فندق شارون الفصل الثالث


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4830 - 2015 / 6 / 7 - 20:39
المحور: الادب والفن     

قليلاً قليلاً عادت حياة الفندق إلى مجراها الطبيعي، انتهت حفلات الرش، حفلات العشاء، مسألة بيع الفندق، وكانت نجا من الثقة أكبرها: سيمتلئ الفندق بالنزلاء عما قريب. بعد ذهاب بنيامين إلى الشاطئ، قررت التسوق. هذه المرة، لن تذهب فقط لتعرف آخر الإشاعات، وإنما لملء سلتها، فعليها إطعام نزلائها! أوصاها صموئيل بألا تشتري كل السوق، بعد كل حساب، لم يكن لديهما سوى زبونين محتملين، بما أن بنيامين قال سيتناول طعامه في الشيراتون ظهرًا.
- أنتَ ما أعجبك! تشاؤمك يتأكلني! ألقت نجا في وجه زوجها قبل أن تضرب الباب.
أخذت كل وقتها في التسوق، وهي تحمل سلتها علانية أمامها ليعرف الجميع أن الأشغال عادت عال العال، وكان الناس يلتفتون عند عبورها، ويضحكون، فمنذ كتبت الصحف عن فندق شارون، فندق السعادين واللامسعودين، اسودت سمعتها. ولم يتردد البعض عن إسماعها بأنها غدت مهبولة مليكة المهابيل. حتى أن صديقاتها أصابهن الذعر، وهن يرونها على مثل حالات الهيجان تلك، وكن يقصدن بالطبع دلاء الماء. لم تبال نجا أقل مبالاة، وصمدت أمام حججهن ببيانِ أنهنّ لو كنّ مهددات بالإفلاس، لفعلن الشيء نفسه. الآن، أهم ما في الآن، الكف عن الاستسلام بسهولة، وستنشغل بكرامتها المجروحة فيما بعد. طبعًا سيأخذ كل هذا وقتًا، وهي أدركت أن كل هذا سيأخذ وقتًا عندما رمتها بائعة الخضروات متهكمة:
- ماذا، يا نجا، انتهى زمن تنظيف الأرصفة؟
تجاهلت نجا بشموخ كلامها الجارح، وطلبت بندورة وسلطة وفلفلاً وباذنجانًا وبصلاً، ولم تنس البقدونس، باختصار كل ما كان ضروريًا لإعداد أطباقها الصغيرة. احتاطت لعمل "غولاش" (لحم بقري يطبخ على الطريقة المجرية)، إذا ما تناول بنيامين طعامه في فندق شارون بصحبة زوجته، وذلك حسب الطريقة التي أخذتها عن جدتها. لكن ليوسي وسالومون، ستكتفي بأبسط الأشياء: بابا غنوج، حمص، فلافل، تبولة.
تلخبطت هيئة صموئيل، وهو يراها تصل بسلة مليئة. ثم أضاف، وهو يشير إلى الدرج:
- الاثنان هنا، يوسي وسالومون، وهما سيأكلان هنا ظهرًا. كنت أعرف أنه سيبدل رأيه، العربي! تحذلقَ فقط أمام بنيامين لأنه يعتقد أنه الأكثر دهاء!
- توقف عن نعته هكذا، ستعيد الأرواح العربية! تظن أنهما تكلما مع بعضهما، يوسي وسالومون؟ من غير اللازم أن يأتي سالومون ليطالبنا بغرفة أخرى!
رفع صموئيل كتفيه، فلم يكن يعرف شيئًا. عندما قدمت نجا الطعام، اطمأنت حول هذه النقطة: كان يوسي وسالومون يجلسان على طاولتين متعارضتين كليًا. إذا ما بحث الواحد عن تحاشي الآخر، ما كان أفضل من ذلك.
في البداية، أراحها ذلك، إلا أن سلوك الرجلين بدأ يقلقها. كانا يسعيان بالفعل ليتحاشى أحدهما الآخر، وكان عداؤهما المتبادل ملموسًا. كانا يقضيان وقتهما في مراقبة أحدهما الآخر، إذا ما رمى الواحد نجا أو زوجها بنكتة، يقهقه الآخر حالاً باحتقار، وعندما قام سالومون للذهاب إلى المرحاض، تابعه يوسي بعينيه، وانتظر عودته ليواصل أكله، كما لو كان غيابه يقلقه. مع ذلك، كان للاثنين نفس العمر، وكانا قادرين على التواد كما يفعل كل وحيد في العطلة، حكاية أن يذهبا إلى علبة ليلية معًا.
أغاظ نجا ذلك، فلم تكن فكرتها عن العلاقات الإنسانية. لو كان الرجلان عربيين، لا بأس، لكان ذلك طبيعيًا. أولئك الناس لا يعرفون شيئًا آخر غير الحقد، الحقارة، والحذر. لو كان أحدهما عربيًا والآخر يهوديًا، لا بأس كذلك: ما أكثر طبيعيًا أن يكون واحد في عداء مع آخر ينتمي إلى شعب عدو؟ لكنها، على عكس زوجها، لا تظن أن سالومون عربي. إذن، لماذا هذان الرجلان اليهوديان يكرهان بعضهما إلى هذه الدرجة؟ ألا يعلمان أن التضامن ليس كلمة لا جدوى منها بين اليهود، وإنما واجب مقدس؟
قفزت خارج أفكارها على دفعة من زوجها بكوعه، لتعود إلى أطباقها. انتهى يوسي من تناول طعام الغداء، واستعد للصعود إلى غرفته. فجأة، رفض سالومون تحلية رجا. انتظر عدة ثوان قبل أن ينهض بدوره، ويلحق بيوسي.
