوي على عنصر النضال ضد الإمبريالية من أجل التحرر الوطني، هذا النضال الذي يوقظ الوعي القومي لدى الشعوب ويساعد على قيام الأمم الحرة. ومعنى ذلك أن النزعة القومية العربية صارت تعني عملية توحيد الأمة العربية من خلال الصراع ضد الإمبريالية والتبعية الخارجية.
ولا شك أن التطور العربي خلال التاريخ إنما يكشف عن سمتين بالغتي الأثر في المجتمعات العربية. أولاهما هي بطء التطور الاجتماعي العربي، وبعبارة أخرى فإن عراقة المجتمع العربي هي السبب في تطوره المتفرد بنزعاته الارتدادية. وثانية السمتين هي فداحة ما خلفه الاستعمار من عواقب وخيمة على التطور العربي.

السمة الأولى: بطء التطور الاجتماعي العربي:
وينبغي التأكيد منذ البداية على الارتباط الوثيق بين العروبة والإسلام. فلقد شهدت القبائل العربية في شبه الجزيرة تحولها التاريخي البعيد المدى إلى جماعة قومية عربية بفضل الإسلام. وبفضل الإسلام أيضاً تشكلت جماعات قومية عربية أخرى في أكثر الأراضي التي فتحت باسم الإسلام. قامت كلها على قاعدة من اللغة والثقافة العربيتين.
لقد انتشر الإسلام شرقاً وغرباً، إلا أن الرقعة العربية تحددت على أسس ثقافية واجتماعية تقوم على سيادة اللغة العربية. رأى العرب في اللغة رمز وحدتهم. كان الفخر قبلها بالأنساب، فصار الآن بالعروبة، وصارت الأهمية الأولى للسان. وبدأ ابن خلدون التمييز بين الأمة والملة. فالأمة هي الشعوب والقبائل، أما الملة فتسندها راية الدين.
وعلى أساس اللغة العربية تشكلت الثقافة العربية الجديدة. تشكلت في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة ثم استقرت.
إن الثقافة العربية التي تشكلت في الأقطار العربية المختلفة قد تشكلت في صراع ولقاء مع مجموعة الثقافات التي دخلت عليها. كانت هناك الثقافة المصرية القديمة بكل أجيالها عبر التاريخ، وثقافة ما بين النهرين في العراق، وثقافة سبأ في اليمن، هذا بالإضافة إلى الثقافة الأولى في شبه الجزيرة العربية والاحتكاك بالثقافة الهندية والثقافة اليونانية.
وفي عصور التقدم والازدهار كانت الثقافة العربية تزدهر وتتقدم، وفي عصور التخلف والانهيار كانت الثقافة العربية تتخلف وتتدهور_ شأنها في ذلك شأن كل ظاهرة اجتماعية. وفي أوقاتنا الحالية يتخذ الصراع الثقافي شكلين أساسين. أحدهما هو التشبث بالماضي باسم الحفاظ على التراث، والآخر هو التعلق بأهداب المستقبل وقبول التحدي المطروح من جانب ثقافات العصر، أي السعي لبناء ثقافة قومية على أساس الوعي الذاتي القومي.
والواقع أن التراث لا يمكن أن يحفظ كما تحفظ الأوراق القديمة في السجلات، كما أن المحافظة على التراث لا يمكن أن تعني أبداً إعادة نسخ هذا التراث. فالنظرة السلفية للتراث تجعل من المستحيل، وكذلك من غير الضروري إعادة صنع الواقع الاجتماعي أو إنجاز تقدم اجتماعي حقيقي. وعيها الجوهري هو إغفالها للرؤية التاريخية لظاهرة الثقافة. وفي كثير من الأحيان يتم الربط بين هذا الموقف غير الموضوعي وبين الإسلام. مع أن الدين الإسلامي لم يخلق أبداً هذا القدر من القيود التي تطوق وعي البشر، بدليل تلك الذرى الإنسانية الرفيعة التي بلغتها الثقافة العربية في القرون الثلاثة الأولى لظهور الإسلام.
لقد عانى التطور الاجتماعي العربي طويلاً من النزعة الذاتية التي تلغي الرؤية الموضوعية وتنكر وجود الحقيقة الموضوعية والمعيار الموضوعي للمعرفة الاجتماعية، والتي تحل المضاربة والسفسطة أي النسبية التاريخية والاجتماعية محل الحقيقة العلمية. وكانت هذه النزعة سبباً في بطء التطور الاجتماعي في الأقطار العربية وسبباً في الارتداد مرارا عن مسيرته التاريخية، وأقامت صراعاً مفتعلاً بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى تحت اسم الصراع بين التراث والوافد أو الأصالة والتحديث. وكان المقصود بالوافد نتاج الحضارة الأوروبية المعاصرة من علم وتكنولوجيا ومن قيم وتعاليم وعادات وقوانين وضعية وإبداعات الفكر والأدب والفن.
ولم تميز المعركة المفتعلة في فترات مختلفة من التاريخ العربي المعاصر بين نوعي ذلك الوافد. فالعلم والتكنولوجيا ليسا مجرد نتاج لحضارة معينة بل هما نتاج للتطور الاجتماعي للبشرية عبر العصور ومن خلال الحضارات المختلفة. وهما تعبير عن علاقات إنتاج رأسمالية تميز الغرب كله وتدعوه للاستعلاء. أما غيرهما من نواتج الحضارة المعاصرة فهو نتاج للتطور التاريخي للمجتمعات الأوروبية بالتحديد، نتاج لتطور علاقات إنتاج رأسمالية. هو نتاج لطبقة معينة في مجتمع معين، ولسوق معينة في إطار معين وهو بالتالي تعبير عن قيم الفردية والانتهازية والاستغلال. وبينما يكون من حقنا أن نرفض الثقافة من هذا النوع، فإن من واجبنا أن نستوعب وأن نطور الثقافة من النوع الأول التي هي ملك للبشرية كلها.
ومن حق العرب أن يفضحوا وأن يرفضوا وأن يقاوموا التوسع أو الغزو الثقافي للبلدان العربية. ومن حقهم أيضاً أن يصحوا على كل ما هو أصيل في قيمها الثقافية. ومن حقهم قبل كل شيء أن يبرزوا التراث الثقافي العربي ذا النزعة الإنسانية وأن يؤكدوا على هذه النزعة بالذات في مواجهة لا إنسانية الغرب الاستعماري.

السمة الثانية: فداحة الإرث الاستعماري الغربي:
إذا كنا قد ركزنا فيما مضى على دراسة الجمود الثقافي العربي في الدلالة على بطء التطور الاجتماعي العربي، فالواقع أن الأساس المادي والموضوعي لذلك كان هو تخلف التطور الاقتصادي في المرحلة الرأسمالية.
فقد ظل العرب سادة التجارة الدولية بين أوروبا والشرق الأقصى حتى نهاية القرن الخامس عشر. كان التجار العرب يصلون عبر المحيط الهندي, ثم ظهر التجار الأوربيون بعد اكتشاف الطريق البحري إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح، وتتابعت السفن الأوروبية الأولى برتغالية ثم هولندية وإنجليزية وفرنسية.
كانت التجارة العربية بين أوروبا والشرق الأقصى تقوم في الأساس على المقايضة. وازدهرت المدن الإقطاعية في المشرق العربي ونمت الحرف في استقلال عن الزراعة. وازدهرت في المدن صناعات حرفية عديدة مثل بناء السفن والمنسوجات والورق والجلود والصوف وصناعات المعادن. لكن العرب تخلفوا. وكان تخلفهم يتركز في فقدان ما يمهد للرأسمالية: الاغتراب الواسع للمنتج الأساسي في الريف والمدينة عن وسائل الإنتاج، فقد ظل الفلاحون والحرفيون مالكين لوسائل إنتاجهم. ولم تصبح السلع والنقود مصدراً للتراكم الرأسمالي_ هذا التراكم الذي لم يتحقق إلا في القرون التالية في ظل التوسع الاستعماري. وعندما تحقق كانت الفرصة قد ولت لقيام رأسمالية عربية أصيلة.
في ذلك الوقت توسعت أوروبا في تجارتها مع الشرق الأقصى والمحيط الهندي، هذه التجارة التي ساهمت إلى أبعد مدى في تراكم رأس المال الأوروبي، بينما استنزفت الأسواق الآسيوية واستوعبت مصادر الخامات للحرف المحلية. وإذ توسعت أوروبا في تجارتها تلك، فلقد اعتمدت في الواقع على تفوقها البحري الذي تأكد لها بتحطيم الأسطول المصري عند جزيرة ديو في المحيط الهندي. ولقد اعتمد هذا التفوق البحري بدوره على قواعد وحصون استولت عليها أوروبا بطول الشواطئ الآسيوية والأفريقية واستخدمت كمحطات للجيوش ومخازن للسلع المستوردة وأحواض جافة. واصطحب التفوق البحري الأوروبي بانتشار القرصنة الأوروبية في البحار وفي المحيط الهندي والإغارة على السفن لإغراقها.
ولقد كان من شان التوسع الاستعماري المبكر في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر أن عمل على تشويه التطور الاجتماعي في البلدان العربية وغير من مجرى هذا التطور. لقد أدى عملياً إلى تثبيت وترسيخ الأوضاع الإقطاعية. وفي الوقت نفسه فلقد ساعد على تركيز السلطة في الدولة من جديد بعد مرحلة من التفكك.
ولقد حاولت مصر فيما بين عامي 1760 و 1840 استعادة سيطرتها التجارية التي كانت لها قبل اكتشاف رأس الرجاء الصالح. في عام 1760 عبر على بك الكبير عن الحاجة الملحة للتطور، لكنه هزم على أيدي العثمانيين وحليفهم محمد أبو الذهب. وفي مطلع القرن التاسع عشر حاول محمد علي للمرة الثانية شق طريق التطور الرأسمالي. وكان الأساس المادي للتطورات التي تمت في عهده هو نمو القطاع التجاري الذي كانت تسيطر عليه الأقليات التجارية المنتمية إلى بلدان البحر المتوسط. وفي النهاية فلقد كبتت آفاق التطور الصناعي في عام 1840 بمعاهدة لندن وبالقضاء على الاحتكار التجاري الذي أدى لانهيار التطور الصناعي.
وطوال القرن التاسع عشر ظلت الشعوب العربية تناضل ضد الاستبداد الشرقي الذي كانت تمثله الدولة العثمانية وضد الاستعمار الغربي الذي كان يتسلل إلى أغلبية الأقطار العربية بكافة الوسائل. وفي مطلع القرن العشرين وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة تركيا من الحلفاء، تخلص العرب من السيطرة العثمانية لتحل محلها سيطرة استعمارية أوروبية. وشهدت هذه الفترة تبلور النضال العربي ضد الإمبريالية في صورتين، صورة سعي كل قطر عربي للتحرر الوطني وصورة انطلاق دعوة القومية العربية والتوحيد القومي. وأدى استيلاء إسرائيل على فلسطين إلى تجسيد الخطر الإمبريالي على العرب. وَعبَّرت ثورة يوليو في مصر عن مجمل الطموحات العربية في الخمسينات والستينات، وكانت هي العصر الذهبي للدعوة القومية.
لكن الردة لم تلبث أن حاقت بالوطن العربي ابتداء من هزيمة 1967، ومع انتشار الحقبة النفطية في كافة أقطاره. ونمت الرأسمالية من جديد لكنها كانت رأسمالية مشوهة. فهي ذات طبيعة طفيلية، وهي رأسمالية تابعة. واستولت على الحكم فئة عليا من الرأسمالية هي فئة تجارية ربوية تستسلم طواعية للإمبريالية، وإلى جوارها فئة أخرى بيروقراطية متحالفة معها. وثمة فئة تجارية صناعية كبيرة الوزن لكنها صغيرة العدد، وهي تكتسب سمات احتكارية وتتبنى أفكار الاحتكارات. هذا بينما تتميز رأسمالية متوسطة وصغيرة يشكلان معا جمهرة الرأسمالية الوطنية. وكثيراً ما يتغلب الطابع الطفيلي على الفئات العليا كلها نتيجة الاشتغال بالسمسرة وأعمال الوساطة والتهريب والسوق السوداء وبخاصة مع القطاع العام.
وهكذا وقعت المجتمعات العربية بأيدي الطبقة الرأسمالية الطفيلية التي نبت أفرادها كالفطر والتي تقود عملية النمو الرأسمالي المشوه فيها. بل وقفزت هذه المجتمعات إلى مرحلة المجتمعات الاستهلاكية من قبل أن تملك هياكل إنتاجية تؤمن لها تدفق المواد الاستهلاكية المطلوبة.
ولقد بلغت خطورة الإرث الاستعماري الحد الذي أتاح للدول الصناعية المتقدمة أن تستعيد سيطرتها على السوق الدولية للنفط بعد أن فقدتها في السبعينات، ولم يبق من الحقبة النفطية إلا ما خلقته من تعميق للتجزئة العربية وإبعاد للأمل في استكمال تكوين الأمة العربية الواحدة.
