مدام ميرابيل القسم الثالث4 وأخير


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4811 - 2015 / 5 / 19 - 11:41
المحور: الادب والفن     

في الصباح، عندما فتحت مارغريت عينيها، لم يكن جول هناك. نظرت حولها، كانت وحيدة في سريرها، مهجورة. أحست بالحزن العميق، سوداوية، مسيخة. علاوة على الحزن المعزو لذهاب جول، أحست بالارتباك، فيها، في داخلها، باختفاء حبها الذي لا يُروى، حياتها، كل شيء. صاحت بكل قواها عندما أدركت أن جول قد ذهب بالفعل. كيف تركته يذهب؟ كانت على التأكيد مجنونة! مغفلة! حمقاء كأسماك نهر السين! أخذت تتكلم مع نفسها، تقول كلمات خرقاء، أنها كانت خطأً تاريخيًا، أنها كانت إيمانًا راسخًا، وأنها لن تخطئ في الحكم على أحد في المرة القادمة. اعتمدت على الأثاث، وفركت جسدها بالعطور، كما كان جول يحب أن يفعل، ووضعت جوارب حريرها الأبيض ورافعة ثديي حريرها الأبيض، وفستان حريرها الأبيض. وهي ترى نفسها تعوم في بحر الحرير الأبيض، فكرت أنها بلغت من السخافة إلى حد أقصى. سددت تهمة إلى نفسها، تهمة على تهمة، ونزلت إلى صالون الفندق. طلبت قهوة، وعينها تمر على النزلاء دون أن تراهم. كانت تبتسم بحزن، بغموض، تتنهد، وهي تبتسم. كانت تبتسم بقوة، أو ببعض قوة، وكانت تتكلم مع ظل جول أحيانًا، ومع ظلها أحيانًا.
داومت على الذهاب والإياب بين غرفتها والصالون طوال أيام، في فستان حريرها الأبيض دومًا، دون أن تتكلم مع أحد سوى ظل جول أو ظلها. وإلى ما لا نهاية، رسمت على شفتيها نفس ابتسامتها الحزينة لكل من ينظر إليها. أشفق عليها البعض، وتجاهلها البعض، وحزنُها ثابتٌ مِثْلُ الصخر. وفي اليوم الذي رأت فيه خنزيرًا بريًا سمينًا يجلس على المشرب، وهو يعطيها ظهره، أخذ قلبها بالخفق عنيفًا. ابتسمت، وزحفت نحو المشرب، ببطء الأشباح... لم أكن أنا، دافيد، المجنون دافيد، المغفل دافيد، الذي هجرها على الرغم منه. أصابها الندم، وهي تتذكر أنها لم تفكر فيّ، في قصتها معي، منذ زمن طويل جدًا. في يوم من الأيام أحبتني... كيف أمكنها نسيان من أحبته بذلك القدر؟ هل ستنسى جول كذلك؟ عادت إلى حجرتها بسرعة، وانزوت فيها. بعد عدة أيام، جاء طبيب الفندق يطرق بابها، ووجدها في حالة من تثور أعصابه ويرتعد بتأثير العاطفة، بيضاء، مريضة، جِد مريضة. نصحها بالنزول في مستشفى عدة أيام للتغلب على ما هي فيه، فرفضت. قالت "مرضها لا يعالج في المستشفى". كانت تأكل أقل من قليل، فأعطاها الطبيب فيتامينات الكثير منها، إضافة إلى بعض المسكنات. وعدته بالأكل، بتناول وجباتها الثلاث. مع ذلك، كانت من الحب مريضة، وأوجاعها سعادتها الوحيدة. أن تموت من الحب وحيدة، كانت رغبتها القصوى.
عندما أحست مارغريت باستعادتها لقواها، عامت في بحر حريرها الأبيض، وأخذت تتناول قهوتها في الصالون. طلبت المصعد، وضغطت على زر الطابق الأرضي بدقة متناهية. في اللحظة التي انغلق فيها باب المصعد، منعه ظلف ضخم، فعاد ينفتح، ودخلتُ. ارتجفتْ بكل كيانها، وأنا آخذ مكانًا قربها دون أن ألفظ كلمة واحدة، كالخطاب الذي قيل، كالكلام الذي لم يُقَلْ. ومن جديد، أحست بكونها تمثالاً من تماثيل حديقة اللكسمبورغ، إن لم يكن عمودًا من أعمدة البانتيون، من الحجر البارد. خرجنا من المصعد، فتعثر قدمها، وكادت تسقط. أمسكتها من ذراعها، فاعتمدت على ذراعي، واتجهت برفقتي نحو طاولة في الصالون. حضر النادل، فطلبتُ اثنين قهوة.