لما وجدت نجا نفسها وحيدة مع زوجها، همست في أذنه:
- ألا تجد أنهما غريبا الأطوار هذا الاثنان؟ كأنهما لا يستطيعان رؤية بعضهما و، في نفس الوقت، لا يتوقفان عن مطاردة بعضهما!
- لم تريدي تصديقي عندما قلت لك إن سالومون عربي، وحتمًا يفكر يوسي نفس الشيء مثلي، إذن ماذا تريدين أن يفعلا؟ أن يطبطب أحدهما على ظهر الآخر كأنهما أعز صديقين في العالم؟ ثم، على أي حال، لا شأن لك في الأمر، زبونان هما، لا فردان من أفراد العائلة. دومًا ما كان جدي موشيه يقول...
- أنت تنرفزني مع جدك موشيه، قاطعته نجا. إذا كنت تريد رأيي، سالومون موساد. مع السحنة التي له، لا حاجة به إلى التخفي ليمكنه التسلل بين العرب.
- إذن يوسي العربي؟
- ليس هذا ما قلت، قلت فقط إن سالومون يمكن أن يكون عميلاً سريًا، ويوسي، ما يدريني أنا! فارّ من الجندية؟ أنا لا أحب هذا، على كل حال، رؤية أن اليهود لا يتفاهمون فيما بينهم. ما رأيك لو قمنا بإعداد حفلة طقش وفقش، حفلة خاصة كده؟ لتلطيف الجو!
- وإيش كمان؟ نسيتِ خلاص أننا عانينا شهورًا من غير زبائن، ومرة واحدة، تريدين تنظيم سهرات لمصالحة النزيلين التعسين اللذين لنا؟ ربما كان ذلك لحكاية نسوان، فيوسي كما يبدو لي أرنب ساخن! ألم تري كيف يغازل كل من ترتدي تنورة؟ حتى أنتِ، في لحظة، ظننت أنه يُدَبِّل لك عينيه. ربما ضاجع امرأة متزوجة، والآخر رجل تحرٍ يرمي إلى الإيقاع به لحساب الزوج المخدوع!
- هل ستجيء هنا، المرأة الزانية؟ عملت نجا وكلها استثارة. زبونة زيادة! تظن لدينا الحق في قبولها؟ أضافت بعد لحظة من التفكير. يلزم ألا يعمل هذا فضيحة، رغم كل شيء، وإلا لن نخلص؟
- لماذا؟ تظنين كيف تجري الأمور في الشيراتون؟ مع كل المحاضرات التي ينظمونها، هناك من الرؤساء المدراء من ينتهز الفرصة ليهفّ زميلته بكل كتمان!
- عندك الحق، لكن مع ذلك... هذا ممنوع في الدين، الزنا! عليك أن تفعل شيئًا، لا؟
- وماذا تريدينني أن أفعل؟ أن أتبعهما كليهما لأعرف ما يطبخان؟ تصوري المشهد: "مرحبا! أود أن أعرف إذا كنت موساد، أو مخبرًا، وإذا كان الآخر إرهابيًا فلسطينيًا، أو فارًا من الجندية، أو إذا كانت له علاقة بامرأة متزوجة، لأن زوجتي لا تحب إطلاقًا ألا يتفاهم الناس فيما بينهم؟" لا، لا ولا، غير ممكن، وليس هذا شغلي. طالما هما يدفعان غرفتهما، الباقي على قفاي! هل تسمعين؟ على قفاي!
- اسكت! لا تصح هكذا! ها هما يحضران، قالت نجا، وهي توطئ صوتها.
بالفعل، وصلتهما أصوات خطوات في الممر، ولم يتأخر يوسي عن الظهور، بشكيره على كتفه. تقدم من مكتب الاستقبال ليضع مفتاحه.
- كل شيء كما تريد؟ سألت نجا بلهجة زائفة المرح.
- كل شيء تمام! الماء لذيذ وبنات تل أبيب ألذ: ماذا تريدين أكثر؟
تبادل الشارونان نظرة متفاهمة، ففرضية الزوج المخدوع تأكدت، أو أن يوسي ممثل ممتاز. على كل حال، لم يكن يعجل ذهابه إلى الشاطئ، ففهمت نجا فجأة أنه ينتظر على التأكيد سالومون، وأحست أخلاقيًا أنها مضطرة إلى حثه على الخروج بأقصى سرعة لتفادي مشهد جديد كريه سيثقل ضميرها.
- انظر هناك على الشاطئ، صاحت بنبرة يستعملها المرء مع طفل صغير ليشير إلى طائرة تقطع السماء.
ليأسها الأكبر، في تمام تلك اللحظة، ظهر سالومون في إطار الباب، وهو من أجاب:
- ماذا هناك؟ أنا لا أرى شيئًا يثير الاهتمام!
- بلى! متزلجو الماء! شيء لا أعظم! كم هم أقوياء!