استكمال تكويـن الأمـة العربيـة:
لقد وجهت الرأسمالية العالمية لعملية تكوين الأمة العربية ضربتين حاسمتين، الأولى في مطلع الرأسمالية بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح، والثانية في نهاية الرأسمالية أعني في مرحلة الإمبريالية واستعمار وتجزئة العالم العربي. وساعدت الرأسمالية العربية التي تشكلت مؤخراً على تأكيد تخلف تكوين الرأسمالية محليا وبالتالي تخلف تكوين الأمة العربية حتى الآن.
ولعل الدرس الأساسي من قراءة هذه الدراسة هو أنه إذا كانت المرحلة الرأسمالية قد فشلت في قيام الأمة العربية الواحدة، فإن هذا الهدف التاريخي لن يتحقق إلا في ظل الاشتراكية. إن جدلية التطور سوف تلقي على عاتق الاشتراكية مهمة استكمال بناء الأمة العربية. فهذه المهمة مثلها مثل بقية مهام الثورة الوطنية الديمقراطية العربية قد عجزت الرأسمالية عن إنجازها. إن طريق التطور الرأسمالي يمثل مأزقاً حقيقياً للبلدان النامية الراغبة في تطوير حياتها على أسس سليمة متوازنة. فهو يمثل في الأغلبية الساحقة من تجاربه نموا اقتصادياً مشوهاً وتنمية اجتماعية عكسية وتبعية خارجية أشد إحكاماً من ذي قبل. فلقد أثبتت "رأسمالية الأطراف" عجزها عن حل مشاكل بلادها، ولم تتمكن في الحقيقة من حل أي من قضاياها الشاخصة أمامها. ومن ثم راحت تغلف عجزها بشعارات جوفاء مثل: الادعاء بالتمسك بالقيم التقليدية ورفض الأفكار المستوردة والبحث عن طرق متميزة لا مثيل لها من قبل!
ونتيجة لذلك، لا بد أن تجري الآن عملية تاريخية واعية في إطار ظروف عالمية معينة لانتهاج طريق التوجه الاشتراكي لاستكمال إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية. ويبدأ طريق التوجه الاشتراكي برفض الرأسمالية كأسلوب لتطوير البلدان النامية التي استقلت حديثاً. هذه البلدان بعد أن رفضت الرأسمالية كنظام مجلوب من الخارج في صورة الاستعمار الأجنبي، فإنها ترفضها الآن وعلى أساس من تجربتها الخاصة التي أقنعتها بأنها طريق لا يمكن أن يحل المشاكل الحيوية لتطورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ومن ثم تقترن الآن بالضرورة حركة التحرر الوطني مع حركة التحرر الاجتماعي.
وبالنسبة للأقطار العربية وهي بلدان نامية فإن طريق التوجه الاشتراكي يبدو مواتياً لإنجاز مهامها الوطنية والديمقراطية والاجتماعية. والإنجاز الكامل لهذه المهام كفيل بتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة لا يمكن أن تجري بشكل سليم إلا على أساس التكامل العربي ومن ثم تتوافر ظروف مواتية لقيام سوق عربية وبناء حياة اقتصادية مشتركة على المستوى العربي. وبهذا يتم القضاء على التخلف الاقتصادي المزمن، ويفتح الباب أمام التفتح الثقافي الشامل في ظل الديمقراطية حيث يمكن أن تزدهر الشخصية العربية. وتتأكد عندئذ ملامح الأمة العربية، كما تتأكد الخصائص القومية للعرب. بل وتتضاعف الإمكانيات المتاحة لمعالجة مسألة الأقليات القومية داخل الوطن العربي.

الظــاهرة القومية العربية:
هكذا تتضح أمامنا حقائق الظاهرة القومية. فهي تبدأ من الجماعات القومية التي ظهرت إلى الوجود منذ آلاف السنين عندما التقت معا عشائر وقبائل شبه الجزيرة العربية التي تتكلم شكلاً أو آخر من أشكال اللغة العربية. كانت رابطة الدم هي التي تجمعها قبلا، ثم تدخلت القبائل المختلفة فصارت أقواماً. ولقد تكاثرت الجماعات القومية العربية وتعددت، وبخاصة بعد ظهور الإسلام وفتح الأمصار. هنالك توارت رابطة الدم إلى حد بعيد، وحلت محلها رابطة اللغة التي انتشرت والأرض التي امتدت واتسعت. لكن الدولة الإسلامية جمعت تحت لوائها أقطاراً متنوعة لم تشكل كلها جماعات قومية عربية.
وتطورت الأمصار العربية لتشهد عهوداً إقطاعية أو شبه إقطاعية ذات طبيعة خاصة. وتلتها أشكال رأسمالية بالغة التنوع وبخاصة شكل الرأسمالية التجارية التي طال أمدها وتحجرت في أكثر الأقطار العربية وحالت دون تطورها.
ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع، وفي خضم الصراع في كثير من الأقطار العربية ضد الاستبداد العثماني وضد الغزوة الاستعمارية الأوروبية، نشأت الدعوة للقومية العربية كحركة سياسية لكبار الأعيان والتجار العرب ضد كبار الملاك الأتراك والحكم الاستبدادي التركي.
في الوقت نفسه أخذت تتشكل أمة عربية واحدة باعتبار أن الأمة هي ذلك التجمع من الناس الذي تكون تاريخياً على أساس من وحدة الأرض واللغة والحياة الاقتصادية المشتركة والتكوين النفسي الذي يتمثل في صورة ثقافة مشتركة. وهذا كله لم يجتمع لجماعة من الناس إلا مع مولد الرأسمالية. ولم تشذ الأمة العربية حتى الآن عن هذه الطبيعة. فالأمة مقولة تاريخية تنتمي إلى عصر محدد هو عصر الرأسمالية الصاعدة.
إننا نعترف بقدم الظاهرة القومية الضاربة في التاريخ. لكننا لا نخلط بين تجلياتها المختلفة التي تطورت على طول التاريخ، وما زالت تتطور حتى الآن. نحن لا نخلط بين الجماعة القومية والأمة. لأن جوهر الأمة ليس مجرد إرادة العيش معاً، وإنما العيش معا في مجتمع صار ثابتاً بفضل تطور معين يجري بصفة خاصة في مجال الحياة الاقتصادية الواحدة. وهو تطور لا يتحقق موضوعياً إلا مع مولد ونمو العلاقات الرأسمالية بين أعضاء المجتمع الواحد.
إن الانتماء إلى أمة يختلف تماماً عن الانتماء إلى قبيلة. وبين الظاهرتين دهر كامل لا يمكن اختزاله ولا القفز عليه. وفي التاريخ العربي الحديث وبخاصة في حقبة النفط ما يؤكد ما نقول.
ومن الصحيح التأكيد على حقيقة تواجد الأمة في ظل أكثر من نمط واحد للإنتاج. فهناك أمة رأسمالية. وهناك أيضاً أمة اشتراكية. بل إن عملية استكمال تكوين الأمة العربية لن تنجز أبداً إلا في ظل التوجه نحو الاشتراكية. بعبارة أخرى، فإن الاشتراكية لا تؤذن ببداية اضمحلال الأمم، بل تتميز بنمو وازدهار الأمم المقهورة والمساواة بين الأمم وانتعاش الأقليات القومية وتأكيد هويتها. ولا شك أنه سوف تسير الأمم شيئاً فشيئاً وبالتدريج البطيء في طريق التكامل والالتحام والاندماج. ولسوف يأتي حين من الدهر يجري فيه تجاوز ظاهرة الأمم. لكن ذلك لن يجري إلا في عالم جديد تسوده حقاً علاقات اشتراكية راسخة. وهو تطور خطير يستغرق مرحلة تاريخية طويلة.
وإنما شتان بين القول بعدم اقتصار نشوء الأمم على مرحلة الرأسمالية والقول بأزلية الأمم. فلم تنشأ الأمم ولم تتواجد من فجر التاريخ. ذلك خلط لا حاجة إليه بين القوم والأمة. والواقع أنه عندما يقول بعض الكتاب بأزلية الأمة فإنهم يعنون بذلك الأمة العربية تارة والأمة المصرية تارة أخرى. يقولون إن الأمة ظاهرة اجتماعية يمكن أن تظهر في كل مراحل التاريخ، وبالتحديد ابتداء من ظهور المجتمع الطبقي. أي أن قيام الدولة شرط لنشأة الأمة. وذلك خلط آخر بين عملية تكوين الجماعة القومية في صورة أمة وبين ظهور الدولة القومية. فالتاريخ المعروف يدلي بحقيقة أن التطابق بين الظاهرتين لم يتحقق إلا حديثاً _ من القرن التاسع عشر. وهو ما يسمى بالمبدأ القومي أي قيام الدولة على أمة. لكن الدولة قامت تاريخياً منذ انقسام المجتمع إلى طبقات، بينما قامت الأمة مع اقتلاع الإقطاع ونمو الرأسمالية. ومع نمو الرأسمالية توحدت السوق ونمت وارتبطت بها الطبقة الاجتماعية الصاعدة. وفي هذه السوق الواحدة أو الموحدة تعلمت دروس الوطنية وتعلقت بها آمال التوحيد القومي.


ثانياً: البحـث عـن الهويـة العربيـة:
أسفرت الحرب العالمية الثانية، وكانت جحيماً عَجّل بإنضاج العملية التاريخية للتحرر الوطني والاجتماعي للشعوب، أسفرت هذه الحرب عن إعادة طرح المشروع القومي العربي. وفي المواجهة السريعة مع الغزوة الصهيونية لأرض فلسطين، بدأت تتخلق معالم البعد القومي لحركة التحرر العربية. وطوال أكثر من ستين عاماً مضت، ظل المشروع القومي العربي مطروحاً على الشعوب العربية بقوة دفع متصاعدة، سواء كان ذلك في فترات المد أم في فترات الجزر، حتى ليمكن القول بأن المثل الأعلى القومي قد استقر الآن في وعي الشعوب العربية.
في مطلع القرن التاسع عشر، انطوى المشروع المصري للنهضة بقيادة "محمد علي" على البعد العربي وظهر ذلك وبالتحديد من خلال علاقات الحرب والسلام مع كل من المشرق العربي وأفريقيا العربية.
وفي بداية القرن الماضي تصدى "محمد علي" لتحرير الفكر من قيد "التقليد" ودعا "للرجوع في فهم الدين وكسب معارفه إلى ينابيعها الأولى ليكون صديقاً للعلم". وإذ دعا بقوة لإعمال العقل في شئون الدين، فإنه قد أكد بوضوح على أنه "ليس في روح المدينة الحديثة أو في ثمرات العلم الحديث ما يناقض الإسلام الصحيح".
وهكذا لم يكن ثمة حرج في التعامل مع المدنية الحديثة، لا في أوقات ازدهار المشروع المصري ولا في أوقات اندحاره. لم يكن المشروع العربي قد اتضح بعد. ففي القرن التاسع عشر كان المشروع العربي مازال جزءاً من المسألة الشرقية، وعندما اتخذ لنفسه بعض القوام في النصف الثاني من القرن 19، كان سعياً للخلاص من السيطرة العثمانية الغاشمة، وكان صيحة من صدور مسيحيي الشرق العربي خاصة. كان المشروع العربي مازال دعوة غامضة للنهضة العربية في وجه كل من الاستبداد الشرقي والاستعمار الغربي.
ومع الحرب العالمية الأولى، تم تقسيم الوطن العربي بين القوى الإمبريالية في الوقت الذي بدأ يطرح مشروعه القومي في صورة تبلور الأقطار العربية وسعيها لنيل الاستقلال السياسي لكل منها. وإنما تبلورت أيضاً نواة مشتركة فيما بينها في صورة مواجهة الخطر الاستيطاني الصهيوني لفلسطين تحت مظلة الإمبريالية العالمية. وظل الأمر كذلك حتى قامت الحرب العالمية الثانية وانطلقت شعاراتها التحريرية في كل مكان.
ولذلك قلنا إن الحرب العالمية الثانية قد أسفرت عن إعادة طرح المشروع القومي العربي بقوة وبخاصة بعد الفشل في صد الغزوة الصهيونية وقيام إسرائيل على جزء من فلسطين. وفي هذه المرة، أعيد طرح المشروع القومي العربي على مستويين، مستوى النظم ومستوى الشعوب. أما على مستوى النظم، فقد تبلورت قضية الاستقلال السياسي للأقطار العربية بالتفاهم مع الاستعمار. وفي الوقت نفسه ظهرت نواة التوحيد القومي في صورة قيام جامعة الدول العربية لتضم الدول العربية المستقلة سياسياً فقط. وأما على مستوى الشعوب، فقد انطلقت حركة التحرر الوطني العربية في مواجهة لعدو الواحد أو المشترك. وتجسدت نواة التوحيد القومي في مواجهة العدو الصهيوني الإمبريالي المشترك على أرض فلسطين، ومن ثم انطلقت الدعوة الجديدة للتوحيد القومي. وأصبح المشروع القومي العربي مشروعاً للتوحيد القومي وليس مجرد مشروع للنهوض العربي. واستند المشروع القومي العربي هذه المرة إلى الثورة المصرية وقائدها "جمال عبد الناصر" وأفاد بالتالي من سلطة الدولة في مصر فائدة كبيرة. وتحددت في النهاية معالمه المعاصرة، بوصفه حركة للتحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والتوحيد القومي، حركة قومية ذات مضمون اجتماعي ولها أفاق اشتراكية.