- أهلاً وسهلاً، موسيو هازار (سيد صدفة)! همهمت مارغريت بصوت منهك.
- أنت لن تصدقيني إذا قلت لك إنني أصحب لجنة إلى مؤتمر حول حرية ال...
- نعم، أهلاً وسهلاً بك، موسيو هازار!
- نعم... الحقيقة، لا يد للصدفة في شيء، فلا مؤتمر هناك، لا شيء من كل هذا. لقد بحثت عنك، يا مارغريت، بحثت عنك في كل مكان خلال شهور قبل أن أجدك هنا.
- لن أسألك لماذا ذهبت، لكن لماذا عدتَ؟
لم أجب في الحال، ضغطت على يدها، وهي تهمهم لنفسها:
- حق النسيان...
- لماذا عدتُ؟...
- لتعتدي على الحق الوحيد الذي بقي لي، حق النسيان.
- لأني أحبك، يا مارغريت.
أرادت أن تنفجر ضاحكة لكنها لم تصل إلى ذلك.
- أحبك لا كما أحبك أحد من قبل!
- بعد فوات الأوان! الوحيد الذي أحبني بالفعل طلبت منه أن يهجرني، ففعل، وأنا لا أعيش اليوم إلا لذكراه.
- آه! لا، لم يولد من سيحبك بالقدر الذي أحبك فيه.
- لنسلم بصحة ما تقول، على كل حال أنا لم اعد أحبك، يا دافيد، جول من أحب، أحبه أكثر من كل شيء، أكثر مني.
أحضر النادل القهوة، فشربتْ عدة جرعات صغيرة، ويداها ترتعشان. وضعتِ الفنجان، وكادت تقلبه.
- أنا آسف لكل ما حصل، تلعثمتُ، يا لي من مغفل! لم يكن عليّ الذهاب، ودفعك إلى فعل ما فعلتِ... مع ذلك، كان من اللازم أن أذهب لأعرف الحب الذي أكنه لك. عدت إلى الأماكن التي ارتدناها، انتظرت طويلاً على الدرج، في الظلام، شارع موفتار، ذهبت إلى المصنع حيث كنت تعملين، وعند زميلتك جوزيان، كذلك. أحد أولادها هو الذي قال لي أين تسكنين، شارع فوش. قابلت ابنتك هناك، لا اتصال بينكما منذ بعض الوقت، فأخذتُ أبحثُ عنك في كل فنادق باريس، وأخيرًا، ها أنا اليوم أجدك. موسيو هازار بعيد الآن، مات. يا له من غائط! الآن، أنا ملكك بالقدر الذي أنا ملكها، مارغريت الأخرى. أنا كاتب في الوقت الحاضر.
- ملكها من؟
- بطلة روايتي. هل نسيت ما وعدتك به؟ كتبت روايتي عنك، لم تبق سوى النهاية.
ابتسمت مارغريت بمرارة:
- يا لها من محظوظة؟
أمسكتها من كتفيها، وكدت أقصفها، بقدر ما كانت معطوبة.
- جئت لأجلك! عدت لأجلك، يا مارغريت، لأجلك وحدك!
- عدت لأجل نهاية روايتك...
- لا، عدت لأجلك! أقسم أني بحثت عنك في كل مكان، طويلاً، دون أن أجدك، بحثت عن طعم فمك على شفاه أحرى، بحثت عن جمر ثدييك على أثداء أخرى، بحثت عن جسدك الحريري... لكن أبدًا لم أجد ما يضاهيه. كدت أفقد عقلي! والآن وأنا في الأخير أجدك، تريدين أن توهمي الكون أنني عدت لأجل نهاية روايتي...
أنهت احتساء قهوتها، وأصابعها ترتعش دومًا، ونهضت بصعوبة، بجسدها المنهك، المضنى:
- أنا مريضة! أنا حزينة! دعني وشأني، من فضلك!