لم تفعل الحيلة المحوجة لنجا غير زيادة التوتر أكثر مع وصول سالومون إلى مكتب الاستقبال، فالرجلان يحاذران من النظر أحدهما إلى الآخر ما وسعهما ذلك، مع ترقب الحركة القادمة التي سيقوم بها هذا أو ذاك. مضى صموئيل بعينيه من الواحد إلى الآخر، الآن وقد وضعت زوجته الوسواس في صدره، بدأ يجد بالفعل أن تصرفهما غريب، ولم يكن يحب الأشياء الغريبة، صموئيل. من اللازم أن يكون كل شيء واضحًا، ولام نفسه على أنه كان مضطرًا لقبول العربي في منشأته، لأنه لم يزل يعتبره كعربي. "الضرورات تبيح المحظورات"، دومًا ما كان يقول جده موشيه. والضرورات، الشيراتون من فرضها. صموئيل، هو، كان مضطرًا إلى قبول واحدٍ يشك في كونه عربيًا في منشأته، لئلا يفقد الفندق. كيلا يترك نفسه نهبًا للشك، فضل رمي الخطأ على ظهر هذا الفندق الملعون. "كل هذا ما كان ليقع لولا وجود الشيراتون! لكنه ليس شغله، أعاد لنفسه القول. أنا فندقي، لا شرطي. وعملي يتركز على إعاشة الفندق، رغم التنافس."
كان يوسي من قام بمبادرة قطع حبل الصمت الذي تلا تحويل أنظار العدو عن مركز القتال، نسخة رجا:
- سأذهب! سأتناول طعامي هنا هذا المساء! طاب وقتكم!
تظاهر سالومون بالاهتمام بالبطاقات البريدية المعروضة أمام مكتب الاستقبال خلال عدة دقائق، جمجم بعدها تحية غامضة، وغادر الفندق بعجلة.
- ماذا سنفعل بهذين الاثنين؟ شكت نجا.
- كالعادة: هم النزلاء ونحن سنقوم على خدمتهم. أنت ستحضّرين طعام المساء، وأنا الباقي عليّ.
مضى بعد الظهر في جو من المزاج النكد، والمساء في جو من الخوف الشديد. أخذ سالومون ويوسي نفس طاولة الغداء، وأبحرت نجا من الواحد إلى الآخر، وهي ترغم نفسها على الابتسام لكليهما. تمت الوجبة في أكبر صمت، رغم محاولات صموئيل اليائسة في إضرام المحادثات. في تلك الليلة، حلم صموئيل من جديد أنه كان عفريتًا من عفاريت الجن. فقأ له القادر الجبار عينيه آخذًا عليه عدم استخدامه بدراية أعضاء خَصَّهُ بها، وفي المرة القادمة سيكون لسانه الذي سيقطعه له، هدده قبل أن يختفي.
استيقظ صموئيل مذعورًا:
- لا يمكن أن يكون هذا أسوأ من الفندق لما كان فارغًا.
تفاجأ أطيب مفاجأة على سماع بنيامين يقول من فمه إن ميريام ستأتي لتناول طعام الفطور في الشارون. كان بنيامين قد سبقها إلى المطعم، وهو ينتظر قدومها ليقوم بالطلبات.
- يستقبل الشيراتون مؤتمِرِين من كل نوع هذه الأيام، أوضح، فاشتكت ميريام من طول الانتظار لكل ما يخص طلبات الزبائن الآخرين، واقتنعت بالمجيء هنا لتناول الفطور. ها هي!
ذهب لاستقبالها، وضمها كما لو لم يرها من الأعوام آلافها.
- صباح الخير، يا روحي! هل نمتِ نوم الملاك؟
- فظيع، يا بنيامين! ضجوا ضجيج الجحيم حتى الثالثة صباحًا! أنا على ثقة من شكلي المرعب!
طبعًا، كان من اللازم أن تشكو، حتى الشيراتون لم يكن مريحًا لها. طمأنها بنيامين، وهو يملس بنعومة شعرها:
- لا تقولي هذا، أنت جميلة كالفجر! تعالي، أنا جالس على تلك الطاولة، هناك!
تقدمت ميريام بخطوات صغيرة من الطاولة التي أشار إليها، وجمالها كالجيش يحتل كل شيء. تأكدت من نظافة الكرسي، قبل أن تترك نفسها تتساقط بلطافة، وأشار بنيامين إلى صموئيل الذي سارع بالحضور قبل أن تحضر نجا. كان قد نسي كابوس ليلة أمس، وراح يملأ عينية بما تقدمه ميريام من مشهد سالب للعقل. أخذت المرأة الشابة من الوقت ما لا ينتهي لتقرر، ولتطلب أخيرًا فنجان قهوة وبعض قطع البسكوت بلا زبدة، بينما اختار بنيامين الفطور الإسرائيلي. أهملا الفندقي إهمالاً كاملاً، وانطلق الزوجان الشابان في حديث بصوت منخفض، وبنيامين يشد يدي زوجته، ويداعب وجنتها. كانت المسكينة بحاجة إلى أن تُبِلَّ من ليلتها في الشيراتون، فأمسك صموئيل نفسه عن إظهار فرحه. كان يعلم أن شهرة الشيراتون مغالاة فيها، وها هو البرهان لديه.
