مدام ميرابيل القسم الثالث2


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4809 - 2015 / 5 / 17 - 12:16
المحور: الادب والفن     

أقوى حب لما يحب الحب!
في صباح الغد، لم يكن جول هناك عندما استيقظت مارغريت. أعلمها رشيد أنه غادر المنزل باكرًا ليتكلم مع العمال، فلم تهتم بما يفعل مع غيرها، كان كل اهتمامها ينصب على ما يفعله معها. رأت فيه رؤيتها لعظام العشاق، ولها عظام العشاق هم عظام الكون، ومن هذه الناحية كان إعجابها، فالتقدير لم يكن مطروحًا في فراش الحب، لم يكن مطروحًا على الإطلاق، كان الإعجاب، ومن الإعجاب تُولد كل الآمال، فلنقل، كل الأوهام، عند غياب الاقتناع بما نفعل غير ما نفعل في مملكة الهوى. لم تكن تريد شيئًا آخر غير مسؤولية حبها تجاه حبها، ووجودها تجاه وجودها، وقد غدا حبها الوجود. أرادت اللحاق به، الإيغال في درب النقيصة، فكل شيء غير الحب نقيصة، رذيلة، عيب الحياة، لتصل إلى عتبة الكمال. لكن رشيد أقنعها بألا تفعل، فالوضع حرج للغاية، وعلى جول أن يجد حلاً ليتحاشى الإضراب.
- ثم على مدام أن تستعيد قواها، لم تتناول شيئًا مدام منذ ظهر أمس.
- وليست لي رغبة في تناول طعام الفطور.
- هذا ما ليس جيدًا. مدام ستنحف، وستقع مريضة.
- أريد جول قربي، أريده أن يأتي.
تأثر رشيد، ونظر طويلاً باتجاه غرفة السيد هنري:
- أعرف ما يعني بُعْد شخص غالٍ... لكن الأقسى من كل شيء عندما يكون قربك وبعيدًا في الفكر عنك. سأتلفن للسيد جول، وأقول له أن يسرع بالحضور.
- قل له أن يختار بين العمال وبيني.
- تحت أمر مدام.
الاختيار اختار! لم تمكث مارغريت في مكان، ذهبت من نافذتها إلى الصالون، ومن الصالون إلى الحديقة... قادها السائق إلى المركّب، وبرزت لجول في قاعة الاجتماع. قادها إلى حجرة ملحقة، فقبلته بهيام، وقالت له إنها تمرض بعيدًا عنه، وهي تريد أن يعود إلى البيت معها. أكد لها نفس ما تشعر به، ووعد بحل المشكل بأسرع ما يمكن، وباللحاق بها حالاً بعد ذلك، شارع فوش.
عادت إلى البيت، وبقيت تقف وراء الستار، وهي تنظر إلى الضباب، وهي تشعر بنفسها جريحة، مهانة، مخيبة، مكبوتة، محرومة. سقط الليل، وهي تنتظر، فأحست بالاختناق. أتاها رشيد بكأس ماء، وأخذ يحكي لها عن الأرباح الاستثنائية والفائضة لمشروع تغطية نهر السين الذي بدأ تنفيذه، عن بيع الشقق، عن أزمة السكن...
كانت على استعداد لتعطي كل ما يطلب منها مقابل أن ينصرف تاركها مع خيال حبيبها، لكنه بقي هناك يثرثر إلى ما لا نهاية...
- اسمع، اذهب وحدث هنري، أنا مشغولة البال، وأشعر بالعياء.
- هذا لأن مدام لم تأكل شيئًا منذ ظهر أمس، وموسيو هنري...
سكت، وهو يشير إلى غرفة السيد هنري محزنًا:
- موسيو هنري يغلق الباب على نفسه، ولم يعد يريد أن يرى أحدًا...
- إذن اذهب وحدث آنييس واتركني بسلام!
خرج رشيد بصمت، وهو يتراجع القهقرى، فعادت تنظر من النافذة، والعالم تبتلعه أجنحة الليل والضباب. تأخر جول، فاستبد بها الخوف. طلبت المركّب، ليقولوا لها إنه مشغول، إنه لن يعود إلى البيت قريبًا. قرر العمال مواصلة الإضراب رغم كل شيء، فالأوضاع ليست مؤاتية، وما حقق السيد جول من تقدم... لم يكن يهمها كل هذا لا من بعيد ولا من قريب، لم يكن يهمها سوى أن يكون جول قربها. فتحت النافذة، فتسلل الضباب، وجعل من كل المنزل عشًا ضخمًا أبيض، وهي، تحولت إلى جناح أسود. أين سحرها اللايقهر؟ فتك سحرها بسحرها، وبدا لها ظل جول، باسمًا، في الضباب والموت: كان يهوذا الذي اختبأ خلف جذع شجرة. جول... أوه! جول. تمنت لو يترك العالم، ويأتيها. لمعت عينا يهوذا من وراء جذع الشجرة، ثم عيون أخرى كثيرة من وراء كل جذوع الأشجار، فألقت بنفسها من النافذة. سارع يهوذا إلى مساعدتها، وهي غائبة عن الوعي، بذراع مكسورة. حملها حتى المدخل، رن، واختفى بين الأشجار، دون أن يأبه بنداءات آنييس التي رأته من نافذتها.