اتجهت نحو المصعد بأسرع ما تقدر عليه، كانت ضعيفة جدًا، ولا تستطيع الوقوف على قدميها. أرادت الابتعاد عني، بأية وسيلة.
في غرفتها، بلعت مسكنًا، وألقت بنفسها على السرير. رأت، في الحلم، قطيعًا من الخنازير البرية يطاردها، يسحقها، يمضي على جسدها. استيقظت، وهي تتصبب عرقًا. لقد وقع في غرام بطلته، هذا كل ما هنالك، قالت لنفسها. نهضت، وذهبت إلى المرآة. منذ زمن طويل لم تنظر إلى نفسها في المرآة. كانت لها هيئة حزينة وتعبة، لكنها كانت جميلة دومًا. نحيفة، لكن جميلة. اقتربت من الأخرى في المرآة، وقبّلتها. لم تزل النار تسيل في عروقها، ومع ذلك، منذ لحظة، كانت تشعر بكل عذابات العالم في جسدها. كانت لحظة الموت الأخيرة، أجمل لحظات الوجود!
ارتدت فستانها الحريري الأزرق المخضر، وجاءت تطرق الباب عليّ، في الطابق نفسه. وجدتني مريضًا، تعيسًا، يائسًا، ووجدتها كالماضي في كامل أناقتها وأبهتها. جذبتها بين ذراعيّ، وقبّلتها برقة، فأخذتني إلى الشرفة.
- هذه الليلة، سأقضيها معك، قالت.
- أحبك، رددتُ.
- هل تحبني؟!
- سامحيني، لم أستطع حبك، لم أعرف حبك.
- لأنك تعرف حبي الآن؟!
- سأثبته لك حالاً، إذا أردت. أنا لا أعرف العوم، يا مارغريت، مع ذلك إذا ما طلبت مني، ألقيت بنفسي هناك، في البركة.
وصعدتُ على الدَّرْبَزين.
- أنت مجنون! أنا لا أريدك أن تلقي بنفسك في الماء، أريدك أن تدعوني إلى العشاء، في أعلى مطعم في باريس، مطعم آخر طابق من طوابق برج مونبارناس.
لم تعرف كيف تمسكني، ففقدت توازني، وسقطت في البركة. غبت في القعر، بينما هي تطلب النجدة. صعدتُ، وأنا أتعارك مع الماء، ومن جديد، غطستُ. جرى حارس، وقفز في الماء، ليخلّص جسدي في بضع ثوان. نزلت مارغريت، بالسرعة التي تقدر عليها، فثناني منقذي، وبصقتُ الماء الذي ابتلعته.
- أنا آسفة، اعتذرت، إنها غلطتي!
- هذا لا شيء، أجبت، كنت مستعدًا للموت من أجلك.
رافقتني إلى غرفتي، باسمةً، وأعانتني على تبديل ملابسي.
- من هو جول، سألتُ فجأة.
ابتسمت دون توقف: لن آخذ مكان جول. كانت تواصل التفكير فيه، لم تنسه. ستكون إذن ليلتها الأخيرة، لحظتها الأخيرة قبل أن تستسلم للموت. ستعيش كالماضي، في المتعة والغرام، دون التفكير أكثر.
- هل هذا لروايتك؟ قالت.
- لا. مارغريت...
- سأحدثك عن جول فيما بعد.
قبّلتها:
- لنمارس الحب إذن، مارغريت. أنا أرغب فيك، أرغب في مضاجعتك كالخنزير البري!
وضعت يدها بين شفاهنا:
- فيما بعد. أريدك أن تأخذني إلى المطعم أولاً.
تركنا الفندق إلى برج مونبارناس، وذراع الواحد تتعلق بذراع الآخر كعاشقين.
- إنها أجمل لحظات حياتي، اعترفت، وأنا أشدها إليّ.
وقفنا عند قدم برج مونبارناس، فرفعت مارغريت رأسها عاليًا دون أن تستطيع تمييز الطوابق الشاهقة من ناطحة السحاب. أغمضت عينيها في المصعد بسب سرعة الجهاز، أصيبت بالدوار، وهمست، ورأسها ينحني، مرتعشة من اللَّذة:
- آه! كم هذا مدهش! كم هذا مثير!