عندما قابل نجا عند باب المطبخ، نفث بهيئة مهتمة:
- سأهتم بالعاشقين الشابين، وأنت بالآخرَيْن لما ينزلان. أنت تعرفين كيف تتصرفين معهما أكثر مني.
لم تترك نجا نفسها تسقط فريسة حيلة ماكرة من الإتقان أبعدها، فقد لاحظت أمارات الاغتباط على وجه زوجها الثقيل الدم، وهي تعرف دلالتها: وصول ميريام. بذلت جهدًا لتكون في أحسن مظهر، وذهبت لتحيي المرأة الشابة التي بعض ما تنازلت للرد عليها. بنيامين، هو، استقبلها بحرارة، حتى أنه توجه إليها بثناء لبكينيها أراد أن تشعر بصدقه. قطب صموئيل، فما الذي يجري في هذا الفندق؟ منذ متى يسمح النزلاء لأنفسهم بالنظر بعين الحسد إلى زوجته؟ وعزم على أن يأمر هذه الأخيرة بارتداء ما يتماشى مع الخدمة، يأمر لا، كيلا تخاطر بتلويث بكينيها.
احمر وجه رجا للمديح، وتلعثمت شاكرة. عجل صموئيل في التقدم نحو الطاولة، بذراعين مليئتين بالصواني و، همس في أذنها أن تذهب لتنتظر الاثنين الآخرين. ولأنها لم تزل مرتبكة للطف بنيامين، نفذت نجا مطلبه، ولم تفطن إلى أن هناك شيئًا مختلاً إلا بعد زمن طويل.
نزل الرجلان -بعض الدقائق بين الواحد والآخر، كما يجدر ذلك. كان لهما رد الفعل نفسه، وهما أمام قاعة الطعام، فهل أرادا تقليد بعضهما أفضل ما يكون عليه؟ وصل يوسي أولاً، طِلْقَ المحيّا، وجمد، وهو يحاذي الطاولات، فاغرًا فمه: كان سحر ميريام يفعل فعله. لم يحصل أن رآها أمس، وها هو يكتشف بنشوة وافتتان المشهد اللذيذ. ولمرة من غير مرة، حاذر من التصفير، كانت ميريام تستأهل أكثر بكثير مما يُبْدي عادة من إعجاب. كانت جزءًا من مرتبة النساء الساميات اللواتي لا يتساهلن إلا مع العبادة. حيا الزوجين بأدب، وجلس على الطاولة المجاورة.
ثم جاء سالومون، فتفاجأ أن ميريام لم تزل بعد في هذا الفندق البائس، وجمد بدوره، عندما وصل على مقربة من الطاولات. انقشع غيمه الداكن قليلاً قليلاً تاركًا المكان لدلائل الغبطة التي غدت قانونًا في حضور المرأة الشابة. جلس إلى جانب الزوجين الشابين، وبطبيعة الحال على الطرف المعاكس ليوسي، بطريقة تجعل الرجلين وجهًا لوجه من فوق طاولة العاشقين. مع ذلك، ضاقت المسافة الفاصلة بينهما كثيرًا.
توقف قلب نجا عن الخفق عندما لاحظت مجرى الأحداث، فهذان الاثنان كانا قادرين على كل شيء، وخاصة على تطفيش الزوجين الشابين بسلوكهما المشين. لكنهما أذهلاها، وكل منهما راح يرقع ابتسامة على شفتيه. من المكان الذي كانت واقفة فيه، لو لم تكن على علم بعدائهما المتبادل، لظنت أنهما يبتسمان لبعضهما. ولكن لا شيء من هذا، كانا يبتسمان في الفراغ أو، بتحديد أكثر، كانا يبتسمان إلى فيض الضوء المنبثق عن الزوجين الشابين، وكأنها بحضور الرب لموسى، بقدرته تزول الحواجز الذهنية الأكثر صلابة.
وبينما هما في قلب مسارّاتهما، من الطبيعي ألا يشعر بنيامين وميريام بحضور سالومون ويوسي إلا بعد عدة دقائق. صبّح بنيامين على جاريه بمودته المعهودة، وما لبث أن أدار الحديث معهما، بريئًا مما بينهما من عداء. حقًا كان الكلام لا قيمة له، ككل كلام يتبادله كل المسافرين: من أية مدينة يأتيان؟ ما الذي جاء بهما إلى تل أبيب؟ هل هي المرة الأولى التي يأتيان فيها إلى نيويورك إسرائيل؟ كيفهم سعداء في الصيف أم في الشتاء؟ رمى بنيامين من وراء هذا السؤال الأخير إلى المداعبة، وميريام تتابع ما يقولون دون أن تتدخل، بعيدة، ولكن آه! كم كانت قريبة. كان الرجلان يزلقان بنظراتهما عليها من قرنة عينهما، وهما يأملان أن يسمعا من ثغرها اللحيم تعليقًا ما، إلا أنها تظاهرت باللامبالاة. وما كان من الكلام لا قيمة له، كان لِما يدور حول الكلام قيمة ولا كل القيم: في بعض الأوقات، كان يوسي يجيب محل سالومون على أسئلة بنيامين، والعكس بالعكس، وفي بعض الأوقات كانا يجيبان معًا، كرجل واحد. في البداية، لم تصدق نجا أذنيها، وانتهى بها الأمر إلى إطلاق نفسًا مرتاحًا. هكذا تحققت أمنيتها بإقامة التفاهم بين كل نزلائها، على الرغم منها هذا صحيح، لكنها كانت مفتتنة.
إلا أنها ما لبثت أن نزعت العُدّة عن جوادها، فما أن نهضا، وتركا العاشقين لغرغرتهما، من غير أن يتمنيا رؤيتهما قريبًا، ارتدى يوسي وسالومون من جديد صدارة العداء الحديدية. فلنقل إن قطر دائرة أرض التفاهم، التي أثرت في قلبها طاولة بنيامين وميريام، كانت تمتد حوالي خمسة أمتار. ما وراء ذلك، كانت غثاثة الحياة تستعيد حقوقها. استطاعت نجا متابعة تحلل قناع الغبطة، قناعهما، شيئًا فشيئًا كلما ابتعدا، ورأتهما مذعورة، وهما يغادران الفندق واحدًا بعد الآخر، أكثر حقدًا من أي وقت مضى.
لم تكن لتحتمل مشاهدة استفزازات الرجلين للرجلين خارج الفندق، هكذا كانا يمضيان نهاراتهما في مطاردة بعضهما، في مراقبة بعضهما، في محاكاة بعضهما. على كيلومترات شاطئ تل أبيب، تدبرا أمرهما في أن يكون الواحد على بعد عدة أمتار من الآخر. لما يتبرنز الواحد، يتبرنز الآخر، لما يسبح الواحد، يسبح الآخر. كان سالومون سباحًا ممتازًا، بينما كان يوسي يسبح على بطنه غير بعيد عن الشاطئ خوفًا من الغرق. اللي يصير يصير: عندما ابتعد سالومون في أعماق البحر، شعر يوسي بالإهانة، ولم يمنع نفسه من اللحاق به. كان الحَنَقُ ما يدفعه، فأمكنه العوم وقتًا أكبر مما فعله أبدًا من قبل، لكنه لم يعد إلى قواعده سالمًا، وهو على بعد عدة مئات من الأمتار من الشاطئ. كان منهكًا. سبح على ظهره عدة دقائق ليستعيد قواه، وهو يلعن نفسه، وخاصة وهو يلعن الآخر الذي دفعه إلى القيام بمأثرة عديمة التبصر. من حظه أن زوجين كانا على دراجة مائية، اقتربا منه، وسألاه إذا ما كان كل شيء على ما يرام، فاضطر إلى الاعتراف مخزيًا بوجع في ربلة ساقه، يعيقه عن الرجوع إلى الشاطئ. بكل لطافة، اقترح عليه الزوجان التعلق بالدراجة، وهكذا تم إنقاذه من الغرق، تحت النظرة الساخرة لسالومون.
لم يمنع ذلك يوسي من عودته إلى المراقبة، أول ما ذهب عنه انفعاله، وهكذا عادا في المساء إلى الفندق كعادتهما الواحد في دبر الآخر. نط صموئيل، وهو يرى سالومون يصل الأول، فقد انتهت الهدنة بالنسبة له، ومن واجبه التيقظ ليتفادى تدهور الوضع، كما طلبت نجا منه ذلك. لهذا لم يفطن إلى الرجل الذي جاء إلى الفندق عدة دقائق بعد عودة يوسي بدوره إلى غرفته. ظنه في البداية شحاذًا، فما يرتديه من لباس كان الأكثر إهمالاً. وفوق ذلك، كان يحمل ذراعه في وشاح، بضماد وسخ ومحلول.
ثم، كانت له سحنة عربي.
دار في بهو الاستقبال مطلقًا هتافات المفتتن:
- أوه! كم هذا جميل!
سأله صموئيل بفظاظةِ من كانت أعصابه تكاد تطرطق:
- هيه، أنت!
- أنا؟ عمل الآخر، وهو يستدير ليتأكد إذا لم يكن أحد آخر من ورائه.
- نعم، أنت! ماذا تفعل هنا؟ ألا ترى أنه فندق؟ بره! ستزعج زبائني!
- آه! هتف الآخر مفتتنًا. كم أنا مبسوط! أُسْعِدَ يومك! اسمي مهبول، وأنت؟
اقترب من صموئيل، وأبدى رغبته في أخذه بين ذراعيه. تراجع صموئيل مقلبًا إياه قبل أن يهز رأسه، غير مصدق. عربي! وعربي أبله!
- كيف هذا، أنت مبسوط؟
- قالوا لي إن هناك فندقًا في الحي، يستقبل العرب بذراعين مفتوحتين، فجئت! أنت بوزك يقول لي إنك المعلم: أعلموني أنك آدمي!
- أولاً لا تقل لي بوزك، ثم ألا تعرف القراءة؟ زعق صموئيل وهو يريه اللافتة.
أخذ مهبول اللافتة بالمقلوب، وبإصبعه راح يقرأ الرسالة. كما يبدو، كان لا يعرف القراءة.