وهكذا بينما شهدت الخمسينات والستينيات من القرن العشرين ازدهار هذا المشروع القومي العربي، فإنه قد انتكس في السبعينات وإلى الآن. وفي الحقيقة فلقد أصيب خلال السنوات الأربعين الأخيرة بهزيمتين فادحتين، أما الأولى فهي هزيمة عسكرية أمام إسرائيل في عام1967 انتهت باحتلال أراض من ثلاث دول عربية أضيفت لها لبنان منذ عام1983. وأما الثانية فهي هزيمة سياسية تمثلت في إقرار مشروعية الوجود الصهيوني في فلسطين ووضع مبدأ الصلح المنفرد مع إسرائيل بما يعني تصفية القضية الفلسطينية. ولقد تم ذلك في اتفاقيات كامب ديفيد عام1978. وبعدها، في ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أصابت المجتمعات والأقطار العربية بفعل رفع أسعار النفط إلى ثماني مرات عما كان في عام1973، غدت الأقطار العربية مجتمعات رأسمالية بدرجة أو بأخرى، وسيطرت عليها الفئات المالية والتجارية ذات الروابط الوثيقة برأس المال العالمي. واتسعت هوة الفروق الاجتماعية الفاحشة واتخذت الأغلبية الساحقة من النظم العربية مكانها في صفوف الثورة المضادة، بينما أثخنت شعوبها وقواها الوطنية بالجراح بفعل القهر والقمع وتغييب إرادتها الحرة وضربها ببعضها البعض. وجثمت الثورة المضادة على أنفاس مصر (ومعظم العرب) حتى الآن.
وتبدو الهزيمة مرة في طعم العلقم، وبخاصة في فم الأجيال الشابة. هذه الأجيال التي فقدت الثقة في قدرة القيادات الحالية لحركة التحرر الوطني العربي على تحقيق المشروع القومي العربي. وهي تعيد النظر في كل شيء حتى في المسلمات. إنها تتساءل عن هويتها، فمن نحن؟ وإزاء العجز الفاضح لأغلب القيادات المستقرة في ملكوت الأرض العربية، فإن أجيال الشباب تتوجه بنظراتها إلى الأمل الأخير المتاح للإنسان، أعني إلى ملكوت السماوات. ومن ثم تثير قضية التراث. غير أن العودة إلى التراث قد تعني عندئذ استسلاما للهزيمة مثلما قد تعني تجاوزا لها. فأي الأمرين هي؟

أزمـة البحث عـن الهويـة في التـراث:
فالبحث عن الهوية في التراث قد يعني الاستسلام لهزيمة المشروع القومي العربي. فلا شك أننا ما زلنا نعيش في الوطن العربي كله في ظل الهزيمة. ولا شك أيضاً أن هموم النهوض القومي هي التي تحركنا نحو التراث. وتتمثل هذه الهموم في محاولة تأكيد الذات العربية لنفسها أمام التحدي الحضاري للغرب. لكن عملية تأكيد الذات هذه تشكل – كما يقول " عابد الجابري" – نكوصا إلى مواقع خلقية للاحتماء بها والدفاع انطلاقاً منها.
مازالت القضية في الجوهر هي قضية العلاقة بين الإسلام والمدنية الحديثة كما طرحها "رفاعة الطهطاوي" و "محمد عبده" مع فارق خطير. فبينما طرحت في الماضي بوصفها علاقة جدلية من جانبين فإنها تطرح الآن كعلاقة ميتافيزيقية من جانب واحد. وبينما طرحت في الماضي بوصفها تناقضاً غير عدائي، تطرح الآن بوصفها تناقضاً عدائياً لا يحل إلا بإلغاء أحد طرفيه.
وتشكل كتابات "عابد الجابري" و "السيد ياسين" و"صلاح قنصوه" عرضاً دقيقاً لمحاولة البحث عن الهوية في التراث كما تقدم نقداً حاسماً لها.
‌أ. فالتفكير في مستقبل العمل العربي يتم بالتحديد من خلال الثقافة العربية بمحدداتها ومكوناتها وفي مقدمتها الموروث الثقافي والوضع الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل. هذا التفكير يتم في لحظة محددة هي لحظة انكسار وهزيمة للمشروع العربي في مواجهة التحدي الحضاري للغرب والتهديد الفعلي للهوية العربية بل والوجود العربي نفسه. وفي إطار هيكل عام من التبعية للغرب شهد كل محاولات الغزو الأجنبي والاحتلال العسكري والاستيطان الصهيوني، كما شهد محاولات تفجير الأقطار العربية من داخلها باستغلال ظروف عدم التجانس العرفي أو الديني أو اللغوي أو الطبقي أو القومي أو الإيديولوجي، تبدو العودة إلى التراث بمثابة صرخة احتجاج في وجه الغرب الأقوى منا حالياً. وفي هذه الحدود تصبح تلك الدعوة مجرد رد فعل أكثر منها فعلاً أصلياً.
وتبدوا كاحتجاج سلبي ضد الغرب، يركز على بعث ما مضى وليس على خلق جديد يواجه تحديات الحاضر واحتياجات المستقبل. ففي فترات الانكسار والهزيمة يتوقف الوعي عن الإنتاج ليصبح مستهلكاً لصيغ جاهزة من الثقافة.
‌ب. وباعتبار التراث جزءاً من الثقافة، وباعتبار الثقافة تطوراً من خلال تطور البشر أنفسهم، فإن التراث يتطور أيضاً. وفي كل ثقافة يوجد تراث هو توليفة من عناصر متعددة من ثقافات سابقة. وفي النهاية، وفي اللحظة المعينة، فإننا نستطيع التمييز بين نوعيين من التراث: النوع الأول هو التراث المحفوظ أو المخزون وذلك هو التراث المتحفي. أما النوع الثاني فهو التراث الحي الذي يتواجد بشكل أو بآخر في الممارسات الحية للشعوب. وذلك هو التراث فعلاً.
ولذلك قيل إن التراث هو فهم الناس للتراث، هو فهم الحاضر للماضي. ومن ثم يمكن أن يكون التراث موقفاً معاصراً من مشكلات معاصرة.
وفي هذه الحدود فلا مشكلة هناك. لكن المشكلة تبدأ حينما تبدأ المحاولة للتسوية بين الهوية والتراث بحيث يصبح هو المكون الوحيد لها. وبالطبع فإن هذه المحاولة لا تقبل بفكرة تطور التراث ذاته. وعندئذ فإن التراث يعمل "وكأنه كان في خزانة حديدية محكمة الإغلاق". ومعنى ذلك إسقاط عامل التاريخ، أي إسقاط الزمن من الحساب. وتصبح هذه القراءة السلفية للتراث قراءة لا تاريخية لا تفيد سوى التكرار، تكرار التراث نفسه. بل تتم عندئذ قراءة المستقبل بواسطة الماضي، وأي ماض؟ ليس الماضي نفسه بل الماضي بعد إعلائه، الماضي كما كان ينبغي أن يكون. أي العودة إلى ماض ليس هو الماضي.
وتصبح العملية هي محاولة للقفز على التاريخ لا صنع التاريخ. فهي رفض للواقع وهجرة إلى الماضي المتخيل وتخل عن المستقبل. إنها افتقاد الاستقلال التاريخي أو العجز عن تحقيق هذا الاستقلال. ويساعد على ذلك، في رأي "الجابري"، تداخل الأزمة الثقافية في فكر المثقف العربي، حيث يقوم وعيه التاريخي على التجميع وليس على التعاقب. ومع أن لهذه الظاهرة أسبابها الموضوعية من تداخل التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية في تطور المجتمعات العربية، فإن التراث ليس بضاعة تم إنتاجها دفعة واحدة وبصورة نهائية خارج التاريخ، بل هو ظاهرة تاريخية تماماً بحيث أن التراث هو نفسه جزء لا يتجزأ من التاريخ. وعندما تفكر الشعوب في تراثها فأنها إنما تفكر في ثقافتها المكتسبة عبر التاريخ ولذلك يبقى هذا التراث، بمعنى الممارسات الحية المكتسبة من الماضي، قوة دفع نحو المستقبل إذا ما احتفظنا بقدرتنا على الاستقلال التاريخي، بينما يحتفظ بالتراث الآخر في المتاحف.
البحث عن الهوية في العملية القومية:
في الوقت نفسه فإن أوضاع الأزمة أو الهزيمة تضاعف عادة من قدرة البشر على إدراك التناقضات في العالم من حولهم. وبهذه الصفة فإن البحث عن الهوية في العملية القومية قد يعني عندئذ قدرتهم أو على الأقل إرادتهم في تجاوز هزيمة المشروع القومي العربي.
لقد بدأ الاتجاه نحو الدولة القومية في أوربا في القرن السادس عشر، وسادت الظاهرة القومية فيها ابتداء من القرن التاسع عشر. وهنا في العالم العربي، مازالت العملية القومية تشق طريقها بصعوبة بالغة. فما زالت الشعوب العربية تناضل ضد كل بقايا القهر القومي ومن أجل إقامة دول قومية. وأظهر مثال ذلك هو نضال الشعب الفلسطيني من أجل إقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض فلسطين. مازالت العملية القومية لم تكتمل بعد.
لا شك أن الظاهرة القومية ظاهرة قديمة. فلم تظهر الحركات القومية الآن للمرة الأولى. وفي العالم كله كان عهد انتصار الرأسمالية الحاسم على الإقطاع مقترنا بانتصار الحركات القومية. وأساس هذه الحركات من الناحية الاقتصادية موجود في الإنتاج لا في التبادل. فعندما يتفوق الإنتاج السلعي أي الإنتاج من أجل السوق على غيره من أشكال الإنتاج، وعندما تصبح له الغلبة بالنسبة لهذه الأشكال الأخرى فإنه يتطلب قيام البرجوازية بالاستيلاء أو بالسيطرة على السوق الداخلية وتوحيد الأراضي التي يتكلم سكانها لغة واحدة في دولة واحدة وإزالة كل حاجز من شأنه أن يحد من تطور تلك اللغة ورسوخها في الأدب. ذلك أن اللغة وسيلة كبرى لاتصال الناس بعضهم ببعض. كما أن وحدة اللغة وحرية النمو هما أهم الشروط لقيام مبادلات تجارية حرة شاملة حقاً تتوافق والرأسمالية وكذلك لتكتل الناس تكتلاً حراً واسعاً داخل كل طبقة من الطبقات وأخيراً لإقامة علاقة وثيقة بين السوق وبين كل صاحب عمل كبير أو صغير، أي بين السوق وبين كل بائع ومشتر.
لماذا إذن لم تتطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية العربية في القرون الماضية إلى نظام رأسمالي على الرغم مما عرفته تلك الأوضاع من اقتصاد سلعي؟ لعدم تفوق الإنتاج السلعي وعدم سيادته بحيث يقوم بتصفية الأسواق المفتتة الضيقة لحساب سوق موحدة واسعة تكون بدورها أساساً لتطوير أكبر لفنون الإنتاج وتنظيماته، فإنه بتكوين هذه السوق الداخلية الموحدة الواسعة تتهيأ الظروف لقيام السوق القومية، فالسوق هي المدرسة الأولى التي تتعلم فيها البرجوازية الناشئة دروس الوطنية والقومية.
فلماذا لم يتفوق الإنتاج السلعي حتى الآن في العالم العربي؟ الواقع أن الوطن العربي قد سقط في غيبوبة حضارية كاملة في ظل الفتح العثماني الذي أحكم قبضته على العرب من بداية القرن السادس عشر. وفي نهاية الحكم العثماني، كانت الدعوة العربية هي في نهاية الأمر دعوة للاستقلال الذاتي الثقافي لم تلبث أن تحددت في بداية القرن العشرين بالوقوف في وجه كل من الاستبداد الشرقي والاستعمار الغربي. وعندئذ اختلطت الدعوة العربية لاستقلال كل قطر عربي على حدة، حتى لقد نشأت جامعة الدول العربية تسليما بهذا المبدأ المتخلف وهي أنها جامعة الأقطار مستقلة.
لقد كان الوطن العربي حتى سنوات قليلة مجتمعاً قبلياً أو شبه قبلي، لم تتحول قبائله بعد إلى شعوب تنتمي إلى أوطان قطرية أي لم تنجح بعد في الارتفاع إلى مستوى التوحيد القطري. وإذا كانت الأقطار العربية الآن قد كسبت استقلالها السياسي فيما عدا فلسطين، وإذا كانت قد طورت اقتصادها على أسس رأسمالية واضحة، فإنها مازالت مجتمعات رأسمالية مشوهة. بل إن تطورها الرأسمالي لم يصب في مجرى تطوير أسواقها الداخلية المفتتة بقدر ما ربطها أكثر من ذي قبل بالسوق الرأسمالية العالمية. ولذلك تخلفت عملية تكوين السوق القومية العربية حتى الآن، وتخلفت القضية القومية العربية بأسرها. ولم تعد قضية الهوية العربية مطروحة فقط من منطلق القومية بل أصحبت مطروحة أيضاً من منطلق الدين.