ولم تفتح عينيها إلا مع التوقف الكامل للمصعد، عند حافة السماء. قطعت بسرعة قاعة المطعم، لتخرج إلى السطح، وتتأمل باريس من خلف الجدار الزجاجي، باريس صغيرة، جِد صغيرة.
- هل أنت سعيدة، يا سيدتي؟ كل باريس تحت قدميك!
- نعم، همست، وهي تتنفس عميقًا، أنا سعيدة جدًا!
كان برج إيفل من بعيد يبدو كدمية في غمام من القطن، قوس النصر، الأوبرا، كاتدرائية مونمارتر، دمى أطفال في بحر من الموت الأبيض.
- هل ترى قنطرة الآلما، هناك؟ قالت، وهي تشير إلى القنطرة الخافية، سيهدمونها، ليقيموا على السين تمثالاً ضخمًا يهدونه للحب.
- يحيا الحب! هتفت بحنو. هل تحبينني، يا مارغريت؟ لأثبت لك أني أحبك، سألقي بنفسي من هنا، إذا ما طلبت مني ذلك.
- أنت مجنون بالفعل! أريد فقط قضاء هذه الليلة معك، كما لو كانت آخر ليلة لي، أجمل ليلة لي.
- لكني أحبك، يا مارغريت. هل تصدقينني؟
- سأقول لك فيما بعد.
- فيما بعد!
- نعم، فيما بعد.
- فهمت، أرى جيدًا أنك لا تصدقينني، وأنا النعل لحذائك، المنديل لبصاقك، الوعاء لبولك! لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟
- اطلب لنا العشاء، مثلاً!
- أنت تسخرين بي.
- أنا جائعة.
أشرت إلى رئيس النُّدُل، وطلبت عدة أطباق، وكذلك شمبانيا. لم تأكل ولم تشرب بالقدر الذي أكلت فيه وشربت في حياتها. دار رأسها، فمالت نحوي، وراحت تقبّلني، تقبّلني، بتهيج، بهوى، هواها لكل عشاقها الماضين أو الذين حلمت بهم. قمت، وحملتها بين ذراعيّ، إلى المصعد.
- هل اجتزنا الطبقات المضطربة؟ همست مارغريت، نصف صاحية نصف غائبة، وهي ترتعش من اللَّذة.
- لا خطر عند الهبوط، حتى ولو كانت جبال هملايا!
لم أضعها على الأرض إلا ونحن على الرصيف، فغطتني بالقبلات، وأنا أرمقها بدهشة:
- لقبلاتك طعم آخر، طعم لا أعرفه.
قبّلتها لأريح قلبي، بأكثر حمية وأكثر لهفة، أكثر من أي وقت مضى. لا، لن تذهب أكثر مما ذهبت. خلال ساعة، سأكون عاشقًا مجنونًا، مليئًا بالأمل، ومرة أخرى، ستفوّت كل شيء.
- الوداع! الوداع، يا دافيد!
كانت ابتسامتها تعبر عن كل حزن العالم.
و... لن تصدقوا. أوقفت عابرًا له هيئة الغبي، غير بعيد عن الفندق. فسكنتُ، مشدوهًا، لا أستطيع القيام بحركة واحدة. تكلمت مع العابر، وهي تستطيل نحو شفتيه، بينما الأرض تميد تحت قدميّ. جاء الرجل، وأعطاني ثمن العناق.
أمسكتْ بذراع الرجل، وأخذته إلى فندقها. جمدتُ جمود الحجر، وأنا أعجن الأوراق النقدية في قبضتي، وأكاد أمزقها. قبل أن تدخل الفندق، استدارت نحوي، إشارت بيدها، ثم اختفت.
انهرت باكيًا.
تسكعت طويلاً، وأنا أفكر في مارغريت. كانت قلبي، روحي، عقلي، كل كياني، صدقوني. ومع ذلك، كان لا يمكنها أن تكون إلا إلهة الحواس، الحب متجسدًا، جسد كل العشاق، حب كل الرجال، لا خليقتي التي لي وحدي. لم يوجد الكاتب الذي هذه خليقته، لن يوجد، فهي خليقة نفسها، الكلمات بأمرها تكون، والصور، والأفكار، وبأمرها يكون الكاتب، وأنا لم أكن أمرها. غرزتُ النقود في رافعة ثديي عاهرة كانت تقف هناك، واختفيت دون أن ألتفت أبدًا. بقيت البنت في مكانها زائغة البصر، تنظر إلى النقود في يديها، وتنظر إلى الشيطان في يديّ.