- لا يمكنك أن تعرف منذ كم من الوقت وأنا أدور في تل أبيب بحثًا عن غرفة، تابع. كل مرة الكلام المكرور إياه: فُلّ، ولا غرفة! لكن، أنا لا أفهم، مع كل الفنادق التي في هذه المدينة، من اللازم أن تبقى مئات الغرف الفاضية. في الشيراتون، جنبك، لم يتركني السائس أدخل. قال لي مع السحنة التي لي، إذا لم أذهب في الحال، طلب الشرطة، وسأجد غرفة في السجن. أظن أنه اعتبرني إرهابيًا. هل تجد أن لي سحنة إرهابي؟
لم يدر صموئيل بماذا يجيب: كانت له سحنة عربي، ألا يكفي هذا؟ عربي إرهابي الشيء نفسه! لكن لماذا يُتعب نفسه بالتفكير في السؤال؟ ما عليه سوى رميه في الخارج، هذا العربي! إلا أنه لا يجرؤ على ذلك، مع نزول سالومون ويوسي، وجلوسهما في قاعة المطعم. تظاهرا باستشارة بطاقة الطعام إلى ما لا نهاية، وهما يخبئان وجههما خلفها، وهما لا يضيعان شيئًا من الحديث، صموئيل واثق تمام الثقة، هما لا يضيعان من الحديث شيئًا.
- اسمع، زعق أخيرًا، لدي سواء أن تكون سائحًا أم لا، على أي حال، لن تبقى في فندقي. بره!
فَزَّ سالومون، لم يكن يحتمل معاملة الناس هكذا، غير أنه بقي مطرق الرأس: بالنظر إلى ميول صموئيل بخصوصه، لن يكسب شيئًا من تدخله، إلا إذا كان يخاطر في طرده من الفندق، هو أيضًا، كقذارة من القذارات. رمى نظرة حالكة باتجاه يوسي: هل يجرؤ على فعل شيء؟ كان يوسي يسحق غطاء الطاولة بعصبية، ولم يكن مرتاحًا، هو كذلك. كان يعقد بين حاجبيه، بهيئة من تسحقه الهموم. الأكثر ارتياحًا في الحكاية بقي مهبول، وبيده الحرة، كان يتلاعب بجيبه الداخلية لجيبه التي أخرج منها بطاقة هوية مدعوكة قدمها لصموئيل بحركة مظفرة.
- انظر! عندي أوراقي! أنا لا أريك أوراقي لو كنت إرهابيًا.
لم يتفضل صموئيل بالنظر إلى بطاقة الهوية، ولا حتى بالرمش، نهض ببطء، كثور مستعد للنطح، وأشار إلى الباب بحركة من يده:
- بره! لا أريد أن أراك هنا!
وأسفًا على ما ستقوله نجا! كان له من الحظ معها ما لداوود مع جالوت، لما لم تحضر من المشهد ما يدور، وإلا تدبرت أمرها لقبوله.
رماه مهبول بنظرة طويلة تعبة، واتجه نحو الباب، بكتفين منخفضتين. في اللحظة التي كان فيها على وشك الخروج، نهض يوسي من كرسيه، واقترب منه. كمشه من كوعه، كمن يريد مساندة صموئيل، دافعًا الصعلوك المسكين نحو الخارج. على الرصيف، ابتسم له ابتسامة مُطَمْئِنَة، وأوضح له:
- لا تقلق! أعرف كيف تفعل ليقبلك. هل معك قلنسوة؟
- قلنسوة؟ لكن الطقس شديد الحرارة لقلنسوة!
- خَلِّني من حماقاتك! سأشرح لك: إذا وضعت قلنسوة، صدق المعلم أنك يهودي! القلنسوة له أكثر أهمية من بطاقة الهوية!
- يا لك من ذكيّ! هتف مهبول معجبًا. أنا أعرف ما سأفعل: سأشتري واحدة، وسأجعله يعتقد أنني كنت قد نسيتها في حقائبي المودعة في مستودع المحطة!
- برافو! أنت فهمت كل شيء! شجعه يوسي. هيا، اركض بسرعة!
- شكرًا! أنت أخ، وسأرد لك ذلك!
رآه يوسي مرتابًا، وهو يبتعد، حتى اختفى مهبول في الشارع. عندئذ، قرر العودة إلى الفندق، وهو يضيع مع أفكاره، ويكاد يصطدم على الباب بشخص مجهول فتحه قبله.
- مِنْ بَعْدِكَ، أبتهلُ إليكَ! عمل يوسي بحفاوة متسائلاً أي استقبال سيُحجز للقادم الجديد.
اتجه الرجل نحو مكتب الاستقبال، وانتظر أن يقطع صموئيل ونجا حديثهما الحامي. بعد مغادرة مهبول، ظهرت نجا في البهو، فأشار إليها سالومون، وكأنه يريد منها شيئًا. وفي الواقع، كان يريد إعلامها بالحادث الذي وقع، لوثوقه من أن صموئيل لن يخبرها بشيء. وكحجة وجد الشكوى مرة جديدة من الشراشف الوسخة، ثم أفلت كما لو كان بريئًا براءة يهوذا من دم المسيح:
- قولي لي، هل ترفضون الزبائن الآن؟
- كيف هذا، نرفض الزبائن؟ احتجت نجا.
- منذ قليل طرد زوجك زبونًا يريد البقاء شهرًا بأكمله.
- كيف؟ زأرت.
ولت على عَقِبَيْها، واتجهت مباشرة نحو زوجها، هائجة، بينما تقلص صموئيل في مقعده.