بعبارة أخرى، فإن البحث عن الهوية في الظاهرة القومية يفتح السبيل إلى الكشف عن العلاقة المباشرة وغير المباشرة فيما بين الهوية ومعها التراث من جانب وبين التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية العربية من جانب آخر.
التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية:
نقصد هنا بالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية النظام الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع المعين. ويتشكل هذا النظام من بنيانين أو هيكلين. أحدهما تحتي هو أسلوب الإنتاج بما ينطوي عليه من قوى منتجة وعلاقات إنتاج. والبنيان الآخر فوقي أو علوي وهو مجموعة العلاقات الاجتماعية الأخرى غير علاقات الإنتاج بالإضافة إلى الوعي الاجتماعي. ومعروف أن أسلوب الإنتاج هو الذي يكون الأساس المادي للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية. أسلوب الإنتاج هو البنيان التحتي الذي يشكل الهيكل العظمي لها. أما البنيان الفوقي فإنه يرسم لها صورتها الخارجية القانونية والسياسية والفكرية. وبالإضافة إلى هيكلي التشكيلة الأساسيين، فإنها تحوي كثيراً من الظواهر الاجتماعية الأخرى مثل صلات الناس الجماعية التاريخية كالعشيرة والقبيلة والأسرة والشعب وحتى الأمة، ومثل العلوم الاجتماعية وبعض التنظيمات الاجتماعية العلمية والرياضية واللغة، ومثل العلاقات بين الشعوب – إذ يجمعها جميعاً أنها لا ترتبط بالبنيان التحتي ولا البنيان الفوقي لتشكيلة واحدة.
التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية هي تعبير عن فترة كبيرة في تاريخ المجتمع تتميز بمجموعة محددة نوعياً من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وكذلك من الحياة الروحية، أي أنها المجتمع ككل في مرحلة معينة من التطور التاريخي. هي مجموع العلاقات الإنتاجية وتكسو الهيكل العظمي باللحم والدم والأعصاب.
يقول "إنجلز" في "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" إن للمهارة في إنتاج وسائل المعيشة أهمية حاسمة بالنسبة لدرجة تفوق وسيطرة البشر على الطبيعة. فمن بين جميع الكائنات الحية كان الإنسان وحده هو الذي أفلح في إحراز سيطرة غير محدودة تقريباً على إنتاج المواد الغذائية. بل إن جميع العهود الكبرى في التقدم البشري تصادف إلى هذا الحد أو ذاك عهود توسع في مصادر المعيشة. وبمثل هذا النشاط المشترك للناس في تحويل الطبيعة بدأ الإنتاج. ومن خلال العمل وباستخدام الثروة التي تخلق بواسطة العمل، دخل الناس في علاقات فيما بينهم. ومن مجموع هذه العلاقات خلقت الوحدة العضوية المحددة فيما بين الناس، وظهر المجتمع، وأهم جانب في العلاقات الإنتاجية هو العلاقات الاقتصادية لمختلف الطبقات. والعنصر الجوهري في العلاقات الإنتاجية هو علاقات العاملين في جميع فروع الإنتاج طبقاً لتقسيم العمل الاجتماعي. ومع ظهور وتطور الملكية الخاصة والاقتصاد السلعي واستغلال العمل المأجور ظهرت حاجة متنامية لفهم العلاقات الاقتصادية المتبادلة.وتشكل هذه العلاقات وحدة واحدة، متطورة ذاتياً وهي تتكون من جوانب عديدة مع تنوع واسع في الأشكال الانتقالية والوسطية.
والتفاعل بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة يتخذ في البداية صورة التطابق إلى أن تصبح علاقات الإنتاج قيوداً على نمو القوى المنتجة. إذ إنهما ينموان بشكل غير متساو. ومع ذلك، ففي أسلوب الإنتاج توجد الوحدة الجدلية بين العلاقات الفنية والتنظيمية للإنتاج كما تنعكس في صورة القوى المنتجة وبين العلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع كما تنعكس في صورة علاقات الإنتاج.
وإذا كانت القوى المنتجة هي الجانب الأكثر ثورية في أسلوب الإنتاج، فإن الثورة في قوى الإنتاج أعني وسائل الإنتاج، كما أن الانقلاب الصناعي الذي قد يكون بطيئاً وقد يكون متسارع الخطى، وكذلك الاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية، كلها تبعث إلى الوجود بقوى اجتماعية جديدة تأخذ على عاتقها مهمة إعادة تشكيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فالثورة إذ تحرر المجتمع من الأبنية والهياكل القديمة التي كانت تكبله فإنها تخلق في نفس الوقت الأشكال الاجتماعية الجديدة التي تناسبها وتساعد إذ تحطم أشكال الحياة البالية على خلق أبنية وهياكل جديدة ملائمة. وهكذا تتحدد الهياكل العلوية كما يقال بالظروف المادية للوجود البشري.

الأهمية الخاصـة للبنيـان الفوقـي:
ولا يقوم البنيان الفوقي بشكل تحكمي، بل يتمشى مع الأساس الاقتصادي للمجتمع أعني مع أسلوب الإنتاج، مع القوى المنتجة ومع علاقات الإنتاج وبتشكل البنيان الفوقي كما أسلفنا من مجموع العلاقات الاجتماعية عبر علاقات الإنتاج بالإضافة إلى الوعي الاجتماعي. ولذلك يتشكل من مجموعة النظم والمؤسسات والمباديء التي تعمل في كل من مجالات القانون والسياسة والفكر.
ومع أن البنيان الفوقي يظل محكوماً بالأساس الاقتصادي للمجتمع، إلا أن دور البشر في هذا المجال هو أكبر ما يكون. إذ يتوقف الأمر هنا على النشاط الواعي للناس، لا سيما أولئك الذين يتصدون لقيادة الطبقات والفئات الاجتماعية. وهكذا نتبين العلاقة الجدلية بين كل من العامل الذاتي والعامل الموضوعي. فالعامل الموضوعي هو قبل كل شيء إنتاج مادي وعلاقات إنتاجية يحددها مستوى تطور القوى المنتجة الذي تم التوصل إليه من قبل – تلك القوى التي تتلقاها في كل مرة أجيال جديدة من الناس. أما العامل الذاتي فهو الناس أنفسهم وإرادتهم في التقدم وتنظيم هذه الإرادة، في صورة النشاط التحويلي العملي للجماهير في أحضان الطبيعة وداخل المجتمع.
وبينما يتخذ دور البشر في البنيان الفوقي أهمية كبرى، فإن هذا البنيان الفوقي يتميز بطابع محافظ بالنسبة للبنيان القانوني والسياسي والفكري للمجتمع، إذ أنه ينطلق من مهمة حماية علاقات ملكية وسائل الإنتاج، أي المحافظة على النظام الاجتماعي الاقتصادي استناداً ليس فقط على قانون توافق علاقات الإنتاج مع القوى المنتجة وقانون توافق البنيان الفوقي مع علاقات الإنتاج وإنما استناداً أيضاً على واقع البطء في التغير في البنيان الفوقي. وإذ تعبر القيم الاجتماعية عن المصالح الأساسية للفئات والطبقات الاجتماعية، فإن المحافظة على النظام الاجتماعي الاقتصادي تتخذ عندئذ صورة الدفاع عن القيم السائدة التي تحدد المثل الأعلى الاجتماعي.
وهنا ينبغي التمييز داخل كل مجتمع بين العناصر التي انتقلت إلى البنيان الفوقي من المجتمعات التي سبقته وبين العناصر التي أوجدها المجتمع الجديد هو نفسه. فهذه الأخيرة وحدها هي نتيجة أوضاعه الاقتصادية. أما العناصر الأولى فهي الجذور التاريخية التي يتشكل البنيان العلوي على أساسها. ومن هنا فإن كثيراً من الأشكال الروحية التي تنتقل إلى المجتمع الجديد ليست نتيجة لحتمية التعبير العلوي عن الاقتصاد الجديد ولا جزءاً منه.
إن البنيان العلوي الآخذ في الظهور قد يأخذ من الماضي علاقات وأفكارا اجتماعية لم تعد صالحة في وقت مضى، لكنها تسترد صلاحيتها في ظل التكوين الاجتماعي الجديد. فالقانون المدني الروماني مثلاً كان يلائم إنتاجا سلعياً بدائياً في ظل روما القديمة. ثم صار باليا في ظل الإقطاع ثم استعاد قوته في ظل الرأسمالية. وكذلك أيضاً يتفاوت البنيان العلوي من بلد إلى آخر طبقاً للجذور التاريخية التي برز فيها. فهناك عناصر كثيرة حالية موروثة من أبنية علوية لتكوينات اجتماعية اقتصادية سابقة. فالمسيحية قامت كجزء من البنيان العلوي للنظام الاجتماعي القديم، نظام العبودية في ظروف انحلاله، ثم تحولت فأصبحت هي البنيان العلوي للنظام الإقطاعي الأوربي، وعاشت فترة الرأسمالية، وهي تواصل البقاء في ظل الاشتراكية. وهكذا فإنه نتيجة لدور الماضي في عملية تكوين البنيان العلوي الجديد، فإن نفس أسلوب الإنتاج قد يكون مرتبطاً بأبنية علوية مختلفة اختلافاً كبيراً من بلد إلى آخر.
ومن هنا استطاع مؤسسو الماركسية أن يقولوا إن الماركسية قد استوعبت وأعادت صياغة كل ما له قيمة في تطور الفكر البشري من فلسفة وعلوم وسياسة كما أكدوا لنا أن الاشتراكية لن تبني من غير العناصر التي تركتها الرأسمالية تراثاً لنا.
لكل ذلك تصبح العلاقات الاجتماعية ويصبح الوعي الاجتماعي من الأمور البالغة التعقيد في فترات الانتقال فيما بين النظم الاجتماعية. وفي فترات الأزمة الثورية، كثيراً ما يستحضر الأحياء أرواح الموتى على سبيل العون الإضافي لهم.
شمولية الإنتاج الاجتماعي:
من هنا تؤكد النظريات الحديثة على شمولية الإنتاج الاجتماعي. فلقد دلت العمليات الاجتماعية الحقيقية على عدم كفاية النظرة التي ترجع ذلك الإنتاج الاجتماعي إلى إنتاج السلع فحسب، وذلك استناداً إلى وحدة الحياة المادية والذهنية والثقافية للناس. وهي وحدة تقوم على نشاط الناس من أجل إنتاج الظروف المادية والاجتماعية والفكرية لوجودهم.
ومن هنا شمولية الإنتاج الاجتماعي. فإنه إلى جانب الإنتاج المادي الذي يظل المجرى المتعدد الأشكال للحياة الاجتماعية، يوجد أيضاً ما يمكن أن نسميه إنتاج الوعي وما يمكن أن نسميه إنتاج البشر كأفراد اجتماعيين وما يمكن أن نسميه إنتاج شكل التخاطب أو التواصل نفسه فيما بينهم. باختصار، فإن الإنسان ينظر إليه بوصفه كائناً اجتماعياً، كائناً ثقافياً، كائناً شاملاً. وهو الفاعل في كل العلاقات الاجتماعية.
وفي إطار الأفكار المطروحة عن الإنتاج الاجتماعي يمكن أن يطرح السؤال حول المعنى الإنساني والاجتماعي لأي شكل من أشكال النشاط المادي أو الذهني أو الثقافي. بعبارة أخرى، ينبغي إعادة تقييم المعرفة والقيم الثقافية كعنصر لا غنى عنه في هيكل وسائل الإنتاج. إن تفسير الثورة العامة بوصفها مجموع المنافع المادية وقصر الإنتاج المادي على خلق القيم المادية من شأنه ليس فقط أن يفقر النظرية المادية للمجتمع وإنما يمكن أن يؤدي أيضاً إلى نقص في كفاءة الإنتاج الاجتماعي حتى في مجال استخدام الموارد المادية للمجتمع نفسها.
هكذا إذن يتسع الإنتاج الاجتماعي ليشمل كل أشكال النشاط الإنساني التي تخلق صلات بين الناس، وهكذا يتضح الطابع المتكامل للإنتاج الاجتماعي، فهنا يتأكد النظر إلى المجتمع كوحدة واحدة. فإذا نظرنا إلى الإنتاج الاجتماعي بوصفه أسلوباً للنشاط اليومي لا يتم في مجراه تطوير وسائل الإنتاج فقط وإنما يتم أيضا إنتاج علاقات اجتماعية، فإن نقطة البدء في مناقشة وحدة الإنتاج الاجتماعي يجب أن تصبح هي طبيعته الاجتماعية. ويصبح الهيكل الاجتماعي هو الوسيلة الرئيسية لتنظيم الإنتاج الاجتماعي كله.
إن ذلك يفسر ما كان يقال من أن الإنتاج الرأسمالي لا ينتج سلعاً فقط، بل ينتج ويعيد إنتاج العلاقة الرأسمالية على كل المستويات. كما أن فيه الرد على أولئك الذين يحاولون إحلال التفسير الحضاري للمجتمع محل التفسير المادي، تارة بادعاء أن انهيار الرأسمالية معناه انهيار الحضارة وانحطاط الثقافة، وتارة أخرى بالقول بأن الثورة العلمية والتكنولوجية سوف تفعل مفعولها وتعيد بناء المجتمع بصورة تلقائية حيث لن تبقى الثورات الاجتماعية أمراً محتماً لا مفر منه.
إن شمولية الإنتاج الاجتماعي ووحدته من إنتاج مادي وإنتاج غير مادي، والتأكيد على دور الإنسان الفرد وإعطاء العامل الذاتي دوراً كبيراً، كل ذلك يعتبر محاولة لإبراز مجال خاص من الوعي الاجتماعي، من الحياة الروحية للمجتمع. وهذا المجال الخاص من الوعي الاجتماعي يشتمل على مجمل نظرات وأفكار الطبقات المختلفة عن هياكل المجتمع الاجتماعية، عن الطبقات الأخرى، عن الصراع الطبقي، عن الدولة والثورة – عن قضايا المجتمع الكبرى والصغرى. ومع أن للسياسة في نهاية الأمر منطقها الموضوعي المستقل عن مخططات الأفراد، فإن من الضروري تحويل الناس في الحقل السياسي من أناس سذج يخدعهم الآخرون ويخدعون أنفسهم إلى أناس فاعلين ساعين لتحديد آفاق تطور المجتمع. ففي مجرى تقدم المجتمع فإن النشاط غير الواعي للناس الذين يصنعون التاريخ يتحول إلى نشاط واع. وليس معنى ذلك تحول الموضوعي إلى ذاتي ولا استبدال الموضوعي وإحلال الذاتي محله.
إن إنتاج الوعي معناه القدرة على تغيير الوعي البشري، والوعي هو خاصية للمادة المنظمة بشكل خاص وثمرة لها، ولا وجود له من دون المادة، وهناك أشكال متباينة نوعاً للمادة. والحياة الاجتماعية نفسها لا تعدو أن تكون شكلا خاصاً من أشكال حركة المادة ودراسة الوعي بوصفه نتيجة لنشاط المخ – وتعني العقل قادر على تزويدنا بالفكر والاعتراف بالطابع الموضوعي للقوانين العلمية لا يعني إطلاقاً عجز الإنسان أمام قوى الطبيعة والمجتمع، بل أن العكس هو الصحيح فالمطلوب هو تلجيم القوى العفوية في الطبيعة والمجتمع والسيطرة عليها.
ومن هنا تتعدد أشكال الوعي الاجتماعي، تتعدد أشكال الإنتاج غير المادي للمجتمع، تتعدد أشكال المعرفة ومنها الثقافة.

الثـقافة كإنتـاج اجتماعي:
الثقافة هي القدر من المعرفة الذي يتسلح به الإنسان في مواجهة كل من الطبيعة والمجتمع من أجل تطوير قواه المنتجة وعلاقاته الإنتاجية وتطوير وعيه هو نفسه. ومن ثم فإنها تضم مجموعة القيم المادية والروحية التي يفرزها الإنسان في مجتمع محدد. ويتغير محتواها من عصر إلى عصر، بحيث تشير إلى المستوى الثقافي للمجتمع المعين والعصر المعين. وهي تضم مجموعة المعرفة العملية والمفاهيم والأعمال الأدبية والفنية والقانونية ومبادئ الأخلاق والفلسفة، وكذلك مجموع وسائل خلق هذه القيم واستيعابها وتداولها ونشرها بين الناس. فوظيفتها هي توجيه المجتمع عن طريق تشكيل وترسيخ نظام معين للقيم.
إنها تمثل المستوى المعين أو الدرجة المحددة للنشاط البشري والتطور البشري من أجل إعادة إنتاج الإنسان نفسه بوصفه كائناً اجتماعياً صانعاً لحركة المجتمع. ولهذا فالثقافة ظاهرة حركية متعددة الوجوه مما يفسر لنا لماذا توصف بطرق مختلفة. وأي محاولة لمتابعة المعركة حول جوهر الثقافة في عالم الأشياء (الثقافة المادية) فقط أو في مجال الخبرة الاجتماعية للبشرية (المستمدة من أساليب نشاط الإنسان) فقط أو في مجال الأشكال المحددة تاريخياً والتي تتمثل فيها تلك الخبرة الاجتماعية والتي انتقلت لنا من جيل إلى جيل، هي محاولة وحيدة الجانب عقيمة. وإنما الثقافة تشمل الإنسان النشط بكل عالمه الذاتي المتعدد الجوانب. وبدون الوحدة النوعية الحية بين الموضوعي والذاتي، كما تتمثل في الإنسان واحتياجاته وقيمه ومهاراته ونشاطه الخلاق، فإن الثقافة تصبح عندئذ مخزنا لأشياء هامدة.
وبالطبع، كما أوضح "ماركس" و "إنجلز" في كتابهما (الأيديولوجية الألمانية) فإن أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار السائدة. والطبقة التي تشكل القوى المادية السائدة في المجتمع هي في الوقت نفسه القوى الفكرية السائدة في هذا المجتمع. والطبقة التي تتحكم في وسائل الإنتاج المادي تسيطر في الوقت ذاته على وسائل الإنتاج الفكري بحيث إن أفكار الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الفكري تكون خاضعة لها. ولا تعبر الأفكار السائدة في النهاية إلا عن العلاقات المادية السائدة وهي العلاقات التي يتم إدراكها كأفكار وبالتالي تعبر عن العلاقات التي تجعل من إحدى الطبقات الطبقة الحاكمة. ومعنى ذلك التعبير عن أفكار سيادتها وسيطرتها. وإنما ينبغي أن نشير أيضاً إلى ازدواج الثقافة في كل مجتمع، فإلى جانب ثقافة الحكام توجد أيضاً ثقافة المحكومين. وفي كل مجتمع فإن الصراع بين الطبقة السائدة وبين الطبقة المرشحة للسيادة مستقبلاً يتحول إلى صراع في مجال الثقافة. وعندئذ فإن الطبقة المرشحة للسيادة مستقبلاً تدخل في المجتمع أفكارها ووجهات نظرها وتقييمها للنظام السياسي الذي تزمع أن تدمره. وكذلك الأمر بالنسبة للثقافة الروحية السائدة في المجتمع.
وتبقى الثقافة السائدة نظاماً محدداً من القيم وقواعد السلوك المقبول اجتماعياً ومعايير ونماذج هذا السلوك ومؤسسات ذلك كله. لكنها ليست نظاماً مغلقاً لقيم معينة، وإنما هي محصلة متطورة من المنجزات المادية والروحية. فالثقافة محصلة تاريخية لما يمكن تسميته القلق الخلاق أي الرغبة في التغلب على العقبات وتجاوز حدود الوجود الراهنة وخلق أشكال جديدة للحياة. وكل ذلك يوجد في الإنسان نفسه بوصفه صانعاً وحارساً وناقلاً للثقافة. الإنسان هنا في علاقته بالمجتمع الصاخب بالحياة، وفي مواجهته للطبيعة اللانهائية، وفي تعبيره عن الثراء الفذ الذي تتميز به الطبيعة الإنسانية ذاتها.
إن الفشل في رؤية أن العالم الحي للثقافة لا يعني فقط أشكالاً اجتماعية نمطية وإنما يعني أيضاً تطوير هذه الأشكال لا بد أن يجعل من الثقافة مجرد مخزن لمعايير محفوظة في ذاكرة البشرية يعاد إنتاجها بواسطة الأجيال المتعاقبة بمساعدة آليات محفوظة. فالإنسان بوصفه هدفاً وغاية في ذاته للتقدم الاجتماعي يفترض ليس فقط تشكيل الجوهر الإنساني في كل فرد من خلال تمثل تجارب الأجيال السابقة كما تتمثل في الأشكال الموروثة من الثقافة وإنما يفترض أيضاً التطوير الخلاق لأشكال جديدة من الوجود بل يفترض تطوير الإنسان نفسه.
لا شك أن تمثل واستيعاب الأشكال القائمة للثقافة هو مجرد شرط أول لتقدم الإنسان، مع التسليم بأن إعادة إنتاج الإمكانيات الثقافية المتراكمة تاريخياً هي عملية حركية ومعقدة غاية التعقيد. لكن مصلحة الإنسان توجد في التطوير الشامل لنفسه. فهدف البشرية كان ومازال هو التطوير الشامل للإنسان. وإذ يخلق الإنسان عالم الأشياء، أي الثروة المادية والثقافة للمجتمع ويخلق علاقات الإنتاج، فإن الإنسان يشكل ويعيد تشكيل نفسه. إنه يصقل مهاراته وقدراته، ويوسع من مجالات علاقاته بغيره من الناس، ويصنع احتياجات جديدة وكذلك وسائل إشباعها.
وهكذا تمثل الثقافة وحدة جدلية بين النمط والخلق، بين التقليد والتجديد. فالثقافة لا تخلق بواسطة الناس فقط، وإنما هي تخلق من أجلهم أيضاً. وهذه الثقافة هي عندئذ معيار إنسانية المجتمع.

التـراث جزء لا يتجزأ من الثقـافة:
هذه الثقافة توجد وتعمل وتتطور إذن في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية نوعية معينة، وفي مناخ سياسي وفكري معين، بحيث إن العلاقة بين الثقافة من جانب والظروف الاقتصادية والاجتماعية والمناخ السياسي والفكري من جانب آخر ليست بالعلاقة البسيطة. وبين الجانبين تناقضات حافلة. فتطور الثقافة يتحدد بالظروف المادية للحياة الاجتماعية. غير أن التطور الاقتصادي مثلاً، أي نمو الثروة المادية للمجتمع وزيادة أوقات الفراغ وغيرها من النتائج، يمارس تأثيراً متناقضا على الحياة الثقافية. ولذلك فإن محتوى ومستوى الثقافة لا يتحددان بالنمو الكمي للإنتاج وإنما التأثير الحاسم هنا هو للشكل الاجتماعي للإنتاج المادي ولطابع الهيكل الاجتماعي الذي تقوم عليه الثقافة. فليس المطلوب هو مجرد تكدس أو تراكم للقيم الثقافية، وإنما العملية تنطوي على التحرير الروحي للإنسان من كافة القيود الاجتماعية التي تحد من تطوره وتحط من قدراته على الخلق.
نقول هذا لنستطرد بالتالي إلى حقيقة استمرارية التطور الثقافي للمجتمعات، وكان "لينين" وهو يطرح ضرورة الثورة الثقافية قد عالج القديم والحديث في مجال الثقافة وذلك بأن طرح مهمة الجمع بين الثورة الاشتراكية من جانب وبين الثقافة البرجوازية والعلم البرجوازي والتكنولوجيا البرجوازية من جانب آخر. لكن المشكلة تطرح في بلادنا العربية مثلما تطرح في البلدان النامية على نحو آخر، فهذه البلدان تناضل من أجل تحرير أنفسها من الثقافة الغربية المفروضة عليها بحكم التبعية الخارجية، وفي نفس الوقت فإن تحديث تلك البلدان ينطوي على الاحتفاظ بقدر ما من هذه التبعية الخارجية. ومن هنا فإنها تسعى لدخول القرن الواحد والعشرين بزاد أساسي اجتماعي ثقافي من صنعها هي نفسها، بوصفها قوى مستقلة مشاركة في صنع التاريخ وليس بوصفها موضوعاً للنفوذ الأجنبي.
ولا شك كما قلنا من قبل أن من حق البلدان العربية أن تفضح وأن ترفض التوسع الثقافي للبلدان الغربية وأن تصحو في المقابل على كل ما هو أصيل في قيمها الثقافية هي نفسها. ومن هنا يأتي البحث في التراث الثقافي العربي، في محاولة لإبراز هذا التراث ذي النزعة الإنسانية والتأكيد على هذه النزعة في مواجهة لا إنسانية الغرب الاستعماري. لكن هذه الدعوة المشروعة تماماً تتحول عادة في التطبيق ونتيجة لعموميتها وعدم تحديدها إلى دعوة بنقصها التمييز – التمييز بين ثقافة وثقافة.
إن إنجاز الثورة العربية لا يمكن بحال أن يتناقض مع الحفاظ على التراث. بل إن الثورة الاشتراكية، وهي مهمة من مهام الأجيال المقبلة، لا يمكن أن تقوم في فراغ، بل هي لا تنفي أبداً التمسك بالتراث والقيم الروحية. فالثورة إنما ترمي فقط إلى تحطيم علاقات الإنتاج وعناصر البنيان الفوقي القائمة التي تكبح التطور الاجتماعي وتعيقه، مع الحفاظ على كل ما يلائم العملية الثورية وكل ما هو إيجابي مما ورثناه عن السلف للأجيال القادمة.