مارغريت...
مارغريت دائمًا ودومًا.
مارغريت أو المنفى الأبديّ...

مع حلول الربيع، المفرط الحيوية، السريع الزوال، اللا يُقَاوَم، الربيع الذي لم نقطع الأمل فيه دون جدوى، ساءت صحة مارغريت. لم يعد قلبها يحتمل العذاب، وكان جسدها كثير القصم ليحتمل أيضًا وأيضًا نار الحب المطاردتها. كانت تحب جول، وكانت تريد أن يأتي ليراها. كانت تريد أن تراه للمرة الأخيرة، قبل أن تقول الوداع للحياة.
ثم مع كثير من العناد، أقنعت الطبيب أن يتركها تذهب عند جوزيان الصغيرة، حيث ستلقى اليد المسعفة. فكرت في جوزيت، الابنة البكر لجوزيان الصغيرة، وفي باقي أخواتها وأخوتها. كانت تجهل لماذا هذه الرغبة المفاجئة لرؤيتهم. عندما جاءت جوزيت تضمها بين ذراعيها، وهي تنزل من سيارة الأجرة، ظنت في البداية أنها جوزيان الصغيرة. سمنت كأمها، وفضلاً عن ذلك كانت قصيرة. بكت كلتاهما مِدْرارًا.
على الفور، ذهب يهوذا عند آنييس ليعطيها أخبار أمها. قالت جوزيت لمارغريت إن يهوذا أصبح صديق آنييس، وإنه بفضلها سيكون بإمكانه أن ينهي دراسته، ليصبح يومًا مهندسًا في تقنية الطيران. وهي، جوزيت، بفضل آنييس دومًا، حلت محل أمها في المصنع، وكأمها أصيبت من العسل بالحساسية. ما عدا هذا، انتهى بهم الأمر ككل الناس بالوقوع على روتينهم الصغير. اشترت جوزيت سيارة صغيرة بالتقسيط، بفضل بنك السيد هنري الذي منحها قرضًا دون فوائد، ومع المكافأة التي حصل عليها المضربون، والتعويضات للضحايا، بدلت العفش، واقتنت كل الأدوات المنزلية. كما أنها ستشتري بعض أسهم المصنع –بقرض دومًا لكن بفوائد هذه المرة- كباقي زملائها. إنه نظام البورصة الذي يجري العمل به في كل مكان.
في الغد، جاءت آنييس لتلقي بنفسها في أحضان أمها، وتطلب منها الرجوع معها إلى شارع فوش، فرفضت مارغريت: كانت تريد أن ترى جول.
- تعالي، يا ماما، سنعود إلى بيتنا. كل شيء على ما يرام الآن، أنا أتفاهم تمامًا مع هنري، وسنكون سعيدين بالفعل أن تعودي إلى العيش معنا. سنبدأ من الصفر، يا ماما، تعالي...
دون أية فائدة.
أوضحت البنات لآنييس أن أمها نادت جول كل الليل، وأنها هلوست هلوسات غريبة ظنًا منها أن جول يجلب لها الدواء أو أنه يزورها.
في المساء نفسه، اتصلت آنييس بجول، ووصفت له حالة أمها: أنها على وشك الموت، وأنها تريد رؤيته. غدا جول مجنونًا، وسارع إلى الذهاب عند جوزيان الصغيرة. ذرف الدموع الحارة على صدر مارغريت، ورجاها أن تتركه يأخذها إلى المستشفى. بكت مارغريت، كما بكى، كل ما في جسدها من دموع، وكل حنوها، وطلبت منه أن يذهب بها إلى شقتها، شارع موفتار.
في شقتها، بقيت مع جول تمارس الحب خلال يومين كاملين، دون طعام أو شراب، على أمل أن تموت من الحب، لا شيء غير الحب. بعد ذلك، سيعود جول إلى امرأته. هي، مارغريت، قبل موتها، لم يعد لها أحد غيره، وهو، جول، بعد موتها، لن يكون له أحد آخر غير امرأته...
