الرهانات الخطيرة للسيسي

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 4820 - 2015 / 5 / 28 - 23:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بعد ما يقرب من عام على حكمه، لازال الرئيس السيسي يعتقد بأن مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة والتي لعبت المؤسسة العسكرية على مدار نصف قرن دورا كبيرا في استفحالها، يمكن لذات المؤسسة أن تحلها بقوة السلاح والمحاكمات العسكرية وأحكام الإعدام بالجملة وتكميم الأفواه وتجاهل قوى المجتمع المدني وكل الأصوات المعارضة التي تسعى بالفعل لمساعدته في إنقاذ ما تبقي من مصر وبعثها من جديد.

السيسي جيء به كرئيس من قبل المجلس العسكري لتحقيق معادلة صعبة تتمثل في حماية الإمبراطورية الاقتصادية التي بناها العسكر على مدار حكم اللص المخلوع مبارك، وفي ذات الوقت العمل بجدية وحزم وبمشورة وحماية المجلس العسكري على التخفيف من معاناة المواطن البسيط والتي تتجه في خط مستقيم من سيء لأسوأ وتتمثل في البطالة وانخفاض الدخل وارتفاع الأسعار وانهيار منظومة الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والمرور والنظافة...الخ وغني عن القول فإن العسكر يؤمنون بانه في حال تحقق هذه المعادلة سيكون بمقدورهم الاستمرار في حكم مصر إلى أمد بعيد بدعوى أن المصريين لا يبالون كثيرا بالديمقراطية وبمبادئ حقوق الانسان عبر تاريخهم طالما انهم يحصلون على لقمة العيش.

وحتى الآن فإن السيسي ناجح بامتياز في تحقيق أحد طرفي المعادلة وهو حماية مصالح العسكر بل إنه تمكن من زيادة نفوزهم وامتيازاتهم وتوغلهم في كل مؤسسات الدولة المصرية بشكل غير مسبوق.

أما على مستوى الهدف الآخر في أجندة السيسي وهو التخفيف من معاناة المواطن البسيط فإن السيسي لم يحقق أي تقدم يذكر بل أن الأوضاع تزداد تدهوراَ فالبطالة والأسعار تزداد حدة نتيجة سوء إدارة موارد الدولة المحدودة واختلال سلم الأولويات في الخطة الاقتصادية التي يتبناها السيسي والتي تركز على بعض المشروعات الضخمة التي تفوق امكانيات الدولة في هذا التوقيت السيئ مثل بناء عاصمة جديدة تقدر تكلفتها ب 50 مليار دولار في مراحلها الأولى و تعتمد في تمويلها على أموال دول الخليج العربي خاصة الامارات، بالإضافة إلى الرهان الكبير على مشروع التفريعة الجديدة لقناة السويس. وذلك كله بدلاً من التركيز على تشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة التي تقوم عليها نهضة الدول الفقيرة الموارد وكثيفة السكان والتي لا تلقى أي رعاية من الحكومة المصرية.

العاصمة الجديدة التي خطط لها المطور العقاري محمد العبار سوف تحتوي على حديقة تبلغ ضعف مساحة الحديقة المركزية الضخمة في مدينة نيويورك وعدة ناطحات سحاب ومدينة ملاهي أكبر من ديزني لاند في ولاية فلوريدا.
ويتضح من هذا أن من سيستفيد من هذه العاصمة الترفيهية الجديدة هم الأخ محمد العبار ومجموعته وأغنياء المحروسة ولا عزاء لفقرائها. ويتضح من هذا أيضا أن السيسي لم يتعلم شيئا من تجربة مغامرة مشروع توشكا الفاشلة لرئيسه السابق مبارك والتي ضاعت فيها المليارات وبقيت على حالها كقطعة جرداء في الصحراء الغربية نتيجة سوء التخطيط وغياب دراسات الجدوى الاقتصادية الجادة.

ويتواكب مع هذا التخبط اهمال تام لمنظومة التنمية البشرية وهي ما نطلق عليه البنية الفوقية ونقصد بهذا التعليم والتدريب والصحة وتحقيق حد أدنى للدخل الفردي وتضييق فجوة الدخل الهائلة بين الأغلبية الفقيرة والأقلية الغنية التي تتمتع بكل خيرات مصر عن طريق اتباع سياسات مالية ونقدية هدفها الأساسي هو تحقيق العدالة الاجتماعية وصيانة كرامة الإنسان وهو الهدف الأسمى لكل سياسات التنمية الاقتصادية.

السيسي يركز فقط على هذه المشروعات الضخمة كنوع من الإبهار للمواطن البسيط وعلى أساس إن عائدها سريع و ملموس عوضاً عن مشروعات البنية الفوقية ذات العائد البطيء وغير الملموس وينسى أن من ينفذ ويدير ويراقب كل هذه المشروعات هو الإنسان، ولو أن هذا الإنسان غير مؤهل تعليمياً وصحياً ويشعر بعدم الاستقرار وأنه مغيب وليس له دور في بناء الوطن غير دور تلقي الأوامر العسكرية فإن النتيجة الطبيعية لهذه السياسة عادة ما يكون هدراَ لموارد الدولة المحدودة خاصة عندما يرى هذا المواطن أن السيسي ومن حوله لا يخضعون لأي نوع من المسائلة وليس لهم مرجعية وأنهم فوق القانون في ظل غياب السلطة التشريعية والقضائية ، وهو ما يعني للمواطن العادي غياب القدوة والمثل الأعلى وانتصار شريعة الغاب على دولة المؤسسات والقانون.

أن ما ينفق الآن من موارد مصر على قمع المصريين وحماية النظام الحاكم يفوق بمراحل ما ينفق على تنميتهم.