المبدأ إذن هو الحفاظ على التراث وعدم رفض الإنجازات القيمة للعصور السالفة، بل تمثلها وإعادة صياغة كل ما له قيمة مما أنجبته الثقافة طوال آلاف السنين. فثقافة اليوم هي محصلة للخلق الجديد وللتراث المجدد. وفي كل ثقافة طبقات من التراث المستمدة من عصور مضت فيها عناصر تمثل التراث المتجدد وعناصر أخرى بالية أهملها الزمن. والمشكلة هنا هي مشكلة عملية. المشكلة هي تحديد العناصر التقدمية والعناصر التراجعية في كل ثقافة. ومن ثم فإن التراث يعتبر استمراراً للتطور الحضاري. وبهذه الصفة فهو ضروري. التراث بهذا المعنى هو ظاهرة استمرار التطور الحضاري. بعبارة أخرى، فإن علينا أن نميز بين نوعين من التراث: الأول هو النوع الذي يعبر عن سلطان العجز والركود والروتين، عن سطوة القديم على عقول وسلوك الناس، عن قوة العادات والتقاليد، وهو إن لم يتفق مع مسيرة تطور المجتمع نفسه، فلا حاجة إليه. والنوع الثاني ويمثل استمرار التطور الحضاري للمجتمع، أي صلاحية المعرفة المتراكمة في الماضي لخدمة الحاضر والمستقبل، وهذا هو التراث حقا. إنه يقوم ليس فقط على قوة العادات والتقاليد، وإنما يستند إلى استمرار الحاجة إليه، ويجوس في المجتمع مثلما يجوس المياه الباطنية فتغذي جذور النبات فيزداد نماء. هو بالدقة تراث متصل، أو ثقافة ممتدة، أو حضارة مستمرة ... ومن ثم يتكفل مثل هذا التراث بنقل خبرة الماضي إلى المستقبل. وتتمثل مهمتنا بالدقة في هضم وتمثل النتائج الإيجابية المتراكمة بفضل استمرار الحضارة الروحية للبشرية.
من هنا، رفض "لينين" فكرة الحضارة البروليتارية ودعا البروليتاريا إلى الحفاظ على كنوز التراث التي خلفتها المجتمعات الاستغلالية. فالقطيعة الكاملة مع التراث مرفوضة. وعلى الحضارة البروليتارية – إن صح هذا التعبير - أن تكون التطور المنطقي لخزانة المعرفة التي كدستها البشرية تحت نير كل من الرأسمالي والإقطاعي ومالك العبيد.
وعندما يتم الحفاظ على مثل التراث، فإنه يعاد إنتاجه. ولا يتم إعادة الإنتاج بطريقة ميكانيكية، أي بالتكرار وإنما بالتطوير. فالتراث واحد كواقع تاريخي لا يتغير، لكن الذي يتغير هو المجتمع. وفي داخل هذا المجتمع فإن المعرفة بالتراث أي فهمه وتفسيره هي المسألة الصعبة، وهي عملية تتغير من فرد أو جماعة إلى فرد أو جماعة أخرى. لكنها ينبغي أن تحكم في النهاية بالقواعد الموضوعية لحركة المجتمع.
إن هذا التراث، إن التاريخ، إن الماضي حاضر دائماً. والرجوع إليه ضروري لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.

المأزق العربي الراهن:
طرحت قضية القومية العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر. طرحها نضال الشعوب العربية تحت شتى الأسماء ضد الاستبداد الهمجي العثماني وضد التوسع الاستعماري الأوروبي وضد الغزوة الصهيونية الاستيطانية. ومع نمو عملية تكوين الأمة العربية صارت القومية العربية منذ منتصف القرن الماضي حقيقة موضوعية أخذت تترسخ معالمها وتنمو مقوماتها من خلال النضال العربي طوال نصف قرن من أجل التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والتوحيد القومي.

صعـود ثم هبـوط الحركة الوطنية العربية:
وبقدر ما كان قيام إسرائيل في الأرض العربية ضربة حلت بفلسطين بقدر ما أحس العرب بأنها نزلت بهم جميعاً. وأخذت القضية الفلسطينية منذ ذلك التاريخ تلعب دوراً دافعاً لتجميع العرب. فلقد كانت تشير إلى الخطر الداهم الذي صار يهددهم جميعاً. وتبلورت قضية القومية العربية في صورة حركة عربية للتحرر الوطني. بعبارة أخرى، فلقد صارت القضية العربية تمثل صراعاً مصيرياً لا يقبل المصالحة بين طرفيه. صارت تتمثل في التناقض الرئيسي بين حركة التحرر الوطني العربي وبين الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومعها قاعدتها إسرائيل الصهيونية بالإضافة إلى من لف لفهم ولاذ بهم من العرب. ولأنه تناقض رئيسي فإنه لم يعد لينتهي أو يزول إلا بزوال واحد من طرفيه. وكان من الطبيعي أن يكون المرشح للزوال هو الطرف الإمبريالي الصهيوني الرجعي لا حركة التحرر الوطني العربية.
فلقد تعاظمت قوة هذه الحركة في نهاية الحرب العالمية الثانية وأفلحت في تحقيق الاستقلال السياسي لكل الشعوب العربية عدا الشعب الفلسطيني. وقامت دول عربية مستقلة كثيرة عدا الدولة الفلسطينية المستقلة. كما تعاظمت مكانة حركة التحرر الوطني العربية عالمياً، فقد أسهمت بدور كبير في تصفية نظم الحكم الاستعماري في إفريقيا وآسيا وفي تعميق المحتوى الاجتماعي لحركة التحرر الوطني في العالم. وكان لمصر العربية في ظل ثورة يوليو وبقيادة "جمال عبد الناصر" دور بارز في تحول حركة التحرر الوطني العربية إلى قوة عالمية فعالة في تقليص السيطرة الامبريالية ودك قواعدها في بقاع كثيرة من العالم المعاصر.
لكن الإمبريالية لم تكن في يوم من الأيام نمرا من ورق. ولقد ظلت تتربص بحركة التحرر الوطني العربية حتى سنحت الفرصة وأنزلت إسرائيل بها هزيمة 1967 التي كان من شأنها في المقام الأول الإطاحة بدور مصر القيادي في حركة القومية العربية. بعدها أعادت الإمبريالية العالمية تقييم دور إسرائيل، وصعدتها إلى مستوى الشريك الصغير لها في المنطقة، وتعاظم منذئذ دورها في الإستراتيجية الشاملة للإمبريالية العالمية، بل وتطلعت لإقامة إسرائيل الكبرى.
فقد بدأت هجمة جديدة شنتها الإمبريالية العالمية تحت زعامة أمريكا وبالمشاركة الفعالة من جانب إسرائيل والدوائر الصهيونية في العالم – وبالاسترخاء أو بالتراخي من جانب الرجعية العربية. وتتابعت موجات الهجوم تلغي إنجازات حرب أكتوبر وتعيد المنطقة العربية إلى أوضاع الهزيمة بعد الحرب 1967.
كان الهدف (الامبريالي الصهيوني) هو دحر الحركة الوطنية العربية، حركة التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والتوحيد القومي. وكانت الوسائل متعددة. منها وسائل اقتصادية هي استعادة السيطرة على سوق النفط العربية واستنزاف الفائض الاقتصادي الذي يحققه العرب وبخاصة من خلال إعادة تدوير عوائد النفط وتجارة السلاح وضمان اندماج الاقتصاد العربي أكثر وأكثر في الاقتصاد الرأسمالي العالمي بحيث يصبح قلعة من قلاعه الضاربة. ومنها وسائل سياسية هي إذكاء الصراعات العرقية والدينية والطائفية وتمهيد الظروف لانشغال كل بلد عربي بنفسه وتخليه مختارا أو مضطراً عن الحركة القومية العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية ومن ثم تأمين وجود إسرائيل وتوسعها في المنطقة العربية وإملاء أسلوب المفاوضات المنفردة بين العرب وإسرائيل. وفي اتفاقات كامب ديفيد وصلت الهجمة إلى ذروتها. وبمعاهدة الصلح دخلت أكبر وأقوى دولة عربية وهي مصر بوصفها طرفاً في المخطط الأمريكي الصهيوني لتصفية حركة التحرر الوطني العربية.
وعندما نرجع بنظرتنا إلى الوراء لتقييم هذه المرحلة المظلمة من التاريخ، فإننا نجد أن ما يسمى الصراع العربي الإسرائيلي لم يكن أبداً صراعاً بين العرب وإسرائيل. وإنما كان دائماً ولا يزال صراعاً بين القومية العربية من جانب والإمبريالية العالمية من جانب آخر واستخدمت فيه إسرائيل من البداية إلى النهاية. في هذا الصراع المصيري، في هذا التناقض الرئيسي، استخدم الاستعمار أسلوباً أساسياً لتصفية القومية العربية هو أسلوب طمس أعني محاولة طمس التناقض الرئيسي وتغليب التناقضات الثانوية على هذا التناقض الرئيسي. وتبعاً لنجاحه في ذلك الأسلوب أو فشله كان نجاحه أو فشله بهذا القدر أو ذلك في تصفية، أعني محاولة تصفية القومية العربية. وساعد على نجاح الاستعمار حتى الآن ما فعلته حقبة النفط بالعرب، فلماذا فعلت بنا على وجه التحديد؟

إعادة هيكلة الاقتصاد العربي في الحقبة النفطية:
أ‌- طمس التناقض الرئيسي:
لقد أصبحنا نحن العرب أمة كبرى؛ ولقد بلغ تعدانا نحو 300 مليون من البشر يسكن أكثر من 60% منهم في الحضر، وهي نسبة عالية تحققت في حقبة النفط. ولقد بلغت نسبة التمدن أو الانتقال إلى المدن في الأقطار النفطية درجة عالية جداً، فهي تتراوح بين 73% في السعودية و 93% في الكويت. لكن الظاهرة النفطية أعادت في الواقع هيكلة الاقتصاد العربي كله بأقطاره النفطية وأقطاره غير النفطية. ومن ثم دفعت إلى تنشيط التمايز الاجتماعي داخل كل قطر عربي فضلاً عن تأجيج التمايز القطري فيما بين الأقطار العربية. ومع أن حقبة النفط قد انتهت بالفعل فإن آثارها مستمرة، فلقد أُعيدت هيكلة الاقتصاد العربي تماماً.
لقد بدأت الحقبة النفطية بقدرة الأقطار النفطية على الانفراد بتسعير النفط في السوق الدولية. ولقد انتهت بإعادة إخضاع هذه السوق النفطية لإرادة الدول الصناعية الرأسمالية. ومنذ عام 1982 دخل العرب عصر ما بعد الحقبة النفطية. عندما حلت حقبة النفط تمثلت مشكلة العرب الجوهرية في القدرة على تحويل هذه الحقبة النادرة إلى حقبة ممتدة للتنمية الشاملة المتوازية الدافعة إلى المزيد من التكامل العربي والمزيد من القوة للقومية العربية.
لكن الإمبريالية العالمية طبقت تكتيكها التاريخي في مواجهة العرب: طمس التناقض الرئيسي بينها وبينهم وتغلبت التناقضات الثانوية فيما بينهم، طبقته في مجال الاقتصاد مثلما طبقته في المجال السياسي، وبدأت بطمس معالم التناقض الرئيسي.
فلقد شجعت الدول العربية النفطية على إتباع نمط للتنمية الاقتصادية سمى بنمط التنمية الانفجارية، فقد اعتمد على بناء وحدات صناعية ضخمة تعتمد اعتماداً شبه كلي على الدول الصناعية الرأسمالية. واتخذت لنفسها سياسة التصنيع بهدف التصدير... التصدير لمن؟ للدول الصناعية الرأسمالية نفسها. ومن ثم ركزت على صناعات النفط، فازدادت اعتماداً على النفط عما كانت فيما قبل الحقبة النفطية ومن ثم اتسعت مساحة الاندماج الرأسي المطرد مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي على حساب التعاون والتكامل الأفقي من الأقطار العربية، حتى لقد غدا الاقتصاد العربي من أكثر الاقتصادات النامية اعتماداً على أو قل تبعية للاقتصاد الرأسمالي العالمي.
اندمج الاقتصاد العربي في ظل الحقبة النفطية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي اندماجاً تاماً، صار جزءاً منه. فكانت الدول العربية على مدار سبع سنوات من عام 1974 إلى عام1981 تودع كل يوم نصف مليار دولار في المتوسط في حساباتها لدى بنوك الدول الصناعية الرأسمالية. واستمرت حركة هجرة الأموال العربية إلى أسواق المال العالمية طيعة مختارة تحت شتى الصور والأسماء. فتمت إعادة تدوير عوائد النفط بحيث عاد جل ما حصل عليه العرب منها إلى أحضان من اشتروه. فجمعواً بين النفط وعوائد النفط.
وعلى الرغم من نهاية حقبة النفط، فلقد ظلت الأموال العربية تتسلل إلى الأسواق المالية العالمية بكل الطرق وحتى بطريق التهريب.
ومع المال والتجارة كانت عملية الاندماج في الإنتاج العالمي أبعد مدى وأكثر عمقاً. ففي إطار سياسة التصنيع من أجل التصدير في عصر تجري فيه عملية إعادة توزيع الصناعة عبر العالم كله، ازداد ارتباط عملية التنمية الصناعية بدورة الإنتاج والتبادل كما تجري في السوق الرأسمالية العالمية. انعدمت النظرة القومية في بناء الصناعة الجديدة، واتجهت العناية إلى ربط الصناعة العربية بالصناعة المتقدمة في المراكز الصناعية الرئيسية في العالم الرأسمالي. ومن ثم غدا الاقتصاد العربي شديد الحساسية لتقلبات الاقتصاد الرأسمالي العالمي. فلما حلت بهذا الاقتصاد الأخير أزمته المركبة أنزلت أوخم العواقب بالاقتصاد العربي.
إعادة هيكلية الاقتصاد العربي في الحقبة النفطية:
لا جديد في القول بأن الأقطار العربية تتفاوت فيما بينها من حيث توزيع وكفاءة القوى الإنتاجية البشرية والمادية. لكن الجديد هو أنه كان من شأن الحقبة النفطية التأكيد على طابع التفاوت وتعميقه فيما بين الأقطار العربية. فلم تعد تتفاوت من حيث القوى الإنتاجية البشرية والمادية فقط، إنما صارت تتفاوت أيضاً وبشدة في الموارد المالية بل وفي مستوى الدخل أضعافاً مضاعفة، حتى لقد انقسمت في الواقع إلى بلدان برجوازية وبلدان بروليتارية، اعني أنها انقسمت إلى بلدان مصدرة لرأس المال وأخرى مصدرة للعمالة. وبينما تخلفت كافة مظاهر التكامل الاقتصادي العربي، تشكلت مظاهر تلقائية للتكامل في مجالي التمويل والعمالة.
لقد طرحت الحقبة النفطية آمالاً عريضة للعمل العربي المشترك في مجال الاقتصاد فلأول مرة تصبح الأقطار العربية قادرة على تسعير ثروتها النفطية في السوق الدولية. ولأول مرة تتدفق عليها عوائد نفطية مضاعفة عدة مرات عما كانت. ومن ثم سرحت الآمال لقيام تنمية عربية لا تتوقف عند الحدود القطرية. فالشرط الجوهري للتكامل الاقتصادي على مستوى الدولة الواحدة أو مجموعة من الدول هو أن يسيطر الإنتاج السلعي الداخلي سيطرة كاملة على السوق الداخلية. وكان ذلك ممكنا لو تحول الهدف من مجرد توسيع التبادل التجاري بين الأقطار العربية إلى إدراك أهمية التنمية القومية المخططة. لكن الأقطار العربية النفطية رفضت أي مدخل تخطيطي لتحقيق التكامل كما رفضت تماماً أي فكرة ترمي لقيام تنمية قومية. وتمسكت جميعاً بالتنمية القطرية.
وهكذا فإنه نتيجة لنمط التنمية الاقتصادية التي تحققت على المستوى القطري في السبعينات والتي أدت فيما أدت إلى تحويل الاقتصاد العربي في مجموعة إلى اقتصاد مندمج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، تفاقمت داخل الأقطار العربية نزعة قطرية صارخة على حساب النزعة القومية.
فلقد حقق كل قطر عربي تنميته المفضلة منفصلة عن التنمية التي جرت في الأقطار العربية الأخرى. ولقد جرت هذه التنمية القطرية بالتعاون مع السوق الرأسمالية العالمية بحيث تقوي وتعمق اندماجه فيها. وبينما كشفت التنمية الجارية عن عمق الروابط القطرية مع الدول الاستعمارية، فإنها كشفت أيضاً عن ضآلة التعاون العربي. بل وتعززت النزعة القطرية بالأوضاع الناشئة عن تخلف الاقتصاد العربي في مجموعه وبنمط تقسيم العمل الدولي الذي يتبعه. كما كشفت أيضاً عن قوة المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لفئات التجار ورجال المال في كل قطر عربي على حدة. وهي فئات قد تعتبر التكامل ضاراً بمصالحها الضيقة وتتحرك بهمة لإبقاء التجزئة على حالها. حتى ليمكن القول بأن حقبة النفط بدلاً من أن تزيل العقبات الهيكلية أو تخفف من الإجراءات الإدارية في وجه التعاون العربي قد ضاعفت منها. ولقد أوجدت هياكل اقتصادية جديدة نشأت من واقع التنمية القطرية صارت تستعصى على التنسيق والعمل المشترك. ولم تعد مجالات التكامل التي أقرت هنا أو هناك أن تكون سوى مجرد إعلان لنوايا أكثر منها خلقا لحقائق.
وفي الحقيقة كيف يمكن الحديث عن التكامل بين بلدان يزداد التفاوت فيما بينها في كافة الميادين: مستويات النمو الاقتصادي، معدلات نمو الدخل القومي، مستويات الدخل الفردي؟
لقد تغير المركز الاقتصادي النسبي للأقطار العربية. فارتفع نصيب الأقطار النفطية إلى أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي مع أن عدد سكانها لا يزيد عن 10% من مجموع السكان في العالم العربي. واستقر نصيب بعض الأقطار العربية شبه النفطية عند نسبة 20% من الناتج المحلي وسكانها يمثلون نصف العالم العربي. وزاد نصيب دولة نفطية واحدة هي السعودية ليصل إلى ثلث الناتج المحلي العربي كله. ومن ثم جرت فيما بين الأقطار العربية إعادة توزيع الدخل القومي العربي.
والواقع أن هذا التطور لم يكن بعيداً عن تخطيط الرأسمالية العالمية. فإنه فيما بعد محاولة تأميم النفط الإيراني التي جرت في عام 1951، وفيما بعد الحرب السويس التي وقعت في عام1956، اتجهت الاحتكارات العالمية للنفط إلى تركيز نشاطها الكشفي والاستخراجي في البلدان العربية الأصغر حجماً والأقل سكاناً والأشد تخلفاً. بينما تجنبت التوسع في الإنتاج النفطي في البلدان التي نضجت فيها الحركة الوطنية وسارت في طريق بناء اقتصاد وطني مستقل. وهكذا تم تطوير سريع لإنتاج النفط في كل من الكويت وليبيا وقطر ودبي وأبي ظبي بالإضافة إلى السعودية. لكن تطور حركة التحرر الوطني العربية قد جعل هذه البلدان جميعاً تعمل على تصحيح علاقاتها بالاحتكارات النفطية. وبعد حرب 1973 وفي أوائل عام 1974 أصبح سعر النفط أربعة أضعاف السعر الذي كان سائداً قبل أكتوبر 1973. ولقد ترتب على ذلك ارتفاع شديد في دخول المواطنين دون أن يرتبط هذا الارتفاع بزيادة في نشاطهم أو قدراتهم الإنتاجية. وأسبغ ذلك طابعاً ريعيا وطفيليا على الدخول، خاصة وقد اصطحب بإسراف شديد في الإنفاق العام والخاص وزيادة كبيرة في المدخرات النقدية الخاصة والعامة. وبذلك اتسعت فجوة الدخول بين الأقطار العربية بصورة زادت الأغنياء والفقراء.
في عام 1972 كان دخل الفرد في الكويت يبلغ خمسين مرة دخل الفرد في الصومال. وبعد عام واحد أي في عام1973 تضاعف هذا الفرق فجأة نحو ثلاث مرات. وفي الدول النفطية الصغيرة التي تتميز بحجم محدود من السكان ارتفع متوسط دخل الفرد من 3058 دولاراً في عام1971 إلى 20644 دولاراً في عام1982 بينما بلغ الدخل الفردي في الصومال 120دولار فقط. في ذلك العام بلغ متوسط دخل الفرد في الإمارات 40 ألف دولاراً.
كان من الطبيعي في هذه الأوضاع أن ينشغل الوطن العربي بهموم الاستهلاك الزائد على الحد في صراع عربي / عربي لإعادة توزيع الدخل بدلاً من هموم التنمية الاقتصادية الاجتماعية الحقيقية التي تستدعي صراعاً جاداً ضد الرأسمالية العالمية. وتعددت أشكال الصراعات الجانبية العربية / العربية. وانتقلت من ميدان الاقتصاد إلى ميادين السياسة الواسعة. وتوقفت وتراجعت حركة القومية العربية في ظل نجاح الإمبريالية – ومعها الرجعية المحلية- في تغليب التناقضات الثانوية على التناقض الرئيسي. وكان أخطر إنجاز لها هو نجاحها في استدراج مصر إلى كمين كامب ديفيد وعزلها عن العرب.
مسئولية البرجوازية العربية الحاكمة:
هكذا تراجعت حركة القومية العربية في الحقبة النفطية بعد أن نجحت تكتيكات جبهة الأعداء في طمس التناقض الرئيسي وتغليب التناقضات الثانوية في المنطقة العربية وتقع المسئولية الأساسية في هذا التراجع على عاتق البرجوازية العربية. إننا لا نعني بذلك إعفاء الحركة الوطنية من مسئوليتها على الإطلاق. ولكننا نبرز الدور الأساسي الذي لعبته البرجوازية العربية وبخاصة طلائعها الحاكمة في التراجع المخزي الذي أصاب الحركة العربية في حقبة النفط. (وما تلاها حتى اللحظة الراهنة أو المأزق شبه المسدود).
وطوال سنوات ركزت القوى التقدمية على دراسة الأزمة. وركزت من ثم على استئثار شرائح معينة من البرجوازية بالسلطة واحتكارها لها، وضعف الاعتماد على الجماهير وتقييد حرياتها الديمقراطية، وإتباع سياسة أنصاف الحلول في قضايا التقدم الاجتماعي، مما سمح في النهاية بنمو دور ونفوذ البرجوازية البيروقراطية والطفيلية. ولا شك أن هذا التحليل سليم في مجموعه عندما يتصدى لتحديد مسئولية الطلائع المتقدمة من البرجوازية الصغيرة، وبخاصة مسئوليتها عن تغييب دور الجماهير وحرمانها من حقوقها الديمقراطية السياسية وفرض الوصاية عليها بل وتزييف إرادتها وممارسة أساليب القمع والإرهاب ضدها –الأمر الذي أتاح فرص النمو أمام البرجوازية الكامنة داخل مكاتب الدولة والحزب الحاكم والقطاع العام، وأمام البرجوازية الأخرى المتخفية أو السرية في مجالات التجارة والمال والمقاولات والتهريب.(في كل الأنظمة العربية).
فلما كانت الحقبة النفطية خرج الجميع من مكامنهم وجحورهم. ومن ثم نجحت الثورة المضادة في عدد من الأقطار العربية ذات التوجهات الوطنية والتقدمية مثل مصر، بينما راحت أقطار أخرى تراوح في مكانها بعد أن جرى تجميد اندفاعاتها الثورية.
وإنما تحولت عائدات النفط في طول المنطقة العربية وعرضها إلى قوة دفع هائلة في الهجوم الشامل الذي شنته الرجعية العربية ضد الثورة العربية. وكانت الثمرة الأساسية لهذا التحول هي انتقال الوطن العربي إلى مرحلة التطور الرأسمالي المشوه الذي قادته برجوازية عربية مشوهة.
فالواقع أن عملية التنمية الاقتصادية التي شملت الوطن العربي كله في ظل حقبة النفط لم تكن في التحليل الأخير سوى عملية إعادة توزيع الريع النفطي أكثر مما كانت عملية توليد فائض حقيقي صناعي أو زراعي. وتولت الميزانية العامة للدولة مهمة إعادة التوزيع على قطاعات المواطنين والوافدين. حتى قطاع الدولة الذي انتشر في أغلب الأقطار العربية النفطية نظر إليه النظرة إلى ميزانية الدولة نفسها، أي كأداة لإعادة التوزيع أكثر منها أداة للإنتاج. ومن ثم تميزت الحقبة النفطية بهذه الحقيقة المتميزة وهي أن الدور الأول في مجال العلاقات الاجتماعية لا تلعبه العلاقات الخاصة بالملكية وإنما علاقات التوزيع أي إعادة توزيع الدخل القومي. ومن ثم فإن الأقطار العربية دخلت في مرحلة من الانفتاح الاقتصادي لم تقتصر على مصر وحدها. وفي هذه المرحلة جرت عمليتان تاريخيتان في وقت واحد، وبسرعة مذهلة. وهما عمليتان جرتا تاريخياً إحداهما بعد الأخرى. لكنهما حدثتا هذه المرة معا في وقت واحد، وهما عملية التراكم البدائي وعملية التراكم الرأسمالي. أما عملية التراكم البدائي فهي عملية النهب والسلب التي تمارسها بواكير البرجوازية النامية وتشكل من جرائها ثروة تدخلها في دورة الإنتاج. وأما عملية التراكم الرأسمالي فهي عملية الاستغلال التي تمارسها البرجوازية عادة فتجني من ورائها أرباحاً تحولها إلى رأسمال تعيده إلى دورة الإنتاج – ويجري ذلك لتوسيع الإنتاج ومضاعفة رأس المال.
وفي الأقطار العربية جرت العمليتان في وقت واحد وبسرعة مذهلة. جرى النهب والسلب مع الاستغلال الرأسمالي جنباً إلى جنب. بل وطغى طابع النهب والسلب على طابع الاستغلال. فأصبحنا أمام التشويه الفادح الذي خلقت به البرجوازية العربية الحاكمة حالياً.