في شارع الأدونيسات الدموية، شارع موفتار، نطق الشارع، قال مارغريت، وبكى الرصيف، في اللحظة التي انقضت فيها الجرافات على البنايات كالحيوانات المنقرضة. كان الموت والركام في كل مكان، وكانت باريس تختنق، وتتحشرج، تطلق حشرجاتها من أعماق نهر السين المحتضر.
نادى الشارع مارغريت بأعلى صوته، فاستقام جول، المستلقي على مارغريت، وركض نحو النافذة:
- لن يتأخروا عن هدم البناية.
- هدم البناية؟
- نعم.
- سيهدمون البناية؟
- يجب الذهاب، يا مارغريت.
- باريس، هيبوليت، أنتَ، قالت خائرة القوى. دعني...
- ستموتين.
- سأموت سعيدة.
- لهذا عدتِ.
- لهذا.
- كنتِ تعرفين جيدًا أنهم سيهدمون كل شيء...
- كنتُ أعرف.
- إذن لماذا؟
- لأني لن أجد بيتًا لي أبدًا، لأن لن يكون وطنٌ لي أبدًا. في زمننا، على كل حال، لا توجد أوطان، توجد منافٍ نجد فيها مسكنًا أحيانًا...
- تقصدين الموت والعدم!
- الحب... مسكني الحب، وأنت، يا جول، أنت حبي. دعني أموت، أنت وطني الوحيد، فضائي الوحيد.
- لست وطنًا لأحد!
- بلى.
- لم يضع شيء، يا مارغريت، تعالي معي.
- لماذا؟
- لتحبيني إلى الأبد، لتبقي دومًا معي.
- سأحبك إلى الأبد، يا جول...
- وماذا سيبقى لي من بعدك؟
- حبيبتك الأخرى وحبي الأبدي. هكذا سأكون هنا دومًا ولن أزعجك.
عانقها، وانفجر باكيًا.
- لا تبكِ، يا حبي، قالت له، سأموت سعيدة.
- لكن أنا لا أريد أن تموتي.
فاض وجهه بالدموع، ومارغريت تردد دومًا، وهي تسحب قدمها من العالم: "يا حبي، يا حبي...". ثم أخذت تصرخ من الألم، وهو يصرخ معها.

سأل العمال إذا ما لم يزل هناك أحد في البناية، وهم يرون جول يخرج منها، فقال لهم إنه الأخير. لم تبق سوى الذكريات... بعد ذلك في الحال، عادت المحركات إلى أشغالها الجبارة، وانقضت الآلات على الجدران الهشة للبناية. يا حبي... يا ح...
ابتعد جول في الغبار، والدموع تمسخ وجهه.
في السماء، كان هناك من الطيور أغربها، "الحمصور"، طيور نصفها حمامة، ونصفها عصفور، أشبه بتلك التي سمع عنها في مدينة مونتري-سو-بوا، وهي ترقص اثنين اثنين، فظن في البداية أن اثنين منها ذكران واثنين منها أنثيان، لكنه ما لبث أن فهم أن ثلاثة منها ذكور وواحدة أنثى، لما أخذ الذكور يتصارعون من أجلها.





الكتابة الأولى بالعربية باريس الجمعة الموافق 30 سبتمبر 1994

الكتابة الثانية بالفرنسة باريس 1997

الكتابة الثالثة بالعربية باريس الأحد الموافق 17 ماي 2015


مدام ميرابيل تروي مصير امرأة طموحة، تسيرها قيم الثراء والجاه التي تميز الوسط الاجتماعي لطفولتها. بعد الزواج من رجل غني، يدفعها ما أصاب أسرة الزوج من حظ عاثر إلى الطلاق، فتنزل من عَليائها لتكتشف عالم العمل، حيث تعيش مع ابنتها على الراتب الهزيل لعاملة. لكن بعد مغامرات عدة يعرف سرها أفنان القاسم، ستعود إلى الوقوع في سهولة حياة الغنى وتفاهتها، قبل أن تجد أخيرًا خلاصها في اكتشاف الصدق والحب الغير المغرض، حب سيذهب بها إلى التضحية بنفسها. يرسم المؤلف هنا شخصية غريبة جذابة، تحيل القارئ إلى قصص الحب الكبرى العالمية المكتوبة بالدم والدموع، والمنذورة حتمًا للنهاية الفاجعة.


أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...