والمشكلة هنا هي أن السيسي مقتنع تماماً بإمكانية تحقيق كل اهدافه بالقوة الغاشمة والتخويف والاعتقالات وبأن إرضاء الأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية أهم وأولى بالاهتمام من إرضاء المواطنين البسطاء خاصة من يعيش منهم في القرى والنجوع والأرياف على أساس أن هؤلاء ليس لهم حيلة ولا قوة وأنه مشهور عنهم الصبر بلا حدود والرضا بالفتات وإنه يمكن للأجهزة الأمنية إخضاعهم من خلال الإعلام الموجه والقمع والأحكام القضائية السريعة والباترة. ولذلك قررت حكومة السيسي أن يتحمل الفقراء وحدهم أعباء عملية الإصلاح الاقتصادي من خلال البدء بالإلغاء التدريجي للدعم على السلع والخدمات الأساسية بدلا من البدء بسياسات مالية تهدف إلى إعادة توزيع الدخل بشكل تدريجي.

في بحث سابق لنا عن أسباب فشل الدول بينا أن نموذج الزعيم الملهم ومبعوث العناية الإلهية والذي يتمتع بالحكمة والحنكة ويفهم في كل شيء ولا يحتاج لاستشارة شعبه ويكره معارضيه ولا يستمتع إلا لصوته وصوت المقربين منه هو نموذج مآله الفشل. وبينا أن الدول التي فشلت عبر التاريخ فشلت عندما ضعفت مؤسساتها وفقدت استقلاليتها وتحولت إلى هياكل ديكورية مفرغة لا يملأها إلا الفساد والمنافقين ولا يوجد أي تنسيق بينها وتعمل دون رؤية واضحة وللأسف فإن هذا هو حال كافة مؤسسات الدولة المصرية منذ عهد مبارك وحتى الآن حيث يتم تأليه الحاكم وتقزيم مؤسسات الدول. وللأسف فإن ما سبق هو أيضا حال كل الدول العربية.

ولكن أكثر ما يخيف ويعجل بفشل اي دولة هو غياب صوت العدل ممثلاً في السلطة القضائية وغياب صوت العقل والابتكار ممثلاً في التعليم والبحث العلمي وكلنا يعرف حال القضاء المصري الآن وحال الجامعات المصرية التي تحولت إلى مدارس ثانوية متخلفة وحتى الجامعات الخاصة تحولت إلى جامعات هادفة للربح عكس كل المنظومات الجامعية في العالم التي تهدف بالأساس إلى البحث والتطوير.

أثناء زيارتي الأخيرة للقاهرة منذ أقل من شهرين أصبت بحالة من الاكتئاب بعد مطالعتي لأطروحة دكتوراه قام بها طالب في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهي الكلية التي درست بها ولا أدري كيف تم اعتمادها من أساتذة أعرفهم.
وكما قلنا سابقاَ فإن معظم هذه الأطروحات لم تعد أكثر من عملية نقل رفات جثة ميت من مقبرة قديمة إلى مقبرة جديدة.
كل القراء يعرفون أن شركات الميديا العملاقة التي تتحكم في العالم الآن مثل مايكرو سوفت وجوجل وفيس بوك وغيرها بدأت على يد طلاب جامعيين، كما أن كل الاختراعات العلمية الحديثة وكل النظريات الاقتصادية الجديدة في الغرب تأتي من الجامعات بالأساس. أما لدينا فإن نظام السيسي توصل في معامله العسكرية إلى اختراعات مذهلة مثل جهاز العلاج بالكفتة وبناءا عليه فقد تقرر الاستغناء عن خدمات الكثير من أساتذة وطلاب الجامعات وإيداعهم في السجون.

والخلاصة أن رهانات السيسي على المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية وإهمال ما عداها هو رهان خاسر ولن يدفع ثمنه إلا المواطن الغلبان.
إننا ندعو الرئيس إلى محاولة إدماج دولة المؤسسة العسكرية في كيان الدولة المصرية تدريجياً إذا كان مخلصاً بالفعل في مقولته " بأن مصر أم الدنيا وحتبقى أد الدنيا " وعليه أن يعتمد على قدرات الشعب المصري التي ليس لها حدود لو تم احتضانها وتوفير البيئة المناسبة لها للعمل والإبداع. وعليه أن ينسى أوهام " مسافة السكة " وتكوين قوة عربية مشتركة لاستجلاب المزيد من المال من دول الخليج.

إن الرهان على بناء مصر اعتمادا على المساعدات الخارجية خاصة تلك التي تقدمها بعض الدول العربية هو رهان بائس وخطير لأن العرب كما هو معروف عنهم عنصريون ولا يحبون بعضهم البعض ولا يجتمعون إلا لبحث خلافاتهم التي لا تنتهي ولم يحدث في تاريخهم أن بنيت دولة عربية بمساعدات عربية ذات معنى مثلما فعلت أمريكا على سبيل المثال مع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

ويكفي في هذا أن نذكر أن الإيداعات التي تقدمها دول الخليج لمصر منذ الانقلاب تتم في شكل قروض وبأسعار فائدة تصل إلى 2.5% على الدولار أي أنها ليست منحاً أو مساعدات حقيقية وإنما هي ديون لزيادة أعبائها وإّذلالها.

يا سيادة الرئيس إن استخفافك بشعبك الذي أنكرت عليه أبسط حقوق الانسان وهو حرية التعبير أدى إلى انحدار مكانة مصر والمصريين بين كل الدول بشكل غير مسبوق.

يا سيادة الرئيس راهن على شعبك الذي بات يشعر بالغربة في سجن كبير اسمه الوطن بدلاً من رهانك الخاسر على الآخرين.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري