مدام ميرابيل القسم الثالث3


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4810 - 2015 / 5 / 18 - 11:06
المحور: الادب والفن     

لا تمنع الممنوع! افعل الممنوع!
بدت آنييس في الضباب، فأخذ السيد هنري يهلوس:
- هذه أنت، يا مارغريت؟ تعالي...
عانقته آنييس في الضباب والظلام، وجامعته، وهو يرجو، ويتوسل:
- ارأفي بي، يا مارغريت! لدي ما هو خطير أقوله لك...
تركته آنييس يقول:
- في الماضي، عرفت أمك... لكني سأبقى زوجك دومًا، يا ملاكي...
لم تفهم آنييس جيدًا ما يحكي، فُتِنت في دينها، وأيقظ فيها من الشكوك غريبها، فأبدت نفسها في الضوء:
- وأنا، من تكون لي؟
عندما عرفها، شحب، وأخذ يتأتئ، ويرتعش، وهو يعمل لا برأسه.
- لماذا فعلت هذا، يا آنييس؟ لماذا فعلت هذا لي؟
جلست على صدره، وأمرته بالتوقف عن البكاء.
- كان عليكَ، بالأحرى، الانشغال بأمي، مع ابنك. أمي التي تخدعك، ومع ابنك الذي من لحمك ودمك، وليس أنا!... استيقظ، يا صاح! انهض!
نهض السيد هنري –عيناه النسريتان حمراوان من الغضب- وصاح كما لو طعن بخنجر:
- كل الناس إلا ابني! كل الناس إلا جول بين أبنائي!
ركض إلى غرفة مارغريت، ووجدهما في حضن بعضهما البعض. نادى رئيس الشرطة ليلقي القبض عليهما، إلا أنهما تركا الفندق الخاص في الحال. عاد السيد هنري إلى ذراعي آنييس، وذرف دموعه بغزارة.
- لقد فقدت أعز مخلوقين على قلبي دفعة واحدة!
- اخرس، أيها العجوز الخرف! أليسني هنا أنا؟
- حقًا، همهم السيد هنري. أنت تشبهين أمك إلى درجة...
- إذن لماذا تبكي، أيها المعتوه؟ سأصنع لك من الأبناء بالعشرات، فأعوضك عن نقيصتك بجول. وأنا، ألا أكفيك؟
- لكني... انتهيت. بدأت أشيخ... لن يعود أي شيء كالماضي بالنسبة لي...
صفعته.
- ستورثني كل شيء، هل تسمع؟ ابتداء من اليوم، سأكون كل شيء بالنسبة لك.
قبّلته، وعاد إلى البكاء.
- ارأفي بي، يا آنييس! أنا مثل جدك، حسب أكثر من لقب...
أبعدته هازّةً:
- ماذا تحكي؟
همهم السيد هنري، كطفل عليه الاعتراف بخطأه:
- كل شيء هناك، في الدولاب الحديدي.
وفي اللحظة ذاتها، دخل رشيد، وأعلن وصول رئيس الشرطة. ما أن اجتاز الرجل الباب حتى قفزت آنييس عليه، استلت مسدسه، وأطلقت بين قدميه.
- لا أريد إضرابًا بعد اليوم، مفهوم؟ ولا أريد أن أسمع أبدًا بالإسبِرانتو! المضربون لا يردعهم إلا هذا...
أفرغت المسدس، ورئيس الشرطة يحرك أذنيه، ثم خرج، وهو يتراجع القهقرى.
- عصابة مجانين!
نادت آنييس رشيد، وطردته.
- انتهى، لم نعد بحاجة إليك!
- لكنه الوحيد الذي باستطاعته الإشراف على سير أشغال السين... قال السيد هنري، مضطربًا.
قهقهت آنييس.
- تريد القول: الوحيد الذي باستطاعته خنق باريس حتى الرمق الأخير! مرفوض!
تذكرت الدولاب الحديدي، فراحت تجري لتفتحه.
أوراق، لا شيء غير الأوراق. في البداية، لم تفهم كل شيء. كان الأمر يتعلق بملف جنائي حول حَضانة طفلة... بعد وقت قليل على موت جدها، كان السيد هنري أحد عشاق جدتها، في ذلك الزمن البعيد، قليل الشيوع، وولدت مارغريت، أمها.
نزلت مارغريت وجول في فندق "آخر الخط"، في حي مونبارناس، وقضيا وقتهما في النوم معًا، ولم يكونا ليخرجا إلا نادرًا. كانا يصرخان، وهما يقومان بفعل العشق، من ألم الحب، وكانا يموتان. ومع ذلك، لأول مرة في حياتها، فهمت مارغريت أنها لم تكن سعيدة، بسبب الحب الكبير الذي يكنه جول لها. لأول مرة في حياتها، كان رجل يحبها، وتحبه بالقدر ذاته، ولم تكن سعيدة. على العكس، كانت حزينة، قاتمة، وتشعر أن كل هذا الحب الذي بحثت عنه طوال كل حياتها لا يأتيها في نهاية المطاف إلا بالحزن والرتابة. فهل كانت أنانية إلى هذه الدرجة؟ هل كانت تبحث عن شيء آخر دومًا، حتى بعد أن وجدت الحب الكبير؟ ألا يكفيها الحب الهائل لجول؟ كانت دومًا ما تريد أن تُحِب وأن تُحَب كما لم يحب أحد. الآن، وقد استجيب لمطلبها، ها هي تبحث عن شيء آخر. أرادت أن يخترعوا لها شيئًا خاصًا، يتجاوز كل أهواء البشر!... بعد كل شيء، لم تكن أحسن من السيد هنري. هو كذلك كان يقطف وردة من كل حديقة ليشبع شهوته، لكن هي، كانت تريد أن تكون كل الحدائق ملكها. أنا دافيد، جيروم، جول... لا، لم تكن أحسن من السيد هنري! حتى أن السيد هنري كان أكثر منها إخلاصًا وصدقًا! تذكرت حاله، بعد الموت الغامض لسباستيان... ورد فعله الغاضب لحبه الأبوي لجول... بينما هي، لم تتردد عن ترك ابنتها، عن تدمير كل شيء من حولها، والتخلي عن كل شيء، الثروة، المجد، وكل ما حلمت به، باسم حبها الكبير لجول. في نهاية الحساب، لم تعش سوى حياة طويلة من النزق والهذر والعبث، توجها في الوقت الحاضر إحساس ثقيل بعدم الرضى والتعاسة.
طلبت من جول أن يغسل لها جسدها، أن يعطرها، أن يلبسها جوارب حريرها الأسود، أن يضع لها رافعة ثدييها، أيضًا من الحرير الأسود، أن يرمي عليها فستان حريرها الأسود. فكر أنها تريد الذهاب إلى المقبرة، لتضع باقة زهور على ضريح أمها، لكن، بابتسامة مفعمة بالحزن، قالت له بهدوء:
- اليوم يوم موت حبنا.
- ماذا تقولين، يا مارغريت؟ قال جول، وهو يشعر بالأرض، وهي تميد تحت قدميه.
تهشمت ابتسامة مارغريت:
- أنا لا أستحق حبك، يا جول!
- مارغريت، أنت الأفضل بين كل نساء العالم!
- أوه! أنت الوحيد الذي أحبني بصدق! أنت الوحيد الذي هجر العالم من أجلي! هل لهذا السبب؟
- ماذا؟
- لم أعد أريدك.
- ماذا تريدين أكثر من حبي، يا مارغريت؟ اطلبيني ما شئت، قولي لي ما يقلقك، قولي لي ما لا يمشي!
- ليست غلطتك، إنها غلطتي. لقد أخذت طريقًا خاطئًا، في حياتي!
- تقولين هذا لأنك كَرِبَة. سنخرج اليوم، سنذهب إلى مطعم، سنُمضي المساء في كباريه.
- لا، لستُ كَرِبَة. أنا أتوجع. أتوجع من الحب! الناس يسعدون لما يجدون الحب، وأنا أتوجع!
- أو بالأخرى، سنسافر. فلنذهب إلى المارتينيك، إلى أبعد جزيرة، وسأعرف كيف أجعلك سعيدة، سنكون أسعد زوجين في العالم.
- حتى في جنان النعيم لن أكون سعيدة. اسمعني، يا جول. أنا أرى بوضوح في الوقت الحاضر: لقد أخطأت الطريق! أنا لست أنانية، أنا الأنانية! أنا لا أريد أن أحب، أريد الحب! أعظم الحب حبك لن يكفيني! أبدًا!... يجب أن تعود إلى زوجتك. أنتما تحبان بعضكما حبًا صادقًا، إنسانيًا، لكني أنا لست إنسانية! أنا إنسانة رهيبة لا توجد إلا في الخيال. ربما كنت أنتمي إلى زمرة الملائكة أو زمرة الشياطين، وفي كلتا الحالتين، أنا لا أوجد بأي شكل.
- على العكس، يا ملاكي! ما أكثرك حياة، بجمالك وألوانك وحزنك! حتى حزنك جميل، أجمل شيء في العالم. أنا لا أصاب بالزهق أبدًا قرب حزنك. أحبك كثيرًا في فرحك وأكثر عندما تبكين. أنا...
- أنا أرفض أن تحب هكذا كل ما هو أنا، وكل ما هو مني! الآن، عد إلى امرأتك.
حاولتِ الابتسام.
- سأموت إذا ما ابتعدتُ عنكِ.
- أنا كذلك، يا جول... وها أنا في حضرة الموت، منذ أن فهمت أنك ستتركني. لقد بدأ موتي، وأنا أموت أكفر عن ذنب إبعادي إياك عن زوجتك وعني، وأكفر عن كل ذنوبي.
- إذا متِ، فقدتُ كل شيء، يا مارغريت.
- حقًا، يا جول؟
- نعم، كل شيء. الحياة من بعدك لن يكون لها معنى، الحب مسيخ الطعم، العشاق ظلالاً. سيكونون شفاهًا تقبل دون لّذة، أياديَ تتقارب دون حرارة، أجسادًا تنام دون أن تشعل الليل، دون شوق. سيكون العالم أجمع أكبر صحراء!
- لماذا لا تتركني، يا حبي؟ فلتتركني!
بعد آلاف الترددات والغثيانات، ضمها بقوة كبيرة، وعيناه مغرورقتان بالدموع، وهو يحاول إقناع نفسه أن هذا لا يمكن أن يكون.


يتبع القسم الثالث4 وأخير