- ما هذه الحكاية؟
- لكنه عربي، ناح صموئيل.
- أنت ترى العرب في كل مكان! من غير الممكن أن يأتي العرب هنا، لأني وضعت صمغ الصبر في كل جهنم! كيف من اللازم أن أقوله لك؟ تعمل كل شيء لتذهب بنا إلى الإفلاس! إذا استمر هذا، فأنا من ستبقى للاستقبال! لا، ولكن مش معقول، يجب أن أراقبك كطفل!
- ولكن اتركيني أشرح لك!
- اسمحوا لي، قحقح القادم الجديد في تلك اللحظة على التحديد.
أدار الشارونان رأسهما في نفس الوقت، وكرد فعل طبيعي لديها، رسمت نجا على شفتيها أجمل ابتساماتها، بينما قطب صموئيل قليلاً أكثر. كانت تريد حمل مكتب الاستقبال على ظهرها، فلتحمله!
- هذا لماذا؟ سألت بصوت مرح.
- أسعد يومك، مدام! اسمي جاد، وأود أن أعلم إذا ما كانت لديكم غرف شاغرة، ولو أنني لم يكن لدي وقت للحجز.
كان يتكلم العبرية ككتاب! ارتعشت ندى عند سماعها صيغة الجمع "لديكم غرف شاغرة " –ثلاث، أربع حجرات؟ مجموعة؟ الفندق فُلّ؟- واتسعت ابتسامتها أكثر وأكثر. كان الرجل يقف بقامة منتصبة أمامها، بسلوك اللطيف الدمث، عيناه فقط كانتا تشتعلان بشديد اللهب، بينما تتوهان على الجسد العاري لنجا. أطراها أن تقرأ مثل تلك الشهوة في نظرته، فتخلعت في المشي، بشكل مبالغ فيه، ومن وراء المنصة، قرصها صموئيل من إليتيها، لاغتياظه، لتستقيم، وهي تنط.
- ليس لي، أَوْضَحَ دون أن يفلتها من نظرته. أنا طالب في الطب، وأسكن في المدينة الجامعية، لكن أسرتي تأتي لقضاء عدة أيام في تل أبيب، وأتمنى أن تقيم إقامة مرفهة. هل لديكم غرفتان شاغرتان؟
حقًا كان ما يطلبه أقل مما توقعت، غير أن ذلك يؤكد عودة النشاط.
- بالطبع، يا سيدي العزيز، سارعت نجا إلى الإجابة. زوجان وطفل؟
- لا، زوجان وثلاثة أطفال، صحح الرجل بابتسامة لا تُقَاوَم.
ثلاثة أطفال في غرفة واحدة؟ هل مطابق هذا ومعايير الأمن؟ من اللازم أن يكونوا صغارًا ليناموا كلهم معًا!
- بالطبع، يا سيدي العزيز، أجابت مع ذلك، ورغم شخير صموئيل. ربما يلزمك أَسِرَّة صغيرة للأطفال؟
- أوه لا! هتف الرجل ضاحكًا. لهم من العمر 18 و15 و12 عامًا! منذ زمن طويل لم يناموا في أسرة صغيرة! لكنهم اعتادوا على المخيمات الصيفية، وهم لا يزعجهم على الإطلاق النوم في غرفة واحدة.
- إذا كان هذا ما تقوله، تنهدت نجا مغيظة قليلاً، وهي ترى فندقها مقارَنًا بمخيم صيفي. ومتى هذا؟
- إذن، هذا ممكن؟ هتف الرجل بفرح. أنت رائعة! اليوم: الحقيقة أنني تركتهم على رصيف مقهى قريب، وهم ينتظرون مني هاتفًا ليأتوا. سأكلمهم في الحال!
بينما انطلق في حديث من تلفونه المحمول، رمت نجا زوجها بنظرة من قرنة عينها، خشيةً من رد فعله، لكن هذا ترك نفسه نهبًا لِطُرُق جاد الكيّسة. ثم، ربما عمل وصول الأسرة الصغيرة على انقشاع الغيم في سماء الفندق، بسبب الاثنين الآخرين.
ما هي سوى عدة دقائق حتى توقفت سيارة أخي جاد أمام باب الفندق.
- إنهم هم! هتف جاد، وهو يسارع إلى استقبالهم.
حملق صموئيل: كانت السيارة مليئة إلى حد الانفجار، وكأن ركابها قد كدسوا كل بيتهم في البرلينية الصغيرة: سجاجيد على ظهرها وشمسيات وحقائب تميل بخطورة من الجانبين، وأيضًا حقائب في الداخل، وأدوات طبخ، وكَرَاتين. قفز "الأطفال" على الرصيف، وهم يحمحمون حمحمة الجواد، ويقفزون على عنق عمهم.
اخترقت العائلة الصغيرة الفندق اختراق الإعصار المحبور، وجاء الأب يشد على يدي الشارونين مقدمًا نفسه:
- أُسعد يومكم، أنا أبراهام، وهذه امرأتي سارة وأولادها –اهدأوا قليلاً، من فضلكم- بالترتيب: إسماعيل، إسحق، والصغيرة آخر العنقود رملة.