فهي برجوازية ريعية، طفيلية، معتمدة على دور البرجوازية الأجنبية التي مازالت تسيطر على النفط العربي، وهي رأسمالية مالية ربوية، تتعامل في النقود كنقود، عن طريق التجارة والخدمات والوساطة والسمسرة والتهريب والسوق السوداء. وفي بلد كمصر فإنها تجمع بين المضاربة المالية وتجارة العملة وتهريب السلع والمخدرات. طبقة ريعية طفيلية تتعيش على الريع النفطي الأصلي الذي لا يلبث أن يتساقط داخل الاقتصاد والمجتمع في صورة أرباح ريعية بأيدي المصدرين والمستوردين والمقاولين والمضاربين العقاريين وتجار العملة ووكلاء المقاولات الأجنبية. يسمونها رأسمالية المقاولات وبرجوازية السمسرة. وهي في كل الأحوال رأسمالية وسيطة. وغالباً ما تكون وسيطة بين أجهزة الدولة وقطاع الدولة وبين رأس المال الأجنبي.
وقد اتسعت صفوف هذه البرجوازية الجديدة بضم فئات اجتماعية عديدة إليها، وبخاصة الفئات الإقطاعية الحاكمة من قبل والفئات الرأسمالية التجارية والمالية القديمة والبرجوازية النامية داخل الجيش والشرطة ومكاتب الدولة والحزب وقطاع الدولة وأعني البرجوازية البيروقراطية.
ولهذا كله تتميز هذه البرجوازية الجديدة ذات الطبيعة الريعية بأمرين أساسيين:
الأول- أنها لا تحمل روح المشروع الرأسمالي القائم على الإنتاج وتحمل المخاطر الطويلة الأجل والمشاركة في دفع عملية التراكم الرأسمالي. وقسم كبير منها مازال يتعلق بالملكية العقارية أو بالتجارة الداخلية. والواقع أن رأس المال التجاري والمالي السائد عاجز عن التحول إلى رأسمال صناعي. وهو يفضل عادة ونتيجة لأوضاع التخلف الاقتصادي المتبقية أن يظل كامنا في مجال التجارة بكافة أشكالها ومنها الربا، وذلك لارتفاع معدل أرباحها.
الثاني – أنها مرتبطة برأس المال الأجنبي بل وبالاقتصاد الرأسمالي العالمي ارتباطاً عضوياً. إن النشأة الريعية الطفيلية للبرجوازية الجديدة، ذات الأصول القبلية والإقطاعية وشبه الإقطاعية والبيروقراطية تجعلها ذات روابط أمامية وخلفية برأس المال العالمي. ومن ثم فإنه لا يتيح لها عمليا وفي أفضل الأحوال سوى هامش ضيق للاستقلال الذاتي. وهي في جميع الأحوال تفضل أن تؤكد روابطها تلك برأس المالي العالمي. بل نجدها تفضل استخدام الهياكل والمؤسسات القائمة في البلدان الرأسمالية المتقدمة وتوظيف أموالها واستثمارها أيضاً في الاقتصاد الرأسمالي بدلاً من استخدامها محلياً داخل بلادها في إنشاء الهياكل والمؤسسات النوعية اللازمة لنموها وتطوير بلادها.
والواقع أنه يجب ألا نكون مبالغين. فإن أوضاع الرأسمالية العالمية لم تعد تسمح لبرجوازية البلدان النامية إلا بدور غاية في الضآلة وبالتبعية الكاملة لرأس المال العالمي الذي يجري تدويله في صورة الشركات عابرة القوميات. وفي ظلها تحولت البلدان النامية إلى مصدر للموارد الحقيقية وليس للمنتجات: رأس المال – العمل – الأرض – الطاقة. حتى الخدمات الطبيعية أصبحت تستغني عنها الخدمات الصناعية. وأخذت تجعل من البرجوازية المحلية شريكاً أصغر لها بغية استخدامها محلياً في عمليات تعظيم أرباحها بفضل الأيدي العاملة الرخيصة والانخفاض النسبي لأسعار الخامات والطاقة والأرض. ومن ثم نقلت إليها فروع الصناعة المتدنية. وصارت تدافع عن التطور الرأسمالي العالمية، التي لم تعد تلجم رأس المال المحلي بل توجهه في المجرى المناسب. وهكذا تطورت الرأسمالية المحلية واتسعت صفوفها. صارت وكلاء للشركات عابرة القوميات ومديرين لفروعها. وتوطدت العلاقات بين الرأسمالية العالمية من جانب والبرجوازية الطفيلية وبيروقراطية القطاع العام وجهاز الدولة من جانب آخر. وأفادت هذه البرجوازية من أوضاعها بحيث فاقت البرجوازية العالمية في نصيبها من الدخل القومي. فقد ظهر أن حصة الفئات العليا في البلدان النامية من هذا الدخل أكبر (40 إلى 50%) منها لدى الفئات العليا المماثلة في البلدان المتقدمة (30 إلى 35%).
تلك هي حقيقة البرجوازية العربية الحاكمة. فهل يتوقع من مثل هذه البرجوازية أن تتولى قيادة حركة القومية العربية؟ ولو فرضنا جدلاً أنها قادتها فهل يتوقع أن تقودها إلى النصر على أعدائها؟ كلا. فإنها برجوازية غير قومية بل إنها معادية للقومية.
ومن هنا تمر الأقطار العربية في مجموعها بحالة من التدهور بل الانحطاط القومي. يصفها "فؤاد زكريا" بقوله: "إن الإنسان العربي في حالة الاستقطاب الاقتصادي التي تميز حياته في الربع الأخير من القرن العشرين بين ثراء خيالي وفقر مدقع، يجد في كلتا الحالتين ما يدفعه إلى استبعاد التفكير المستقبلي. فهو في الحالة الأولى يعيش في حلم وردي جلبه ثراء مفاجئ لم يتولد عن جهد وعمل متدرج ويرفض الخروج من حالة الحلم لكي يواجه مستقبلاً قد يتطلب منه جهداً شاقاً وقد يحمل في طياته احتمالات مزعجة. وهو في حالة الثانية يملك في حاضره من الهموم ما يكفيه وما يسد أمامه طريق الامتداد بتفكيره لحظة واحدة إلى الأمام". في كلتا الحالتين تلعب أيديولوجية العودة إلى الماضي المجيد دورها في إبعاد الأذهان عن المواجهة الحقيقية للمشاكل الراهنة، ناهيك عن مشاكل المستقبل.
ومن هنا أفرزت حقبة النفط اتجاهات فكرية هي من البداية أو في النهاية معادية للقومية العربية بمضمونها التقدمي المعادي للإمبريالية والصهيونية والرجعية. وعلى رأسها جميعاً اتجاه يرى بكل بساطة أن القومية العربية صنم من الأصنام وطاغوت من الطواغيت، ومن ثم أفتى بمحاربتها. ولا يقل عن هذا الاتجاه خطرا تجريد القومية العربية من مضمونها التحرري التقدمي وصرفها عن طبيعتها المناضلة المقاتلة أو اختزالها في شعارات تتمسك بثوابت لا تاريخية يغلب عليها الطابع الانفعالي والنظرة الاستعلائية وافتقاد الحس الاجتماعي. وكل ذلك باسم إحياء المجد العربي التليد، ولو في صورة تجارب وحدوية هزلية محكوم عليها منذ البداية بالفشل، وتورث الناس اليأس واللامبالاة. وكان "ساطع الحصرى" رائد القومية العربية قد نفى قيامها على الدين ورفض أن يكون الجنس أو الدم مصدرا لها. لكن ذلك قيل في زمن كانت الطلائع البرجوازية فيه مازالت ثورية.
لقد سادت الآن برجوازية ذات طبيعة رأسمالية مشوهة. وهي فئة اجتماعية تشكل خطرا بالغا على الكيان الوطني لكل قطر عربي لأن أطماعها الاقتصادية تربطها مباشرة بحركة رأس المال العالمي ولاحتكارات الدولية النشطة. وبعد قيامها بتشويه الاقتصاد العربي فإنها مسئولة أيضاً عن تشويه التطور الاجتماعي العربي. ونشأ مجتمع استهلاكي مشوه يتسم بضعف المشاعر الوطنية وانحسار الروابط القومية. وسادت عقلية طفيلية فرضت نفسها على الجميع. وأصبح الوطن العربي يعاني حالة مزرية من فقدان الإرادة في مواجهة العدو الأمريكي الإسرائيلي.
فالبرجوازية العربية الحاكمة عاجزة عن إنجاز المهام الوطنية التي تستدعي صداما جذريا مع الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية والرجعية المحلية. وهي عاجزة من باب أولى عن إنجاز المهام الاجتماعية والصدام مع رأس المال العربي الكبير. هذا بينما صار تطور الأقطار العربية في ظل الحقبة النفطية يطرح علينا بقوة متزايدة حقيقة تشابك مهام التحرر الوطني أكثر فأكثر مع مهام التحرر الاجتماعي. ومعنى ذلك أن المضمون الاجتماعي لحركة القومية العربية لم يعد من الممكن إغفاله أو طمسه أو مقاومته سواء على مستوى كل قطر عربي على حده أو على المستوى القومي العربي كله. فالقضية القومية هي الآن قضية وطنية ذات مضمون اجتماعي متقدم. وهي لذلك قضية ديمقراطية لا يمكن أن تتقدم إلا في إطار ديمقراطي.
وإذا كانت نظم عربية عديدة قد تميزت بانعدام الحريات الديمقراطية، وإذا كانت نظم عربية أخرى قد وقفت موقف الحذر وحتى النفور من تحركات الجماهير وحاولت باستمرار فرض وصايتها عليها، وسارت من ثم في طريق التضييق المتزايد على الحريات، فإن ذلك كله مسئول عن موقف اللامبالاة الذي تقفه الجماهير الواسعة وبصفة خاصة جموع المثقفين من القضايا العامة سواء كانت قطرية أو قومية – هذا بينما راحوا يعمقون في صفوف الجماهير مشاعر الانتماء والولاء والتعصب لطائفة أو فرقة أو جماعة أو عشيرة أو ناد رياضي!

خـــاتمـة
والآن فلقد آن الأوان لنقل حركة التحرر الوطني العربية من حالة التراجع إلى حالة الهجوم المضاد. ويستدعي ذلك البدء بتصحيح التعامل مع التناقضات في المنطقة العربية. لقد نجح أعداء القومية العربية بقيادة أمريكا في طمس التناقض الرئيسي وتغليب التناقضات الثانوية. وآن الأوان للتعامل مع التناقضات على حقيقتها: أن يعود العدو عدوا والصديق صديقاً والشقيق شقيقاً. إن ذلك يعني إعادة طرح كل قضايانا الرئيسية من جديد: قضية فلسطين، قضية تحرير الأرض العربية المحتلة في سوريا ولبنان، قضية تحرير الاقتصاد العربي، قضية التنمية العربية الشاملة، قضية التحولات الاجتماعية، قضية الحريات الديمقراطية، قضية حقوق الإنسان والمواطن، قضية الشباب والمرأة في الوطن العربي، قضية الثقافة واستعادة الهوية العربية وقضية التكامل الاقتصادي. وكلها قضايا لا تطرح على حقيقتها إلا في إطار التناقض الرئيسي.
لكن الانتقال إلى مثل هذا الهجوم المضاد يستدعي بل يفترض النجاح سلفاً في حل أزمة قيادة الحركة الوطنية العربية. إنه يتطلب نقل هذه القيادة من أيدي البرجوازية الحالية لا إلى أيدي شريحة برجوازية أخرى ولكن إلى أيدي تحالف واسع للقوى الاجتماعية الوطنية ذات المصلحة في مواصلة المعركة ضد الامبريالية وتحقيق التقدم الاجتماعي في ذات الوقت. مثل التحالف الوطني الواسع يمكن أن يضم بعض أقسام البرجوازية الوطنية كما يضم البرجوازية الصغيرة وطلائعها المتقدمة ذات القدرات الثورية المتجددة، ويضم أيضاً الطبقة العاملة النامية حيث تضطلع فيه بدور أساسي متصاعد. هذا التحالف الوطني الواسع يجب أن يجذب إليه طلائع المثقفين وكافة القوى والعناصر السليمة في الوطن العربي. ولا يمكن أن يتحقق مثل هذا التطور من غير السعي الدءوب من أجل كسب وممارسة الحريات الديمقراطية، هذه الحريات التي ينبغي أن تكفل لا مجرد حق الجماهير في التعبير بل أن تكفل لها أيضاً حقها في التغيير في الوطن العربي.
ومرة أخرى، فإن مثل هذا التغيير مستحيل بغير الدور القيادي لمصر فإن التغيير العربي إنما يبدأ من مصر وبها. فذلك قدرها.
ومن المتوقع أن يمر هذا التطور عبر نضال شاق وطويل مليء بالعقبات والتضحيات وربما بالنكسات. لكنه يبقى هو الطريق الوحيد إلى الهدف. وإذا كان هذا الطريق يبدو لنا قاتماً فينبغي ألا ننسى أنه انعكاس لواقع لا يقل قتامه لكنه لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. وهل يطلع الفجر إلا بعد ليل أسود؟ ومن قبل قال " عبد الناصر" كلمته الحكيمة:
"لقد سبق كل فجر شهدنا مطلعه ليل طويل "