هرع جول إليها أول ما سمع الخبر:
- لقد تأخرت، يا حبيبي! كان عليّ أن أقتل نفسي لتأتي؟
- آه، يا حبيبتي! ماذا سأفعل دونك؟
- ستجد أخرى، ولكن لماذا أقول ستجد وأنت سبق لك ووجدتها بفضل الإسبِرانتو!
- أنا لن أجد أبدًا واحدة مثلك.
- هل تحبني؟
- طبعًا أحبك، يا مارغريت.
- بأية لغة؟
- بلغة لا يعرفها أحد بالجُودة التي تعرفينها، والتي نحن أصحابها الوحيدين.
أخذت تصرخ من الألم، وهو يصرخ معها، تبكي، وهو يبكي معها.
- لغة الحب هي صراخ الألم، لا شيء غيره، فاجعلي حبك يؤلمني.
عانقها عناق الجنون، وهو يصرخ من الألم بسعادة. ضمته، وهي تحس بذراعها وقد برئت، بنفس قوة الأخرى.
في الغد، لم يذهب جول إلى المركّب الصناعي، بقي قرب مارغريت ليعتني بذراعها. نظف جسدها، وعطره، ووضع لها رافعة نهدين من الحرير الأبيض. داعب بيده بطنها، صدرها، عنقها، وقبّلها.
- اختر لي فستانًا، من فضلك.
- هل هذا ضروري؟ أفضل أن أراك هكذا.
- أريد الخروج معك.
- في هذه الحال؟ لم تبرأ ذراعك بعد، وأنت ترفضين رؤية طبيب. أستطيع أن أنادي طبيبًا، هل أناديه؟
- لا... لم أعد أريد البقاء في هذا البيت. ما أحتاج إليه، أن أغادره دون رجعة.
- للذهاب إلى أين؟
- إلى أي مكان. أسافر، أذهب بعيدًا جدًا. آه!... لكن أنت، لا تستطيع المجيء معي، لك الأخرى.
- أية أخرى؟
- امرأتك.
- أنت امرأتي.
- هذا لطف منك، يا جول. أنت تعلم جيدًا أنني لست امرأتك...
- أنت أكثر من امرأتي، أنت حبيبتي.
- هي أيضًا حبيبتك!
- أنت حبيبتي، وأنت الوحيدة. أنت من أحب ومن أعبد!
طوقته بذراعها السليمة، وحضنته طويلاً.
- سأختار لك فستانًا، قال بين قُبلتين، بشرط ألا نخرج إلا إلى الحديقة، بانتظار أن تبرأ ذراعك.
فتح الخزانة والفساتين المعلقة بالعشرات، واختار الفستان الأزرق المخضر.
- إنه أجمل فساتينك، يا مارغريت. إنه رائع.
أذهلها الاختيار... منذ زمن طويل لم تفكر فيّ، أنا دافيد، وها هو الماضي يعود إليها بقوة، أو، بالأحرى، لم يعد، كان يتشرش في كيانها كجذور الظلام.
- لا، أرجوك... كل الفساتين إلا هذا.
- لماذا؟ إنه جميل... أريدك أن ترتديه، هلا ارتديته؟
ساعدها في ارتدائه، فخلعته دفعة واحدة.
- إنه خشن، وهو يوجعني.
لم يفهم، ضمها بين ذراعيه، وحاول تهدئتها. في الأخير، لازمت الفراش، وطلبت إليه أن ينام قربها. بقيا ممددين هكذا، ساكنين، حتى سقوط الليل، لما قرع رشيد الباب:
- انقطعت المفاوضات، يا موسيو جول، بسبب غيابك، ولم يعد أحد يعلم متى سيتوقف الإضراب.
لم يجبه جول، كانت مارغريت تنام، فخفض رشيد صوته:
- هل أنادي طبيبًا؟
- لا، هي ترفض.
- إذن سأحضر لها العشاء، لها ولك.
- سأنتظر استيقاظها.
تدخلت دون أن تفتح عينيها:
- أنا لا أنام، أنا لست جائعة.
- لا تريدين الطبيب، ولا تريدين الأكل، كيف تريدين الشفاء؟ قال جول.
- لا أريد الشفاء، أريد الحب.
طأطأ رشيد رأسه، وامحى.
تناولت يده، وضغطتها على ذراعها المكسورة، وهي تصرخ من الألم، وجول يمتنع عن معارضتها. زلق بذراعه عَبْر مَسْنَد السرير، ولواها بكل قواه، وأخذ يصرخ معها.


يتبع القسم الثالث3