تبنتهم رجا من أول نظرة، هي التي لم تكن تستطيع الحصول على طفل كانت مفتتنة بهم تحت سقفها. قبلتهم بحنان، خاصة الصغيرة رملة، التي داعبت خصلاتها الداكنة برقة.
- الغرف بنصف السعر، أليس كذلك؟ طلب أبراهام بعد ذلك، وكأن الأمر مفروغٌ منه.
قفز صموئيل، فمن أين لهم هذه المعلومة؟ ألقى نظرة باتجاه يوسي الذي ابتسم له ابتسام البريء، وهو، على أي حال، لن يجادل في هذا. أضف إلى ذلك، أن يوسي مَلّح وبَهّر الحديث على طريقته، فوجد نفسه مضطرًا إلى القول:
- بالطبع!
- الفطور من ضمنه؟ أضافت سارة.
- والعشاء كذلك! أكمل يوسي وسالومون معًا، قبل أن يرمي أحدهما الآخر بنظرة حالكة.
كانت المؤامرة على أكمل وجه! حتى الأعداء الألداء اتفقوا عليه! إنها غلطته! سيطلب من نجا أن تقلل من الميزانية الغذائية.
- كله ماشي! كشر. تعالوا، سأريكم غرفكم.
في المعمعة المرحة التي أعقبت لحاق المجموعة الصغيرة بأسلحتها وحقائبها من ورائه، لم يلاحظ الكرتونة المغطاة، لا ولم يسمع النباح المختنق للكلب الذي كانت تحتوي عليه. ما كان يهمه العجيج المتصادي في الفندق، عجيج كان لأذنيه أرق موسيقى لم يسمعها منذ زمن طويل. أفعم قلبه بالسعادة: "آه! لو كان جدي موشيه هنا ليشاهد انتقام فندق شارون من فندق شيراتون!"، فكر، وابتسامة قانعة تطفو على شفتيه.
وهي، كانت الدموع تترقرق من عينيها، فطبطب صموئيل بحنان على كتفها:
- هيا، عجلي قليلاً، لدينا الكثير مما نفعل! كل هذا العالم نطعمه...
قرع الجرس في مكتب الاستقبال، فنط كلاهما: إيش كمان؟ زبائن جدد؟
طبع صموئيل قبلة مفرقعة على خد امرأته، وعجل بالذهاب إلى مكتب الاستقبال: كان كل النزلاء يجتمعون في البهو: أبراهام وعائلته، جاد، يوسي وسالومون. تعارفوا كما يبدو، ومع القادمين الجدد تقاسم يوسي وسالومون تجاربهما السياحية، وكل واحد منهما يعارض الآخر.
تدافع بنيامين للوصول حتى صموئيل، وفي أعقابه ميريام، فلاحظ صموئيل، وكله استغراب، الحقيبة التي يحملها.
- وإذن؟ ماذا يجري؟ سأل دون أن يجرؤ على الإبداء من التفاؤل كثيره.
- الواقع أن خيبتنا كبيرة من الشيراتون، فالغرفة التي لنا لم تشغر بعد، ولم تعد ميريام تحتمل ضجيج جيرانها حتى ساعة متأخرة من الليل، فأقنعتها بالمجيء للنوم هنا، ختم بابتسامة واسعة. أليس كذلك، يا حبيبتي؟
- نعم، هذا صحيح، تركتُنِي أقتنع، غصبًا عني، اعترفتْ من طرف شفتيها.
- كل الشرف لنا، مدام! أهلاً وسهلاً في فندق شارون! ستعملين الفرق بيننا وبين الشيراتون. سترين: ستعاملين هنا كمليكة. وللاحتفال بهذا، ندعوكما، أنا وزوجتي، إلى شرب كأس الصداقة. نجا! صاح باتجاه المطبخ، اسقي الجميع، إنها دورتي!
نجا المشعّة، ظهرت وملء ذراعيها "الخنازيريات" الكاشير:
- اجلسوا! افعلوا كما لو كنتم في بيتكم، نحن أسرة واحدة هنا!
تقارعوا كؤوسهم، وتمازحوا، في جو من البراءة والطفولة. وقليلاً بعد ذلك في المساء، سمع يوسي من مكانه قرب النافذة، أحدهم من الشارع مناديًا:
- بِسّ، يا أخي!
كان مهبول الذي يعود، "هانوكا" بيده، وقلنسوة موضوعة بالمقلوب على مقدمة جمجمته، على طريقة رقاصي "السيرتاكي".
- منيح هيك؟ همس مشيرًا إلى رأسه.
عَمَلَ له يوسي إشارة لدفعها قليلاً إلى الوراء، وغمزه غمزة مشجعة. عند ذاك، دخل مهبول الفندق مبالِغًا في حركاته الآلية.
- مساء الخير، أريد غرفة، قال مشددًا على رنة صوته كي تبدو أكثر جسامة.
سارعت نجا بالحضور قبل زوجها، وهي تقلّب القادم الجديد من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وهتفت:
- يالله، العيد هادا المسا! لو كان عليّ السماع لزوجي، لقلت لك اذهب وَرَ عند غيرنا! لكن اللعنة هربت من فندقنا، سيكون استقبالك، نعم، هنا سيكون استقبالك، أنا من تقول لك!
وهكذا تم حل المشكل.


يتبع الفصل الرابع